الماركسية والفكر الديني
 

احمد الحبيشي

أحمد الحبيشي / لا ميديا

تحتل قضية الدين مكانة هامة في السجال السياسي والفكري، حيث لا يزال البحث قائما حول هذه الإشكالية باختلاف المناهج المادية والمثالية والسياسية.
أما من وجهة النظر السياسية فيطرح السؤال حول دور الدين والفكر الديني  في تنظيم الحياة السياسية وفي علاقتهما  بمشروعية سلطة الدولة؛ بمعنى: هل هي مشروعية ثيوقراطية تستند إلى سلطة ما فوق بشرية، إلى الدين واللاهوت، أم هي مشروعية سياسية  ديمقراطية تستند إلى إرادة البشر واختياراتهم الحرة؟ 
عن هذين السؤالين قدمت الماركسية الإجابة الأكثر علمية والأكثر اتساقاً من حيث استنادها إلى المنهجية المادية الجدلية في مقاربة الظواهر والقضايا السياسية والاجتماعية المعقدة.
 وقبل أن نخوض في التصور الماركسي للدين والفكر الديني لا بد من التوقف أمام دواعي الانشغال بهذا الموضوع. وهذه الدواعي هي بنظرنا عديدة ومتنوعة، ولكن أهمها:  
أولاً: حالة الامتداد الشعبي لحركات الإسلام السياسي بنسخها المتغيرة بدءاً من الحركات الاخوانية التي وصل العديد منها إلى الحكم في البلدان العربية الإسلامية كمصر وتونس أثناء فوضى الربيع العبري،  وقبل ذلك وصولها إلى الحكم في السودان والمغرب، وهي حركات تعتمد أسلوب التمدد التدريجي والمناورة السياسية للتموقع وصولاً إلى الاستيلاء التدريجي على السلطة عبر التمكن من مفاصل المجتمع والدولة.
ثانياً: حركات الإسلام السياسي الراديكالية مثل "القاعدة" و"داعش"، التي تنتهج العنف والإرهاب كأسلوب مباشر للاستيلاء على السلطة وإقامة نظام الخلافة وتحكيم منظومة الشريعة الإسلامية. وتشترك هذه الحركات كلها في تبني مقولة "الإسلام هو الحل" واعتماد مقاربة قروسطية شمولية للسلطة تستند إلى فكرة الحاكمية وترمي إلى إقامة نظام الخلافة ولا تختلف فيما بينها إلا في أساليب الوصول إلى هذا الهدف الاستراتيجي الجامع بينها. 
ويعود انتعاش الظاهرة الإسلامية باستمرار إلى عدة أسباب متداخلة ذاتية وموضوعية يعتبر الرئيسي منها سقوط المعسكر السوفييتي في بداية تسعينيات القرن العشرين، وانتشار النموذج الرأسمالي الأحادي المرتكز على العولمة الرأسمالية وعلى الليبرالية المتوحشة. وقد أدى ذلك إلى تعميق الهوة بين الدول الإمبريالية والدول التابعة التي لم تجن سوى مزيد من التبعية والتفقير ونهب مقدراتها بعد أن انخرطت طوعاً أو كرهاً في السياسات الرأسمالية لليبرالية المتوحشة، وعملت بوصفات الإصلاح الهيكلي التي تسطرها وتشرف على تنفيذها المؤسسات المالية العالمية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
وقد أسهمت هذه التداعيات في تأجيج حالة الحنق والغبن لدى الفئات المهمشة وكل ضحايا النظام العالمي الجديد تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية، فوجدت في الحركات الدينية التي تنتعش في محاضن البؤس والفقر والتجهيل، الإطار الأمثل لتجسيد رفضها واحتجاجها على أوضاعها البائسة.
ما من شك في أن الدول الاستعمارية  الكبرى ساعدت الحركات المتغلفة بالدين على التواجد والانغراس وسط الجماهير البائسة، بهدف تشويه وعيها، واستقطابها إلى محاور وهمية، وجعل الصراع يتم على أسس عقائدية وطائفية بعيدا عن محور النضال ضد الاستعمار والظلم،  وبما من شأنه أن يبقي على مصالح الطغم الرأسمالية المالية والمصالح المحلية المرتبطة بها قائمة.
في هذا السياق سعت الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها قائدة النظام العالمي الجديد، عبر سياساتها الدولية والإقليمية، إلى تأجيج العواطف الدينية للمسلمين، من خلال تحويل صراعها ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان إلى صراع بين الإسلام والشيوعية، خدمة لأجنداتها ومصالحها. وهو ما أعطى حافزاً جديداً لانتعاش الحركات الأصولية في المجتمعات العربية الإسلامية.
 وقد رافق هذه السياسات الإمبريالية المعادية للشعوب تجنيد الأيديولوجيا الاستعمارية من أجل تشويه وعي الشعوب وحرفها عن محاور الصراع الحقيقية، من خلال نشر الأيديولوجيا التي تُبشٍّر بنهاية  التاريخ، وتحويل الصراع بين الإمبريالية والشعوب إلى "صدام" بين "الحضارات"، وبين العالم الحر والعالم المتخلف، مما مهّد لتأجيج من أجل خدمة الأطماع الاستعمارية الجديدة، وإضعاف المجتمعات وتفتيتها لإحكام السيطرة على مقدراتها وخيراتها وإبقائها في دائرة التخلف! 
كما ساعد على تمدد وانتشار مثل هذه الحركات عامل آخر هو انحسار وانحراف وانكشاف  النخب الحزبية اليسارية التي كانت  تمثل التعبير الطبقي لهذه الفئات، بسبب محاصرتها واحتوائها  من قبل الإمبريالية العالمية وعبر أنظمتها العميلة حتى تضمن إحكام قبضتها على الفئات الكادحة، وهي نفس السياسة التي توخّتها الأنظمة العميلة، حيث شجعت تنامي الظاهرة الأصولية لسد الطريق أمام الأحزاب الوطنية والقومية  الثورية، وفتح الباب على مصراعيه أمام الحركات السياسية التي تتاجر بعواطف الناس ومعتقداتهم الدينية، مما يسهم في تحويل غضب ورفض الفئات المهمشة والفقيرة التي لا تكف عن التوسع، إلى غير وجهته الحقيقية. 
ويتعلق الدافع الثاني بأسلوب التشويه والشعبوية التي تنتهجها الأحزاب الإسلاموية تجاه اليسار، من خلال اتهامه بالكفر والإلحاد، وهي تشويهات تشترك فيها مع الأحزاب اليمينية والحداثوية التي ترمي من وراء ذلك إلى عزل الأحزاب اليسارية في الدول العربية والإسلامية عن الطبقة العاملة والشعب، ووضع جدار معنوي يحول دون الوصول إلى الطبقات الكادحة لفضح أعدائها الحقيقيين. وقد أثبتت التجربة أن حركات الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة لا تتجاوز علاقتها بالدين نطاق التوظيف البراغماتي والتسويق التجاري الفج، وهي التي تنتهج برامج وسياسات أكثر وحشية من سياسات اليمين الحداثوي، الأمر الذي يفضح الجوهر الطبقي المعادي للشعب والوطن لأحزاب الإسلام السياسي رغم ما تلتحف به من رداء ديني.
والثابت أن تجربة الحكم التي خاضتها الحركات الإسلامية الفاشية، ممثلة في تنظيم داعش والحركات السلفية المرتبطة به، مثلت فرصة لكشف حقيقة هذه التنظيمات وطابعها الفاشي، من خلال ممارستها البربرية والوحشية عبر ممارسة الإرهاب والحرق والاغتيالات وسبي النساء  وغيرها من الممارسات الوحشية التي تنتمي إلى العصور المتوحشة، وهو ما من شأنه أن يقدم درساً إضافياً للشعوب العربية والإسلامية حول حقيقة هذه الحركات الفاشية المعادية للحرية رغم تسترها بالدين.
أما الدافع الثالث الذي يفسر انشغالنا بهذا الموضوع فيتعلق بالانحسار الكبير الذي يعرفه مفهوم العلمانية كقيمة فلسفية كونية وإنسانية وكإطار لخوض الصراع المدني والديمقراطي وحسم العلاقة بين الدين كشأن فردي عقائدي والسياسة كشأن مجتمعي وتعاقدي قائم على مبادئ الشراكة الوطنية والقبول بالآخر واحترام قيم العيش المشترك.
 إذاً لا معنى للديمقراطية والحداثة دون العلمانية كشرط ضروري للتقدم والتحرر الوطني والاجتماعي. كل هذه الخصال جعلت العلمانية دائما في مرمى سهام الرجعية والظلامية التي تزعم زوراً أنها تعني الإلحاد والكفر، وكذلك القوى السياسية الرثة التي أصبحت تتنصل من العلمانية وتقدمها على أنها مطلب غير واقعي لا يتماشى وخصوصية المجتمعات العربية الإسلامية، علاوة على اعتبارها حلاً ظرفياً خاصاً بدول أوروبا الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين ولم يعد صالحاً لهذا العصر، مما يفرض أقلمتها من أجل تواؤمها مع التطور والخصوصيات المحلية. وهي ادعاءات لا تمت للحقيقة الموضوعية بصلة، ذلك أن العلمانية لم تكن يوماً تعني الإلحاد أو معاداة الدين ومعتقدات البشر، بل هي حل موضوعي أفرزته التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمسألة النظرة إلى العالم ولمسألة تنظيم الحياة السياسية.
يقيناً أن العلمانية تعتبر أكبر ضمانة لاحترام الدين كعقيدة وكممارسة شعائرية، باعتبارها ترتكز على مبدأي حرية الضمير والمعتقد ومبدأ الحق في القيام بممارسة الشعائر والطقوس كشأن فردي دون تدخل من السلطات العمومية التي يجب أن تبقى محايدة تجاه كل المعتقدات والأديان والطوائف وتضمن الحق في التدين وممارسة القناعات المذهبية دون أن تنتهج الدولة عقيدة أيديولوجية أو دينية معينة. أما ادعاء أن العلمانية هي حل راديكالي متطرف يجب التخلي عنه والاكتفاء بمفاهيم أكثر مرونة كمدنية الدولة وديمقراطيتها فهو ادعاء يكشف ارتباك ونفاق القوى الاستعمارية الجديدة التي أضحت طبقة رجعية معادية للشعب وللتقدم وتخلت عن كل القيم التقدمية والإنسانية التي دافعت عنها زمن صعودها الثوري. 
أما بعد أن وصلت إلى السلطة فقد أصبح همها إحكام القبضة على الطبقات الكادحة وتغيير الاستغلال القديم باستغلال جديد،  فتنكرت لكل القيم الثورية بما في ذلك العلمانية نفسها، بعد أن أيقنت أن طريق العلمانية هو طريق ثوري عابر للطوائف، فأصبح شغلها الشاغل هو الانحراف بهذا الطريق بكل ما أوتي لها من وسائل حتى تحافظ على نظامها الاستغلالي وسلطتها الاستبدادية. 

أترك تعليقاً

التعليقات