الماركسية والفكر الديني 2-2
 

احمد الحبيشي

أحمـد الحبيشي

تأسيساً على ما تقدم يمكن القول بأنه لا معنى للديمقراطية والحداثة دون العلمانية كشرط ضروري للتقدم والتحرر الوطني والاجتماعي. كل هذه الخصال جعلت العلمانية دائماً في مرمى سهام النظم والقوى الرجعية والظلامية التي تزعم زوراً أنها (العلمانية) تعني الإلحاد والكفر، وكذلك النخب السياسية اليسارية المتكلسة التي أصبحت تتنصل من العلمانية وتقدمها على أنها مطلب غير واقعي لا يتماشى وخصوصية المجتمعات العربية الاسلامية، علاوة على اعتبارها حلاً ظرفياً خاصاً بدول أوروبا الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين ولم يعد صالحاً لهذا العصر، مما يفرض أقلمتها من أجل تواؤمها مع التطور والخصوصيات المحلية. وهي ادعاءات لا تمت للحقيقة الموضوعية بصلة.
 ذلك أن العلمانية لم تكن يوماً تعني الإلحاد أو معاداة الدين ومعتقدات البشر، بل هي حل موضوعي أفرزته التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإنجازات الفكرية لمسألة النظرة إلى العالم ولمسألة تنظيم الحياة السياسية وحقوق الأقليات الطائفية والمذاهب الدينية.
 في هذا السياق تعتبر العلمانية أكبر ضمانة لاحترام الدين كعقيدة وكممارسة شعائرية، باعتبارها ترتكز على مبادئ حرية الضمير والمعتقد والحق في القيام بممارسة الشعائر والطقوس كشأن فردي أو جماعي دون تدخل من السلطات العمومية، التي يجب أن تبقى محايدة تجاه كل المعتقدات والأديان والطوائف، وتضمن الحق في التدين وممارسة القناعات المذهبية دون أن تنتهج الدولة عقيدة أيديولوجية أو مذهبية دينية معينة.
أما الادعاء بأن العلمانية هي حل راديكالي متطرف يجب التخلي عنه والاكتفاء بمفاهيم أكثر مرونة، كمدنية الدولة وديمقراطيتها، فهو ادعاء يكشف ارتباك ونفاق القوى الاستعمارية والانتهازية الجديدة، التي أضحت طبقة رجعية معادية للشعوب وللتقدم الحضاري، بعد أن تخلت عن كل القيم التقدمية والإنسانية التي دافعت عنها زمن صعودها الثوري. أما بعد أن وصلت إلى السلطة فقد أصبح همها إحكام القبضة على الطبقات الكادحة وتغيير الاستغلال القديم باستغلال جديد، فتنكرت لكل القيم الثورية، بما في ذلك العلمانية نفسها، بعد أن أيقنت أن طريق العلمانية هو طريق ثوري عابر للطوائف، فأصبح شغلها الشاغل هو الانحراف بهذا الطريق بكل ما أوتي لها من وسائل، حتى تحافظ على نظامها الاستغلالي وسلطتها الاستبدادية. 
وقد ساهم هذا التواطؤ من قبل النخب الليبرالية العميلة في استغلال حركات الإسلام السياسي للإمكانيات الديمقراطية المتاحة، من أجل الانتشار والتمدد في الأوساط الشعبية، وانتهاج الأساليب الديموغاجية والدجل الديني في ظل تراجع الجهاز المفاهيمي العلماني الراديكالي والمتكامل الذي من شأنه وحده أن يفضح الطبيعة الاستبدادية والرجعية لهذه النخب المتكلسة. 
والحال أن كل هذه الدوافع تفرض على العقل السياسي الاهتمام بدراسة العلاقة بين الماركسية والفكر الديني، ولا يمكن تحقيق هذه المهمة بدون مقاربة موقف الماركسية من الدين. 
يمكن الإجابة على هذا السؤال من خلال المدخل الذي انطلقنا منه في مقدمة هذا المقال، فالماركسية نظرية فلسفية علمية تاريخية تمثل المنطلق الفلسفي والسياسي للعقل المعاصر في ظل الاكتشافات العلمية والمادية المتسارعة.
بمعنى أنها فلسفة مادية غير معادية للدين، ولكنها مادية جدلية تنطلق من الواقع من أجل تغييره، وتتبنى نظرة تاريخية متكاملة للعالم. أما سياسياً فهي تعتبر القيم الدينية المناهضة للظلم محددات داعمة للمعارك الملموسة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، والتي تعتبر الشرط الضروري لتخليص البشرية من كل أشكال الاستلاب الروحي والمادي. 
وتعتبر الماركسية الصيغة الأرقى والأكثر نضجاً للمادية التي أصبحت مادية جدلية، وتمكنت لذلك من الإجابة على كل الأسئلة التي طرحها عصرنا، بعد أن استفادت من إنجازات الاقتصاد السياسي الإنجليزي والفلسفة الفرنسية والاشتراكية الطوباوية للقرن الثامن عشر، كما أعادت تأسيس الجدل الهيغلي على الأرض ليصبح جدلاً مادياً. 
أما بخصوص الأسس التي تقوم عليها الفلسفة الماركسية فيمكن إجمالها في المبادئ التالية: 
1ـ العالم المادي موجود بشكل مستقل عن الوعي، بمعنى أن معرفة العالم ممكنة، والسيطرة على الطبيعة والإلمام بقوانينها أمر ممكن وفي مستطاع البشر، حتى ولو لم تكن معرفتهم بالعالم كاملة، فالعالم بالنسبة للمادية الجدلية لا توجد فيه أشياء يستحيل على الانسان معرفتها، بل كل ما هناك أن ثمة أشياء مازالت مجهولة بالنسبة للإنسان ولم يتوصل إلى فهمها وتفسيرها، وهو واصل لا محالة إلى اكتشافها بسلاح العقل والعلم والمعرفة والإيمان.
2ـ البشر جزء من الطبيعة، لكنهم يشكلون جزءاً متميزاً، باعتبار الإنسان الكائن الأكثر تطوراً من حيث قدرته على التفكير الذي هو نتاج للعقل الذي يتميز به عن الحيوان، وهو وليد تطوره الذي لعب فيه العمل الدور المحدد. وهذا التفكير يعكس التصورات التي يكونها الإنسان عن نفسه وعن واقعه تبعاً للظروف المادية التي يعيش فيها، وهو يتطور بتطور تلك الظروف. 
3ـ العالم المادي لا ينشأ من الفكر البشري، والعكس هو الصحيح. فالفكر البشري ينشأ من العالم المادي، وهو ما يعبر عنه ماركس حين كتب جملته الشهيرة: (ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم).
 وفي مقام آخر يعبر ماركس عن نفس الفكرة بقوله: (لا تستطيع الأحوال القانونية والأشكال السياسية أن تفسر نفسها بنفسها ولا عن طريق ما يدعي التطور العام للعقل البشري، إن أساسها بالعكس في ظروف الحياة المادية... في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم، حيث يدخلون في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية. ويشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه أي صرح قانوني وسياسي، وتتماشى معه أشكال اجتماعية متغيرة. فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية بوجه عام).
4ـ ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. فعندما تصل قوى المجتمع الإنتاجية المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع علاقات الانتاج القائمة، وبالتعبير القانوني مع قيم الملكية والعدالة والحرية ونظام الحكم وحقوق الإنسان التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجر معه تغييراً سريعاً بدرجة أكثر أو أقل لكل الصرح العلوي الهائل. وعند دراسة الانقلابات التي هي من هذا النوع، يجب دائماً التمييز بين التغيير المادي الذي يحدث في أحوال الإنتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة عالية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفلسفية، أو بكلمة واحدة الأشكال الأيديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل حسمه.
إذا لم يكن بالإمكان الحكم على فرد طبقاً لما يراه هو عن نفسه، فلن يكون في الإمكان الحكم على حقبة مشابهة من الثورة، وإنما بالعكس يجب تفسير هذا الوعي بمتناقضات الحياة المادية في أحشاء المجتمع القديم. وهذا هو السبب الذي من أجله لا تكلف البشرية نفسها إلا بمهام تستطيع تحقيقها.

أترك تعليقاً

التعليقات