مدنية تعز
 

عبده سعيد قاسم

هل كانت المدنية مشروعاً أصيلاً في الوعي التعزي، يمتلك أدواته الأصيلة وعمقه الاجتماعي، أم أنه مجرد تأثر سطحي انفعالي أنتجته عوامل احتكاك أبناء تعز بمظاهر الوجود الاستعماري في عدن، وانبهارهم بالقيم العصرية والمعرفية لذلك الوجود البريطاني في عدن، وكذلك اغتراب كثير من أبناء تعز في بعض من البلدان الأخرى، وبالذات من أبناء الحجرية، والذين قادوا المشروع المعرفي التعزي من الخمسينيات وما تلاها من السنين؟
إن الحقائق الماثلة اليوم ومحطة الصراع القائم تؤكد أن المدنية لم تكن مشروعاً أصيلاً في الوعي التعزي، وإلا لكان نأى بتعز عن الوقوع في هاوية هذا الصراع. وحتى لو افترضنا أنه لم يكن أمام تعز بد من خوض غمار هذا الصراع أو الاصطفاف ضد العدوان الخليجي، لكانت احتفظت بجوهر مشروعها وقيمه، واعتبرته سلاحها الحاسم في هذا الصراع.
لو كانت المدنية مشروعاً أصيلاً لما تهاوى أمام هذا الاختبار التاريخي، ولكانت تعز ظلت تقتفي خطى المناضل الثوري عبدالقادر سعيد أحمد، ووطنية عبدالفتاح إسماعيل وسلطان أحمد عمر، وحكمة أحمد النعمان، وشجاعة الشهيد الشيخ أحمد سيف الشرجبي، ومدنية أحمد عبده سعيد وعبده نعمان عطا، ولم تنجرف خلف صبيانية غزوان المخلافي، وجنون الفصائل الدينية المتطرفة المسلحة.
لو أن مدنية تعز كانت مشروعاً أصيلاً لما أسلمت قيادها لمجموعات لصوصية أعلى سقف طموحها يتمثل في كسر أقفال منازل النازحين ونهب محتوياتها.
تعز محت من تاريخها أبرز أسماء صناع تاريخها الحضاري المعرفي المشرق، واستبدلتهم بمجموعة من عصابات قتل ونهب ومتاجرة بالدم والسيادة الوطنية. لم تصمد مدنية تعز أمام هذا الاختبار، بل سقطت بحدة، وكل الشعارات التي نسمعها عن مدنية تعز والتغني بها مجرد اجترار لماضٍ كان يجب أن ينتج سيرورته وتجذره في الوعي الوطني، وألا تتأثر صلابته بعوامل التعرية السياسية الطارئة التي ستخضع في النهاية للمتغيرات والتسويات.
إنه من المؤسف جداً أن تدفع تعز كل هذه الأثمان الفادحة في معركة هي بالأصل ضد مشروعها المدني المزعوم. هل كانت تعز كمجتمع تحمل راية المشروع المدني، أم أنها كانت مجرد مساحة جغرافية لأحزاب سياسية تزايد بشعارات المدنية والكفاح اليساري، وجرفتها رياح المتغيرات السياسية، وجرفت تعز معها؟!
لا أمتلك الإجابة الحاسمة لهذه الأسئلة، لكني حاولت أن أستند على مجريات الراهن، وأجزم أن مدنية تعز التي كنا نراهن عليها، كانت مجرد تأثر انفعالي بموجات المد السياسي الثوري اليساري الخادع، وناتجة عن احتكاك أبناء تعز بمظاهر الحياة الاستعمارية البريطانية في عدن، وهجرة بعض أبناء تعز إلى بلدان أخرى، وتأثرهم الانفعالي بمظاهر الحياة فيها، لأن المشروع الأصيل المتجذر في ثقافة ووعي أي مجتمع لا ينكسر أمام المتغيرات العرضية، بل يحتفظ بجوهره، ويتصالب أمام المتغيرات، ويكتسب أبعاداً جديدة تزيده عمقاً وأصالة.

أترك تعليقاً

التعليقات