شبابة
 

عبده سعيد قاسم

تتتابع الأيام وتنطوي تاركة في قلوبنا ثقوباً غائرة تنسل منها الذكريات، وتشدنا إلى باحات القرى التي شهدت مرح طفولتنا وعنفوان الشباب المزخرف بلواعج العشق وخيوط شروق الشمس التي تمتد كأنامل أم حنونة تداعب أغصان الروابي ونوافذ البيوت المشرعة لاستقبال يوم جديد مفعم بحيوية عشق الحياة المتقد في حنايا البشر الطيبين الذين يفترشون مشاعرهم النقية، ويتجاذبون أطراف الحكايات الغابرة المتشحة بأساطير وتهاويل نسجتها ذهنية القرى المتخمة بالخيال الجميل الشاسع المعشب بتفاصيل خلابة محزنة رغم ما تكتنزه من طرافة مضحكة حد البكاء، مثل حكاية (جُلِــيْد أبو حمار)، ذلك الفتى الذي أسقته زوجة أبيه صنوف العذاب والتنكيل، ولكنه انتصر على دسائس زوجة أبيه وعدم اكتراث المجتمع لبؤسه، تصير الحكايات زاداً للمعرفة الشعبية، خاصة عندما تتشابه مع ما لاقاه وعاشه أحدنا من ظروف مشابهة. 
وكذلك حكاية (وريقة الحنا) التي تحولت في السبعينيات الى مسلسل درامي جميل، وحكاية (بليبل) الذي خدع بناته الصغيرات عندما ذهب بهن إلى وادٍ بعيد بتحريض من زوجته، وتركهن في (ديمة) ينتظرن عودته بعد أن كذب عليهن أنه سيخرج لقضاء الحاجة، ويعود، وترك في سقف تلك الديمة إناء مشروخاً مملوءاً بالماء، وظللن يسمعن قطراته، ظانات أنه والدهن مايزال في القرب منهن، وعندما طال بهن الانتظار واستبد بهن القنوط من عودته في ليل الوادي الموحش، رددن تلك الأهزوجة الشهيرة الحزينة: 
(وابليبل كم لك تبول... أسقيت عنة ووادي السحول).
حكايات كثيرة وشيقة تتلوها النساء لصغارهن قبل النوم، وتعلق في الذاكرة، وتتوثب دائماً للحضور كلما زاد إحساسنا بالبعد عن تلك الأزمنة والأمكنة أيضاً، وتتصاعد من تلك الثقوب الغائرة في أعماق القلب كحمم بركانية تزيدنا احتراقاً وحنيناً إلى أزمنة مضت وأمكنة بعدنا عنها رغماً عنا، وتحت ضغوط الحاجة لتوفير ما يسد رمق الأبناء. 
لكننا نحمل كل ذرة من تراب تلك الربوع في حنايانا، ونلوذ بها كلما تجهمت الحياة في وجوهنا، ومن أطياف ذكراها نسترد ولو مجازاً ما افتقدناه من مراحل العمر المتخففة من ثقل الهموم ومواجع الدنيا، نسرح معها للحظات، نتسكع بصمت في ردهات ذلك الزمن الجميل، ثم نفيق ونعود إلى تعاستنا الكامنة في زوايا الروح والأمكنة، نسلم بالواقع، ونعيش مرارته، فلا أحد يستطيع استعادة الزمن وإعادة صياغته وفقاً لأحلامه وأمانيه.

أترك تعليقاً

التعليقات