شُبَّابَة
 

عبده سعيد قاسم

انطفأت ذاكرة التاريخ، مات صاحبها العجوز المتقد بعنفوان الشباب وحكمة الفلاسفة ورصانة الأنبياء وكارزمية الزعماء، مات الصحفي العملاق الأستاذ محمد حسنين هيكل، وانكسر القلم الذي قدم لنا أهم مراحل التاريخ العربي على طبق من ورق. 
لم يكن مجرد شاهد فقط على أحداث تلك المرحلة الزاخرة بعواصف الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، بل غاص في أعماقها، وكان جزءاً من ماكينة إنتاجها بحكم قربه والتصاقه بمركز القرار في مصر التي مثلت في تلك المراحل مركز التأثير الرئيسي على سير الأحداث في الشرق الأوسط، ومثلت الباب الرئيسي أيضا لاستقبال المؤثرات العالمية بمختلف ألوانها ومراميها وأهدافها، وتحكمت في منطق القبول والرفض لتلك المؤثرات.
لذلك لم ينقل هيكل تفاصيلها كصحفي نشيط مثابر يكتفي بسرد الوقائع، بل سكبها في ذهن القارئ كتفاصيل دقيقة مرتبطة النتائج بالأسباب والمؤثرات ودواعي الحدوث الموضوعية والذاتية، مشفوعة بتحليله المنطقي، وبلغته العميقة الشيقة أو حتى بصوته المتدفق الممتد من ساحة ذلك الزمن وأحداثه حتى سكوته الأبدي اليوم بلغة شاعر وبمنطق سياسي حصيف وبرؤى فيلسوف حكيم قدم لنا الأحداث التي عاصرها مربوطة بوشائجها التاريخية كأحداث ناتجة عن أحداث، ونتائج صنعتها أسباب، ووجهت مساراتها مؤثرات مبنية على مصالح شعوب وحكام. 
كما أنه وبمنطقه العميق لم يغفل أهمية الجغرافيا في نشوء الصراع واندلاع الحروب، بل اعتبرها أهم محركات التصادم، ومصدراً مهماً لنوازع السيطرة والنفوذ، فالجغرافيا هي وعاء المصالح ومخزن الثروات وساحة العروش.
إن هذا العملاق الذي وقف قلبه التسعيني اليوم عن النبض، لم يدع حياته تذهب هدراً، ولم يستسلم لتقلبات المراحل، أو يعتبر أن دوره انتهى برحيل الزعيم جمال عبدالناصر، بل ظل يراقب الأحداث ويغوص في أمواجها ليترك لنا تلالا من الكتب التي تختزن في طواياها ما ينفي عن الأجيال الراهنة والقادمة معنى الاغتراب عن التاريخ. إنه حقاً أحد العمالقة الذين لايموت حضورهم برحيلهم.. رحمه الله.

أترك تعليقاً

التعليقات