الإمام يحيى: الانتماء والتجذر
 

محمد ناجي أحمد

حَكَم الأئمة في اليمن بحسب المسلمات المدرسية أكثر من 1200 سنة. وفي كل هذه القرون يتم وصفهم بالوافدين على اليمن، وتحميلهم كل أوزار التخلف والاستبداد. وعند القراءة المتأنية للتاريخ سنجد أن حكمهم يمتد وينكمش في صراع دائم مع الدول التي حكمت في اليمن. فحيناً الدولة الزيادية، التابعة للخلافة العباسية في بغداد، وحيناً النجاحيون، الذين كانوا ضمن جيش بني زياد، ثم استقلوا بالحكم في زبيد، ثم الصليحيون كدعاة للخليفة الفاطمي في مصر، ثم الأيوبيون، وخرج من معطفهم بنو رسول، كتابعين للمماليك، وجاءت حركة علي بن الفضل كامتداد للإسماعيلية في الشام، واستقلت بذاتها كحركة اجتماعية فلاحية، إلخ.  
كل تلك الدويلات تلاشت، لكن الزيدية في اليمن استمرت منذ القرن الثالث الهجري وحتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م.
بقاء حكم الأئمة في اليمن طيلة هذه القرون ليس له من تفسير سوى ما قاله سلطان أحمد عمر في كتابه (نظرة في تطور المجتمع اليمني) الذي ألفه أواخر الستينيات، وهو أن كل الدويلات التي حكمت في اليمن كان ولاؤها لبغداد أو القاهرة، وكان انتماء الأئمة لليمن.
عمل الإمام يحيى حميد الدين بعد خروج الأتراك من اليمن عام 1918م بسبب هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، على الدخول إلى صنعاء، والبدء في التحرك نحو المناطق الوسطى وتعز، والضالع، والبيضاء، والحديدة، وحاشد وبكيل، والجوف، ومأرب، إلخ، لتكوين اليمن بصورته التي عُرفت باسم (المملكة المتوكلية اليمنية)، وعند التكوين كان الصدام مع الحركات والنزعات المناطقية والجهوية، ابتداء من إفشاله للتحركات التي قادها مشائخ تعز وحبيش والعدين وصبر، وجبل حبشي، والحجرية، ومواجهته لتمرد المقاطرة عام 1920، وإسقاطها لتصبح ضمن الدولة المتوكلية، ووصولاً إلى تمرد حاشد وبكيل والبيضاء والجوف ومأرب.
لقد دأب المؤرخون المتأخرون في اليمن على وصف كل تمرد وانتفاضة ضد المملكة المتوكلية بـ(الثورات المعارضة للحكم الكهنوتي)، مع أن المملكة المتوكلية كانت في طور نشأتها! وتلك التمردات والانتفاضات كانت في عقد العشرينيات وبداية الثلاثينيات، بل كان تمرد مشائخ إب وتعز والعدين وحبيش، وصبر، وجبل حبشي، والمخا، والحجرية، في بداية خروج العثمانيين من اليمن، أي عام 1918م! حين اجتمعوا في (مؤتمر العماقي) بالجند، والذي فشل بسبب التنازع على المنافع والمصالح الضيقة، التي لا تتسع لوطن وكيان حمل لواء تكوينه الإمام يحيى حميد الدين. كان الصراع بين هوية جامعة لليمن، وبين هويات مناطقية تأكل بعضها فيجرفها التاريخ، ويذرها قاعاً صفصفاً!
لقد اعتبر هؤلاء المؤرخون تحرك الإمام يحيى باتجاه المناطق الوسطى، وتعز والحديدة، على أنه ضم وإلحاق لسلطة (كهنوتية) بحسب وصفهم، وليس تكويناً لليمن الحديث كهوية جامعة. لذلك وقفوا بكتاباتهم مع كل تمرد، ووصفوه بأنه (ثورة ضد الحكم الكهنوتي)!
لقد عمل الإمام يحيى على إعادة بناء التقسيم الإداري، الذي كان على رأسه شيخ القبيلة، وقانونه (العرف والطاغوت)، وذلك بأن جعل رأس الهرم الإداري يبدأ بنواب الإمام، أمراء الألوية (لواء إب، صنعاء، تعز، الحديدة، ولواء الشام)، وفي كل لواء قائد للجيش، وكتيبة تابعة لكل عامل، وقد حرص الإمام يحيى على أن يكون عدد الجنود التابعين للعامل قليلاً حتى لا يعطي الفرصة للانقسامات، ولكي لا تبنى مراكز قوى يمكن أن تهدد كيان الدولة والحكم. وجعل سلطة المشائخ والعقال مرتبطة بعامل الناحية، من حيث التعيين والمسؤولية. وبهذا سلب المشائخ سلطتهم الإدارية والقضائية، فالشيخ كان يسيطر على القبيلة إدارياً وقضائياً، فصارت سلطته بيد عامل الناحية. كل ذلك حتى يصبح الولاء للدولة لا للقبيلة (للحكومة لا للطاغوت)، وهو ما جعل مشائخ القبائل ينتفضون في أكثر من مكان، بل كان أساس تمردهم هو فقدانهم سلطتهم. بل إن توريث النساء، والحكم بالشرع لا بطاغوت القبيلة، كان من عوامل التمرد في حاشد وبكيل.
البقية ص 4

أترك تعليقاً

التعليقات