هدم الروح تحطيم الذاكرة
 

محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا

تتخذ أسوار المدن القديمة شكلاً دائرياً؛ لضرورات الأمن والاقتصاد بالتكاليف، ولما للشكل البيضاوي من قدرة على تقديم زاوية المنظور الذي يتسع شاملاً جماليات الوجوه والأمكنة.
وهذا هو شأن سور مدينة الملوك "ثُعبات" والتي تنطق بضم الثاء وفتحها.
في الجهة الشمالية الغربية من السور كان يقف المسجد الجامع لثعبات، وأعلى منه مسجد صغير اسمه "المسجد الأحمر" أو "مسجد أحمر" بحسب النطق المتداول شعبياً.
المسجد الجامع لمدينة الملوك (ثعبات) نالته يد التدمير في النصف الأول من الثمانينيات، من خلال إحدى الجمعيات المتخصصة بمحو الذاكرة، لتبني بدلاً منه مسجداً وهابياً خصَّب المئات من الجهاديين الوهابيين، ومن الإخوان المسلمين، لتصبح ثعبات التي كانت ذات توجه يساري قلعة سلفية!
حين حذَّر ماكيافيللي في كتابه "الأمير" من سلب الآخرين ممتلكاتهم وذاكرتهم العمرانية، فلأنه أراد صالح الأمير؛ فالإنسان ينسى الدماء لكنه لا ينسى إرثه وممتلكاته وذاكرته العمرانية 
وعرضه، التي عمل العدوان والاحتلال على محوها، فهذه تظل محفورة في الذاكرة لا يمحوها تقادم الزمن.
هناك تلازم بين نشأة الوهابية وتدميرها للآثار ومساجد أهل العرفان. 
ومؤخراً تم هدم مسجد الشيخ "الفاز" بالساحل الغربي، في تهامة، من قبل قوات الغزو والاحتلال، وقبل ذلك تم تدمير قبة ومقام الشيخ عبد الهادي السودي بتعز، ومسجد آخر في صبر، وغيرها العشرات!
في كتاب "دراسات في تاريخ اليمن الإسلامي" -دراسة كتبها "ج. ر. سميث" بعنوان "معلومات عن تاريخ ثعبات وكتاباتها ومسكوكاتها" ترجمة: د. نهى صادق، وصادر عن المعهد الأمريكي للدراسات 2002م– وصف للمسجد الجامع بثُعبات، وتاريخ بنائه، واسم مؤسسه. 
فالجامع لم يُبْنَ في عهد الدولة الرسولية كما يذهب الظن، وإنما بُني في منتصف القرن التاسع عشر، فبحسب الكاتب "وأول مبنى ذو أهمية هو المسجد الجامع، وهو مبنى حجري مجصص، له قبة ومنارة، ويقال إن هذا الجامع يعود إلى عصر الإمام الزيدي المؤيد عبد الرحمن، الذي حكم اليمن فترة قصيرة في سنة 1266/ 1850م" (ص82).
ولأن الهدف من هدم المسجد الجامع بثعبات هو محو أي أثر لامتزاج التاريخ والمعمار اليمني، فقد كان قرار الهدم ومحو الذاكرة، وباقتلاع مسجد أثري متين في معماره وشكله، كي لا يقال إن هذا المعلم التاريخي بناه الإمام الزيدي المؤيد عباس بن عبد الرحمن.
عداء الوهابية ضد المعالم التاريخية، وكل ما يشير إلى الذاكرة أو الروح وأهل الأشواق والعرفان، عداء مواكب لنشأتها، وقد جاراهم بعض علماء اليمن، كالشوكاني، إذ يذكر في كتابه "البدر الطالع" (1-262) أن المتوكل ووالده المنصور من قبله، بل والشوكاني، كانوا يتلقون رسائل من الأمير سعود بالدعوة إلى "التوحيد وهدم القبور والقباب المرتفعة، ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها، وفي جهة ذمار وما يتصل بها...".
هي حرب البداوة التي لا ذاكرة لها ولا معالم، في مواجهة المدينة الملازمة للتاريخ وتداخل الأزمنة.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ المدينة، ولا تذكر البداوة إلاَّ على سبيل التهكم والسخرية، وضرب الأمثال على التوحش والبربرية. لهذا كانت المدينة دوماً تتخذ لنفسها سوراً مدوراً في مماثلة لبيضاوية الكون، لتحمي نفسها من همجية البدو، التي تعصف بالاستقرار والعمران، كذرات رمل تفتقد لناظم العقل فتطمر البنيان!

أترك تعليقاً

التعليقات