فؤاد علي الزريقي

فؤاد علي الزريقي / لا ميديا -

كانت كارثة كربلاء أكبر مصاب لآل البيت في تاريخهم الدامي، وساد عند أئمة آل البيت بعد هذه الكارثة مبدأ التقية، واتجه الأئمة إلى مناهضة الدولة فكرياً وعقائدياً، وتفرغ الأئمة للتهيئة الأيديولوجية، وعملوا على استقطاب الأنصار سراً، واستعداداً للمواجهة العملية في الظروف الملائمة لهم، وتغير مبدأ التقية من موقف تكتيكي الى مبدأ عقائدي عند الأئمة المتأخرين، وأول من أخذ بالتقية من أئمة آل البيت هو علي زين العابدين بن الحسين - والد زيد- الذي نجا من كارثة كربلاء، فترك السياسة وبايع يزيد بن معاوية، وتفرغ للعلم، ولكن اعتبره الشيعة الإمام الرابع. 

وكان زين العابدين زاهداً وعالماً جليلاً، وكان دائم الحزن والبكاء على قتلى آل البيت «وقد طبع زين العابدين التشيع عامة بالحزن المقيم». لقد اجتر الشيعة الذكريات الدائمة المؤلمة لآل البيت، وأضافوا إليها صوراً رائعة تهز الوجدان. يقول أحدهم العزيز بالله المتوفى في 286هـ:
عجيبــةٌ في الأيــام محنتُنـا
أولنـــا مبتـــلىً وآخــــرُنـــا
يفــــرح هــذا الــورى بعيــدِهمُ
جميعـــاً، وأعيــــادُنا مــآتمُنا
وأضحى البكاء على آل البيت، ولاسيما الحسين، تقليداً شيعياً حتى في الزمن المعاصر.
يقول أحد الشيعة المعاصرين: «إن الحزن على الحسين لهو العلامة الدالة لقوة الاحتمال، ألا يذرف الشيعي الدموع لأنه جعل من قلبه قبراً حياً ومثوى حقيقياً للإمام الشهيد الذي اجتزّت رأسه».
ونلاحظ أن الغلو لم يرتبط باسم زين العابدين، ولم يظهر في سلسلة الأئمة الغنوصيين، وكان يكره الغلو الذي أحيط به آل البيت، حتى إنه قال: «أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً».
وكان زين العابدين لا يؤمن بالعلم اللدني المتوارث، لأنه كان «يطلب العلم من كل شخص سواء أكان رفيعاً في أعين الناس، أم كان غير رفيع، مادام عنده علم ينتفع به».
وتولى الزعامة الروحية للشيعة بعد وفاة زين العابدين، ابنه محمد الباقر، المتوفى عام 119هـ. وكان الباقر أعظم عالم في آل البيت بعد علي بن أبي طالب، وأخذ كوالده بسياسة التقية، ولكنه كان عدو الغلو والغنوصيات، ورغم ابتعاده عن السياسة، مدح المختار لانتقامه من قتلة الحسين في كربلاء، وقد أدان الباقر كل الفرق الشيعية المتطرفة التي ظهرت في أيامه، حتى الكيسانية التي قادها المختار.
ولم يعرف عن الباقر طعنه في الشيخين، إذ يقول عن أبي بكر الصديق: «نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا والآخرة».
إن آراء زيد بن علي هي تطوير لآراء زين العابدين والباقر، فآراء زين العابدين والباقر وطموحاتهما ورغباتهما وحقدهما على بني أمية، هي الخلفية الثقافية والنفسية لزيد بن علي، فحياة زيد في الوسط الشيعي بوصفه من آل البيت، هي التي حددت آراءه في السياسة والإمامة «إنه ليس الوعي الذي يحدد الحياة، وإنما الحياة هي التي تحدد الوعي». وآراء زيد بن علي أكثر اعتدالاً عن آراء غيره من آل البيت، لتأثره بالمعتزلة، وقد صاغ آراءه كرد فعل للآراء التي تسللت الى الشيعة، ولا يمكن فهم آراء زيد بن علي حول «العصمة المهدية والرجعية البداء - العلم اللدني»، إلا بعد معرفة إحدى الفرق الشيعية المغالية المتأثرة بالغنوصيات، ولهذا سوف أتكلم عن الكيسانية باختصار، قبل دخولي في مناقشة حياة زيد، تمهيداً لمناقشة آرائه السياسية.
الكيسانية قاد حركتها ضد قتلة الحسين، المختار الثقفي الذي «قيل إنه أخذ مقالته عن مولى لعلي رضي الله عنه، وكان اسمه كيسان». وكانت الحركة في بدايتها عسكرية تسعى للقصاص من قتلة الحسين، ونجحت في ذلك.
وقد تبنت الحركة محمد بن الحنفية إماماً، وباركها، ولكنه أدانها بعد ما صُبغت بالصبغة الغنوصية.
ولقد اكتسبت الفرق الشيعية، ولاسيما الكيسانية، بعداً طبقياً، لأن قاعدتها العريضة، كانت من المستضعفين في الأرض، كما تجاوزت النزعة القومية الضيقة، يقول م. غودفروا: «فلما ارتبطت الشيعة بالعناصر المضطهدة تخلت عن تربة القومية العربية، وكانت حلقة الارتباط هي الإسلام». فالكيسانية كانت في الحقيقة أهم الفرق الشيعية تجسيداً لأفكار الغنوصية المتسللة إلى الشيعة على الصعيد الأيديولوجي، كما كانت أكثر الفرق الشيعية التي كان لها مضمون طبقي بتعبيرها عن طموح المستضعفين على الصعيد الحركي. وتعتقد الكيسانية أن الأئمة أربعة: علي، والحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية. يقول الشاعر: 
ألا إن الأئمة من قريش
ولاة الحق أربعة سواءُ
عليٌّ والثلاثة من بنيه
وهم أسباطُهُ والأوصياءُ
واعتقدت الكيسانية أن الإمام الرابع محمد بن الحنفية لم يمت، وهو المهدي الذي يرجع ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً، ويقول شاعرهم في هذا: 
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يتبعه اللواءُ
تَغَيَّبَ لا يرى عنهم زمانـــاً
برضوى عنده عسل ومـــاءُ 
ولكن مع هذا كانت الكيسانية ذات محتوى تقدمي بتعبيرها كحركة عن مصالح المستضعفين الكادحين اقتصادياً والمضطهدين قومياً. إن الكيسانية لم تكن فرقة شيعية ذات آراء غنوصية فقط، ولكنها كانت حركة ثورية ذات أبعاد طبقية ناضلت ضد النظام الأموي الأرستقراطي، وضد أشراف الكوفة معاً، تعبيراً عن مصالح الموالي، وكانت رافد الحركات الثورية التي أتت بعدها. وكان قائد الكيسانية زعيماً يتحسس آلام الموالي، وقد «كانت العناية بالمستضعفين نقطة رئيسة في برنامجه». وكان من أهم عوامل فشل هذه الحركة، هو تخلي أشراف الكوفة وقادة العصبية فيها عنها بسبب أخذها البعد الطبقي، إذ جعل المختار الموالي يشاركون سادتهم في الفيء، وقد خان أشراف الكوفة عقيدتهم الشيعية حفاظاً على مصالحهم الطبقية، واتحدوا مع آل الزبير المناهض لآل البيت، وقد قام الأشراف بحملة ديماغوجية تثير النزعة العرقية الشوفينية والسلالية، مما أدى ـ كما يقول فلهاوزن ـ إلى تخلي كثير «من الشيعة العرب الذين كانوا حتى في ذلك الوقت في صف المختار، إذ انفصلوا عنه وانحازوا إلى صفوف الأشراف».

زيد بن علي
ولد في سنة 80هـ، من أم سندية، توفي والده زين العابدين وعمره 14 سنة، فكفله أخوه محمد الباقر. تلقى العلم، فقهاً، سيرة، تفسيراً، قرآناً وحديثاً، على يد والده وأخيه الباقر، وغيرهما من كبار آل البيت الذين اتجهوا الى العلم وبعدوا عن السياسة بعد كارثة كربلاء، وبعد أن أخذ زيد من هؤلاء الأولويات من علوم ذلك العصر، لم يرضَ بالحياة الرتيبة المملة في المدينة، فزار الكوفة والبصرة، واحتك بعلمائهما ومفكريهما، وكانت البصرة آنذاك موطناً لتيارات فكرية جهمية، قدرية، شيعية، معتزلة، ودرس زيد الآراء المختلفة لهذه الفرق، مما جعله أحد كبار علماء عصره، يقول أبو حنيفة: «شاهدت زيداً بن علي فما رأيت في زمانه أفقه منه».

شخصيته
كان زيد، كما وصفه الفخر الرازي، من عظماء أهل البيت علماً وزهداً وورعاً وشجاعة وديناً وكرماً. 
قال أبو الجارود: «قدمت المدينة، فجعلت كلما سألت عن زيد بن علي قيل لي ذاك حليف القرآن».
وقال الأصفهاني: «كانت المرجئة وأهل النسك لا يعدلون بزيد أحداً».
لقد تأثر زيد بن علي بالمعتزلة وآرائهم، لأنه كان تلميذاً لواصل بن عطاء. يقول الشهرستاني: «أراد أن يحصّل الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم، فتتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء الغزل الألثغ رأس المعتزلة ورئيسهم».
وقال الكتبي: «قال ابن أبي الدم في الفرق الإسلامية، كان زيد قد آثر تحصيل علم الأصول، فتتلمذ لواصل بن عطاء رأس المعتزلة، فقرأ عليه، واقتبس منه علم الاعتزال، وصار زيد وجميع أصحابه معتزلة في المذهب والاعتقاد».
ولكن هناك من كتاب الشيعة الذين يرفضون أخذ أحد آل البيت علماً من خارج البيت العلوي «لأنهم علماء بالفطرة، وهم أساس العلوم». ولا يدعي هذا قدماء الشيعة فحسب، ولكن حتى المعاصرون منهم لا يخلون من هذا الادعاء، إذ يقول أحد مفكري الشيعة المعاصرين إن «الشيعة هم الذين أسسوا علم الكلام، وعلى أئمتهم تتلمذ علماء المعتزلة وغيرهم من الفرق الإسلامية». ولكن مؤرخي الفرق القدماء والباحثين المعاصرين - النشار، صبحي، عرفان عبد الحميد - يرون أن زيداً كان تلميذاً لواصل بن عطاء، ولكن يرى أبو زهرة أن التقاء زيد بواصل «كان التقاء المذاكرة عليه، وليس التقاء تلميذ يتلقى عن أستاذ، فإن السن متقاربة». ولكن التقارب في السن لا ينفي التأثر، والحقيقة أن أخذ الزيدية لأفكار المعتزلة هو الذي صبغ الزيدية بصبغة عقلية، وحصنها ضد الأفكار الغنوصية التي تأثرت بها كل الفرق الشيعية الأخرى.
وتعرض زيد لغضب الباقر وابنه الصادق لأخذه العلم عمن يجوز الخطأ منه على جده علي بن أبي طالب، في خلافه مع خصومه، ووقوف زيد بن علي إلى جانب واصل بن عطاء في خصومته الفكرية مع جعفر الصادق، دليل قاطع على تأثر زيد بواصل بن عطاء، لقد حدث أن ذهب الصادق مع أتباعه إلى واصل عند مجيئه إلى المدينة، وقال له: «إنك يا واصل أتيت بأمر يفرق الكلمة، وتطعن به على الأئمة، وأنا أدعوكم الى التوبة»، فرد عليه واصل: «وإنك يا جعفر وابن الأئمة شغلك حب الدنيا فأصبحت بها كلفاً». وتدخل زيد وقال لجعفر: «ما منعك من اتباعه إلا الحمد».

خروج زيد بن علي واستشهاده 
كان زيد يرى «أن الإمامة مسألة عملية لا سلبية، فيجب أن يقود الإمام شيعته في الكفاح دون إخفاء أو كتمان»، ويرفض منهج أبيه وأخيه الباقر اللذين يأخذان بسياسة التقية، ويكتفيان بالنقد للأمويين عند خاصة شيعتهم «ليس النقد هو القوة المحركة للتاريخ، للدين، للفلسفة، ولكل نظرية أخرى، بل الثورة». ويحث القرآن على الخروج لمحاربة الظالمين «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية...»، فالخروج يعد من المبادئ الأساسية عند الزيدية، يقول الأشعري: «والزيدية بأجمعها ترى السيف والعرض على أئمة الجور وإزالة الظلم وإقامة الحق»، ويقول ابن خلدون إن الزيدية «تشترط أن يكون الإمام منهم عالماً زاهداً، ورعاً، شجاعاً، داعياً الى إمامته». واعتناق الزيدية لمبدأ الخروج يظهر لنا تأثر زيد بالمعتزلة، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة يرتب على معتنقه الخروج.
ومع اعتناق زيد لمبدأ الخروج فقد أخطأ في تحديد الظروف الموضوعية الملائمة لخروجه، ولكن يرى أبو زهرة «أن زيداً لم يخرج لأنه كان يريد الخروج في ذلك الوقت، ويقصد إليه قصداً له فيه الإرادة الكاملة، ولكنه أحرج وأوذي في كرامته ومروءته». لقد ادعى والي الكوفة يوسف الثقفي بتحريض من الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان، أن عند زيد أموالاً للدولة أخذها من الوالي السابق للمدينة، واستدعي زيد إلى دمشق ومنها إلى الكوفة، وعرف الكوفيون كذب الادعاء والهدف منه، إذ كان يهدف الإساءة الأدبية لسمعة زيد، بوصفه أكبر شخصيات البيت العلوي بعد موت الباقر. ولما رأى والي الكوفة التفاف الشيعة حول زيد، طلب منه مغادرة الكوفة، فتظاهر زيد بالخروج من الكوفة، وسافر إلى خارجها، ولكنه عاد إليها سراً «ونما خبره إلى يوسف بن عمر الثقفي عامل الكوفة من قبل هشام بن عبد الملك، وخاف أهل الكوفة فاحتالوا في مناظرته ليتخلصوا بذلك من بيعته». ولم يقف مع زيد إلا 218 رجلاً، مع أن عدد من بايعوه كان يربو على 15,000، والسبب في موقف الشيعة من زيد وتخاذلهم عنه بعد مبايعتهم له، يعود إلى أن حركة زيد أخذت طابع الثورة الإسلامية ضد الظلم والدفاع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، ورد المظالم وأفعال الخير ونصرة أهل البيت، كما أنه رفض تكفير الشيخين، والطعن فيهما، إذ قال لشيعة الكوفة عندما طلبوا منه التبرؤ من الشيخين: «وغاية ما أقول أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس، فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك الكفر، وقد عدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة». وقد أدى ذلك إلى تبرؤ الشيعة منه، فسماهم الرافضة، يقول الشهرستاني: «ولما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة منه، وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين، رفضوه حتى أتى قدره عليه فسميت الرافضة»، ولكن زيداً رغم انفضاض شيعة الكوفة عنه، أصر على القتال، إذ قال: «أخاف أن يكونوا قد فعلوها حينية، والله لأقاتلن حتى أموت»، فقاتل بشجاعة مع قلة من المخلصين له، إلى أن أصيب بسهم فتوفي متأثراً بجراحه، ودفنه ابنه يحيى في ساقية، وردمها، ووضع عليها النبات، لكي لا يعلم أحد بمكانه، ولكن «علم به يوسف بن عمر فنبشه وصلبه»، فقال في ذلك أحد الشعراء الأمويين متشفياً: 
صـلبـنا لـكم زيداً على جـذع نــخــلــةٍ
ولم أرَ مهــدياً على الجــذع يصلــبُ
وبعد أن استمر صلبه في كناسة الكوفة «كتب هشام يأمر بأن يحرق، فحرق ونسف رماده في الفرات».
وإذا لخصنا بموضوعية أسباب فشل حركة زيد، فهي كما يلي: 
1 - عدم وقوف غلاة الشيعة معه.
2 -  انفضاض شيعة الصادق عنه لجعله الخروج شرطاً لاستحقاق الإمامة.
وهناك عامل مهم، وهو أن زيداً خرج على الدولة الأموية في وقت كانت الفتوحات الإسلامية في أوجها، وكان هناك من ثم رضا عامة الناس على هشام «وكانت الدولة الأموية موطدة الأركان»...

... يتبع

أترك تعليقاً

التعليقات