احمد الحبيشي

فور قيام الجمهورية اليمنية تعرّض مشروع دستور دولة الوحدة لحملة تكفيرية شاركت فيها قوى سياسية ودينية ومشائخية وتكفيرية وكهنوتية مدعومة من الأوليغارشيات المسيطرة على السلطة والثروة في الشطر الشمالي من اليمن قبل وبعد الوحدة، وكان المعارضون للدستور يشبهون المتردية والنطيحة وما أكل السبع، لكنهم اتفقوا على تكفير الدستور والحزب الاشتراكي اليمني وتشويه علماء الزيدية الذين قالوا نعم لمشروع الدستور، وأصدروا بياناً دعوا فيه المواطنين والمواطنات الى المشاركة في الاستفتاء على مشروع الدستور والموافقة عليه.
رفع المعترضون على مشروع دستور دولة الوحدة شعاراً كهنوتياً مفاده (إن الحكم إلاّ لله)، وكانوا يرون في المادة الرابعة التي تقول إن الشعب هو مصدر السلطة ومالكها، افتئاتاً على حقوق الله في الحاكمية والتشريع!
كان الصراع يدور بين مشروعين أولهما يستهدف بناء دولة مدنية يحكمها الشعب عبر صندوق الانتخابات، والآخر يريد بناء دولة دينية كهنوتية تحكمها مراكز القوى العسكرية والمشائخية باسم الدين ورجال الدين.. وفي هذا السياق أصدر علماء الزيدية عام 1991 فتوى اجتهادية نشرتها صحيفة (الوحدة) الحكومية التي كنت رئيساً لتحريرها آنذاك، قرروا فيها أن الولاية العامة فضلاً عن الولايات الأخرى حق لجميع أفراد الشعب رجالاً ونساءً دون تمييز، وبالتالي لم تعد محصورة في فئة أو شريحة معينة، ولا يزالون على هذه الفتوى حتى الآن.
وفي عام 1992 أصدر علماء الزيدية بياناً آخر دعوا فيه الشعب اليمني رجالاً ونساءً الى الاستفتاء بنعم للدستور، ما يعني رفض الدولة الدينية الكهنوتية، وتأييد مشروع بناء الدولة على أساس مدني وفقاً لمضامين وأحكام الدستور المستفتى عليه في ذلك العام.
في مؤتمر الحوار الوطني طالب مكوِّن أنصار الله بصياغة محددات دستورية لهوية الدولة تعتمد الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع ــ بدلاً من مصدر وحيد ــ على نحو ما كان يتضمنه الدستور بعد الاستفتاء عليه من الشعب عام 1992، وصولاً الى تعديله بالقوة من قبل المنتصرين في حرب 1994 الذين لم يكتفوا بتعديل الدستور، بل قاموا بتعديل عدد كبير من القوانين ومناهج التعليم والثقافة والحياة الاجتماعية التي تم تعديلها انطلاقاً من رؤى أيديولوجية أُحادية وكهنوتية!
بالمقابل وقف التيار اليميني الانتهازي في الحزب الاشتراكي اليمني بقيادة ياسين نعمان، وبالتحالف مع اللوبي السعودي في مؤتمر الحوار الوطني، وبضمنهم الإخوان المسلمون والوهّابيون في حزب الإصلاح، ضد تعديل المواد (1ــ2ــ 3) ذات المضامين الدينية الكهنوتية في الدستور المعدّل، ورفضوا بكل عناد العودة الى تلك المواد المدنية في دستور دولة الوحدة الذي استفتي عليه الشعب عام 1992، وتم تعديله بالقوة بعد حرب 1994 العدوانية.
صحيح أن المؤتمر الشعبي العام كان تحت ضغط اللوبي السعودي في داخله، يميل الى تأكيد الهوية الدينية للدولة في مؤتمر الحوار الوطني انسجاماً مع مواقفه السابقة قبل وبعد حرب 1994، لكن الأمانة العلمية تقتضي القول إن كلاً من الدكتور عبدالكريم الإرياني والدكتور أبو بكر القربي والدكتور يحيى الشعيبي، كانوا يضغطون لقبول خيار الدولة المدنية.. الأمر الذي أحدث انقساماً واضطراباً في رؤية المؤتمر الشعبي العام لهوية الدولة، وقد كان هذا الاضطراب مقدمة لانقسام المؤتمر واستقالة الدكتور يحيى الشعيبي من حكومة باسندوة، وانسحابه تدريجياً من المشاركة الفاعلة في مؤتمر الحوار قبل سفره الى الخارج.
مما له دلالة أن الدكتور يحيى الشعيبي برّر استقالته من حكومة الوفاق الوطني بذريعة عدم وجود رؤية واضحة لمعالجة الأزمة.. وقد أوضح ذلك في تصريحات صحفية بعد الاستقالة.
في الحقيقة لم يكن السبب يكمن في الحكومة أو رئيسها، بل في عدم وجود رؤية واضحة وموحّدة للمؤتمر الشعبي العام كشريك في تلك الحكومة الفاشلة، خصوصاً بعد انحراف أداء بن دغر بصفته رئيس الهيئة الوزارية للمؤتمر الشعبي العام، وانشقاق مستشاري رئيس الجمهورية الانتقالي الذين يمثلون المؤتمر الشعبي العام.
صحيح أن الدكتور يحيى الشعيبي ترأس بعض جلسات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وكان رئيساً للجنة التوفيق، لكنه كان ولا يزال حتى الآن رغم خلافاتنا السياسية معه، يؤيد مشروع الدولة المدنية، ويعارض مشروع الدولة الدينية الكهنوتية الذي يميل إليه اللوبي السعودي في المؤتمر الشعبي العام.

الدين للأمّة وليس للدولة
شدّد مكوّن أنصار الله من خلال البروفيسور الشهيد أحمد عبدالرحمن شرف الدين، في مؤتمر الحوار الوطني، على حقيقة أن الدولة هي شخص معنوي اعتباري لا دين له، فالدين هو للأشخاص الطبيعيين الذين يتكوّن منهم الشعب.. وعليه فإن الدين للشعب والأمة وليس للدولة.. والدين الإسلامي يقوم على مذاهب محددة، ومن ثم يجب النصُّ على هوية الشعب الإسلامية بما يكفل الاعتبار لجميع المذاهب الإسلامية، وعلى وجه الخصوص المذاهب المتواجدة في اليمن.. بما في ذلك النصُّ على التزام الدولة باحترام هويّة الشعب في ما يصدر عنها من قوانين وتشريعات وتصرفات وتوجُّهات.
كما شدّد مكوِّن أنصار الله في مؤتمر الحوار الوطني على أنه إذا كانت هناك رغبة في الإبقاء على مضامين المواد الثلاث الأولى في الدستور المعدل بعد حرب 1994، والتي تتعلق بالهوية الدينية للدولة، فإنه يجب إعادة النظر في المواد الثلاث الأخرى (4 ــ 6) بما يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، كما يجب إعادة النظر في الأحكام الدستورية المتعلقة بسلطات الدولة الثلاث في هذا الاتجاه.
وإذا كان هناك إيمان حقيقي ببناء الدولة على أساس مدني وفق المواد الثلاث (4 ــ 5 ــ 6) التي تتبنى النظريات الديمقراطية المعاصرة وميثاق الأمم المتحدة والقوانين والمعاهدات الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي التزمت به المادة السادسة من الدستور، فيجب إعادة النظر في المواد (1 ــ 2 ــ 3) التي خضعت للتعديل بعد حرب 1994، وبضمنها المادة التي تنص على أن (الشريعة الإسلامية هي مصدر جميع التشريعات في الدولة).
وإذ يعود مُكوِّن أنصار الله في مؤتمر الحوار الوطني الى دستور الجمهورية اليمنية المعدّل بعد حرب 1994، يتبيّن أن الدستور المعدل قد حدد هوية الدولة في المواد (1ـ 2ـ 3).. التي تؤكد أن هوية الدولة دينية، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد لجميع التشريعات والقوانين.
وبتحليل هذه المواد وفق رؤية مكون أنصار الله في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، يتبيّن أن إعمالها وتفعيلها يتطلّبان ما يلي:
1/ بناء الدولة وسلطانها على أساس الشريعة الإسلامية فقط لا غير.
2/ خضوع الدستور وجميع التشريعات التي تصدر من الهيئات ذات الاختصاص بالتشريع، للشريعة الإسلامية التي اختلفت المذاهب والمراجع الفقهية والفكرية في تعريفها!
بيد أن واقع الحال في مواد الدستور يقول غير ذلك، فلا الدولة بُنيت على أساس الإسلام، ولا جميع التشريعات خضعت للشريعة الإسلامية فقط، وخصوصاً التشريع الدستوري!
وبوسعنا القول إن الدولة بُنيت على أساس حكم المادة 4 من الدستور، التي تنص على أن (الشعب مالك السلطة ومصدرها ويمارسها بشكل مباشر عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة، كما يزاولها بطريقة غير مباشرة عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية وعن طريق المجالس المحلية المنتخبة)، وعلى حكم المادة 5 التي تنص على أن (يقوم النظام السياسي للجمهورية على التعددية السياسية، ويلتزم بميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية التي تنص على التزام الدول الموقّعة عليها بتعديل القوانين المحلية وفق قواعد القانون الدولي المعترف بها بصورة عامة).
بمعنى أن المواد الثلاث الأخيرة هي التي تم الاعتماد عليها في وضع البناء القانوني للدولة وفقاً للأنظمة والقوانين الوضعية المعاصرة، وبالتالي تم القفز على أحكام الشريعة الإسلامية في فقهها السياسي كليةً، حيث تعرضت مضامين المواد الثلاث الأولى ذات العلاقة بهوية الدولة الدينية للتعويم، وأصبحت ميّتة، ذلك أن الفقه السياسي الإسلامي السُّنّي يبني الدولة على نمط آخر، بعيداً عن الأفكار والتشريعات الوضعية، وهذا النمط مُفصّل في كتب الفقه السياسي القديمة لجميع المذاهب الإسلامية، وبضمنها على سبيل المثال: كتب الأحكام السلطانية والولايات الدينية في الفقه الشافعي، للماوردي، وتحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة في الفقه الحنبلي، وهذان الكتابان من الكتب المتخصصة في هذا الباب، وهناك من المطوّلات الفقهية ما تناولت هذا الجانب، مثل الروضة للنووي، والمغني لابن قدامة وغيرهما، وفي هذه الكتب بيان للأدلة الفقهية التي تم الاستناد عليها، وفي مقدمتها سُنّة البخاري ومسلم وأحمد بن تيمية وما يُسمّى الإجماع!
والثابت أن القوى السياسية التي اشتركت في تعديل دستور الجمهورية اليمنية بعد حرب 94م والقوى السياسية الأخرى لا ترغب في إعمال أحكام الفقه السياسي بمذاهبه المختلفة وفقاً لما هو محدد في كتب الفقه الإسلامي التقليدي، ومالت الى بناء الدولة على أساس النظريات الديمقراطية الوضعية، وكان كل ما يهمها هو تمرير صفقة سياسية ضيّقة من خلال تعديل المادة التي تنص في الدستور المستفتى عليه من قبل الشعب عام 1992، على أن شكل رئاسة الدولة يتمثل في هيئة رئاسية من 5 أشخاص، بينما كان المؤتمر الشعبي العام يستخدم الجزرة والعصا لتضمين الدستور المعدّل مادة تنص على تفصيل شكل الرئاسة بمقاس رئيس جمهورية واحد لا غير!

كان مكوّن أنصار الله في مؤتمر الحوار الوطني يرى أن النص على هوية الدولة الدينية في الدستور المعدّل بعد حرب 1994، من شأنه أن يسمح بهيمنة مذهب معيّن وإقصاء مذاهب فقهية وفكرية أخرى، مع الأخذ بالاعتبار أن اليمن مجتمع تعددي مذهبياً وفقهياً وسياسياً وثقافياً.
والثابت أن الأدلة الشرعية والقانونية على ذلك تؤكد أن الإسلام هو دين الشعب أو دين الأمة (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).
وبهذا الصدد لا يجوز تجاهل حقيقة أن كلمة (داول ودولة) وردت في موضعين فقط بحسب الشهيد البروفيسور أحمد شرف الدين الذي ترأس مكون أنصار الله في مؤتمر الحوار الوطني الشامل.
• الموضع الأول: تلك الأيام نداولها بين الناس، وهذه الآية تتحدث عن التداول بين الناس كأشخاص طبيعيين وليس كأشخاص اعتباريين.. والدولة شخص اعتباري بحسب المادة 87 من القانون المدني اليمني، وبحسب معايير الفكر الدستوري العالمي المعاصر.
• الموضع الثاني: ينطلق من تحذير الله سبحانه تعالى (حتى لا تكون دولة بين الأغنياء منكم)، والمقصود رأس المال، وهنا يوجه الله خطابه القرآني نحو الناس، وليس نحو الدولة وحكامها.. لأن الدولة في القانون المدني اليمني تعتبر شخصية اعتبارية.. وهذا القانون ينص بوضوح في المادة 87 على أن الأشخاص الاعتباريين هم الدولة ــ المحافظات ــ المديريات ــ الهيئات الدستورية والمؤسسات الحكومية والشركات العامة والخاصة والمختلطة.. الخ.
بمعنى أن الدولة ومؤسساتها هي أشخاص اعتباريون بحسب رؤية مكون أنصار الله في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وليست شخصاً طبيعياً.

يتبع في العدد القادم

أترك تعليقاً

التعليقات