الفنان أبو نصار صوت الوطن المعذب (2-2)
 

عبده سعيد قاسم

لأن الفنان الراحل أبو نصار اختار أن يسلك بفنه طريقاً مناهضة لمنظومة الحكم بعد قيام جمهورية ٦٢ وما تلاها من سلطات حكم أنتجتها الصراعات على السلطة، فلم يكن مرحباً به في الأروقة والدهاليز الحكومية المتخصصة بصناعة النجوم وتلميع خدمة السلطة، لذلك نجد أن مصادر المعلومات عن هذا الفنان شحيحة ونادرة، فلم نجد إلا سطوراً قليلة في (ويكيبيديا) لا تكفي لإشباع تطلعات الباحث عن سيرته، فهو وكما تحكيه تلك السطور اليتيمة تعرض للسجن بعد الثورة، مما اضطره بعد إطلاق سراحه للحاق بأسرته في منطقة رازح ثم في مدينة صعدة، وبعدها شد الرحال مكرهاً إلى السعودية، وأقام في مدينة الطائف حتى عودته إلى اليمن عام ٩٤ بتوجيه من الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وبشرط أن يتوقف عن الأغاني السياسية. 
وتوقف، لكنه كان قد غنى لسنوات طويلة في منفاه، وقال في فساد الحكم ما لم يقله معظم السياسيين وحملة الأقلام. 
ومثلما تناقلت الأوساط الشعبية تلك الخاطرة الغنائية الشهيرة:
(طلعت حسن يا أحمد السلامي 
 الكهرباء قاحرقت عظامي)
كتعبير عن التذمر من ممارسة الأجهزة الأمنية للقمع والتعذيب، سواء تحت سيطرة القوات المصرية التي أشار صاحب الخاطرة لها بـ(طلعت حسن)، أو بعد رحيل تلك القوة التي كانت قد رسخت في ذهنية الأجهزة الأمنية اليمنية أساليب صلاح نصر بالقمع والتعذيب ليس ضد خصوم الثورة فقط، بل وضد من أسهموا بقيام الثورة وقلبت لهم ظهر المجن، ونكلت بهم، مثل الفقيد عبد الغني مطهر ومحمد الأسودي اللذين أعطيا للثورة كل ثرواتهما كونهما تاجرين، فكان جزاءهما السجن والنفي وسحب الجنسية اليمنية منهما. ليموت محمد الأسودي في منفاه في الحبشة غريباً، ويقبع عبدالغني مطهر سنوات في السجن وينفى خارج البلاد. 
وكما ردد الناس وتغنوا بـ(طلعت حسن يا أحمد السلامي... الكهرباء قاحرقت عظامي)، غنى الفلاحون والرعاة أيضاً في مختلف وديان وشعاب اليمن: 
(مسكين يا شعب ظل حاصلك يهدر 
قد ضيعتنا صروف الدهر وأقداره).
إن الفنان غير السياسي، والشاعر غير التاجر، وكما قال الأستاذ عباس الديلمي إن اليمنيين سيظلون يذكرون عبدالله عبدالوهاب نعمان وأيوب طارش إلى الأبد، ولن يذكروا المرحوم هائل سعيد أنعم إلا نادراً، فالشاعر والفنان يحتفظان بحضورهما في الحياة وفي الممات من خلال إبداعاتهما وبما حقناه في الوعي الشعبي من ملاحمهما.
وأبو نصار فنان ترسخ حضوره في الوجدان الشعبي بلغته الشعبية التلقائية البسيطة القريبة من البسطاء، والمعبرة عن طموحهم وأمانيهم وآلامهم، والمتماهية مع الذائقة الشعبية النقية، وبصوت يجسد حزن اليمني المعذب قبل الثورة وبعدها.. لم يقتصر إبداع أبو نصار على الأغاني ذات المحتوى السياسي فقط، بل إنه استلهم حميمية البيوت وتفاصيل العشق المتقدة عند ينابيع الماء تحت هجير الشمس القائظة، وغنى: 
(يا بنت يا بدوية يا أم العيون الكحيلة
يا شمس يا طالعة 
يا لابسة ثوبش الأخضر وراوي بنيله 
وأفصاصه اللامعة 
وقفي لي شوية واسمعي لي قليلة
قالت أنا سامعة)
فتجذر حضوره في حنايا العشاق وأسمار المدن وصباحات القرى المفعمة ببهجة المواسم وأنفاس مشاقر الريحان وموسيقى المطر. 
لقد اجتاز كل الموانع، وفسح لفنّه حيزاً واسعاً في الذائقة الجمعية، لأنه كان مخلصاً لوطنه وشعبه وفنه الجميل، ومثلما لم تنكسر إرادته وإخلاصه للفن أمام تزمت بعض أقطاب أسرته المتدينة الذين كانوا يعتبرون الغناء يورث صاحبه النقصان في الدين والدنيا، لم ينكسر أيضاً أمام وجع المنافي وأحزان الاغتراب القسري وتهم التخوين، بل ظل صوتاً يرعب الساسة، ويحلق بأفئدة العشاق في سماء الشوق وفضاءات الحب السرمدي الخالد حتى رحيله بعد إصابته بجلطة دماغية. 
رحمه الله..

أترك تعليقاً

التعليقات