أحمد القصير

أحمد القصير / لا ميديا -

عن أسباب وعواقب الأزمة بين عبد الناصر والشيوعيين بلسان "أحمد القصير"، من كوادر "حدتو" والحركة الشيوعية في مصر. وبالرغم من إقراره بالمؤامرة التي دُبّرت ضد عبد الناصر من الشيوعيين في العراق وبقية الأحزاب الشيوعية في مصر، إلا أنه بالنتيجة يُحمِّل عبد الناصر جزءا من المسؤولية بدون أي استدلال منطقي. ورغم ذلك يبقى لشهادته أهمية هنا.

عن الإشكالية
شهدت الفترة التي أعقبت تأميم قناة السويس عام 1956 تعاونا بين حدتو وعبد الناصر. وبرزت صورة ذلك بوجه خاص في مشاركة حدتو بدور هام في مقاومة الغزو وعملية إنزال القوات البريطانية والفرنسية في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي 1956. كما برز في عملية تنظيم المقاومة لذلك العدوان حتى جلاء القوات المعتدية في 23 ديسمبر 1956. وفي ديسمبر1957 ذهب جمال عبد الناصر إلى بورسعيد واحتفل بمرور عام على جلاء القوات المعتدية عن بورسعيد. وحضر ذلك الاحتفال رسميا أعضاء حدتو الأبطال من أبناء مدينة بورسعيد الذين كان لهم دور في مقاومة الغزو والاحتلال. وأبرز هؤلاء الرفاق إبراهيم هاجوج وأحمد شوقي المرجاوي.
لكن بعد مرور عام، أي في 23 ديسمبر 1958، شن عبد الناصر هجوما علنيا ضد الشيوعيين من بورسعيد ذاتها. واتهم الحزب الشيوعي السوري بالوقوف ضد الوحدة المصرية السورية التي تحققت في 22 فبراير 1958. وكانت وحدة اندماجية وفقا لما طلبه السوريون، خاصة ضباط الجيش. وكان عبد الناصر يريد وحدة فيدرالية. وعندما أصر السوريون على الاندماج قام عبد الناصر بفرض شروطه، ومن بينها أن يكون "الاتحاد القومي" هو التنظيم السياسي الوحيد، وأن يتم حل الأحزاب السياسية. وأعلن الحزب الشيوعي السوري رفضه لحل الأحزاب وصيغة الاتحاد القومي. وفي مصر دعت حدتو إلى أن يكون "الاتحاد القومي" هو الشكل السياسي لجبهة وطنية تضم مختلف القوى الوطنية وليس بديلا للأحزاب.
تحدث عبد الناصر أيضا عن التصنيع وضرورة الثورة الاجتماعية، وهاجم أعداء تقدم مصر، وشن هجوما على الاستعمار العالمي والصهيونية والرجعية العربية واتهمها بالوقوف ضد الوحدة بين مصر وسوريا وضد القومية العربية. هنا نقول إن الوحدة تعرضت بالفعل إلى التآمر من جانب قوى رجعية وأجنبية. وكان هذا من أسباب انهيارها وحدوث الانفصال في 28 سبتمبر 1961. لكن التآمر لم يكن السبب الوحيد في هذا الصدد. فإن كبت الحريات وعدم مراعاة خصائص الأوضاع في سوريا كان من ضمن العوامل التي أسهمت في انهيار تلك الوحدة.
تكلم عبد الناصر أيضا عن سقوط حلف بغداد؛ لكنه تجنب الكلام عن ثورة 14 يوليو العراقية التي أدت إلى سقوط هذا الحلف رسميا. تجنب عبد الناصر الحديث عن ثورة العراق، مع أنه بذل جهودا عند قيامها من أجل حمايتها ومن أجل عدم تدخل الدول الغربية لإجهاضها. وقام بزيارة موسكو سرا لهذا الغرض. وبعد عودته تجمعنا في مظاهرة داخل حديقة مجلس الوزراء، وخرج عبد الناصر إلى شرفة المجلس وألقى كلمة شدد فيها على أهمية حماية ثورة العراق. فما هو السر وراء اختلاف موقف عبد الناصر في ديسمبر 1958 عنه في يوليو من العام نفسه؟
بعد أسبوع واحد من خطاب عبد الناصر في بورسعيد يوم 23 ديسمبر 1958 بدأت في أول يناير 1959 حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعيين، أعقبها محاكمات عسكرية. وبعد المحاكمات تعرضوا لعملية تعذيب. فما هي الأحداث أو التطورات التي كانت وراء ذلك المشهد واختلاف موقف عبد الناصر في 1958 عنه في العام السابق، أي في 23 ديسمبر1957؟
لقد تناولنا من قبل أحد جوانب هذا الموضوع في كتاب "حدتو ذاكرة وطن". لكن لم أطرح هذه التساؤلات، لهذا أتناول الموضوع الآن من جوانب أخرى، وأضع مزيدا من النقاط فوق بعض الحروف بهدف إلقاء الضوء على خلفية بعض الأحداث، وعلى مسؤولية الأطراف المختلفة عن هذه الأزمة، وهي أزمة يتحمل مسؤوليتها جمال عبد الناصر. كما يتحملها الشيوعيون العراقيون، ومعهم بعض المنتسبين للشيوعية في مصر. وقد كان موقف عبد الناصر شديد العدوانية في إدارته لتك الأزمة. كما تنكر خلالها لتاريخه المشترك مع حدتو ودورها في التحضير لثورة 23 يوليو وفي تنفيذها، وذلك علاوة على دورها في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي 1956. أغفل عبد الناصر كل ذلك وقام بالهجوم على الشيوعيين واعتقلهم، وشكل محكمة عسكرية لمحاكمة قادة حدتو وكوادرها وبقية الشيوعيين.
لم يكن عبد الناصر وحده مسؤولا، بل يتحمل العراقيون، خاصة الحزب الشيوعي العراقي، جانبا كبيرا من المسؤولية. كما جر العراقيون معهم في هذه المقامرة بعض الشيوعيين المصريين الذين انتسبوا لحزب الراية ومنظمة طليعة العمال. ولم يشعر هؤلاء المصريون، الذين انزلقوا للمقامرة، بأي قدر من المسؤولية عما اقترفوه. فقد استجابوا لطلب العراقيين الذي كان دافعه خلق محور بغداد في مواجهة القاهرة وزعامتها للعالم العربي. ولا ينبغي أن نكتفي بالقول بأن الخلافات حول صيغة التنظيم السياسي الواحد في دولة الوحدة المصرية السورية قد ألقت بظلها على العلاقة بين القاهرة وبغداد في أعقاب قيام ثورة 14 يوليو 1958 في العراق؛ وذلك لأن العلاقات بين عبد الناصر وبعض الأطراف السياسية في العراق دخلت على طريق الأزمة قبل قيام الثورة العراقية ذاتها. وهذا هو جوهر حديثنا الآن.
ويجب أيضا التنويه بأن أزمة عبد الناصر مع الشيوعيين كانت وراء توتر العلاقات مع الاتحاد السوفييتي. وقد تبادل عبد الناصر والرئيس خروشوف الانتقادات علنا. وعلاوة على ذلك جرت بينهما مراسلات واتصالات سرية ترتبط بالموضوع. وقال خروشوف خلالها لعبد الناصر إن إعلان الحرب على الشيوعية لن يجلب المجد ولا الصواب.

مقامرة شيوعيين عراقيين مع مصريين
تمثلت المقامرة التي قام بها قادة الحزب الشيوعي العراقي في اتصالهم بعناصر شيوعية مصرية وطلبوا منهم أن يتخلصوا من قادة حدتو بحجة أنهم حلفاء عبد الناصر. والعناصر الشيوعية المصرية هي تحديدا فؤاد مرسي، زعيم حزب الراية، وأبو سيف يوسف، زعيم منظمة طليعة العمال، وآخرون كان من بينهم محمود أمين العالم. فما هي أولا حكاية حلفاء عبد الناصر؟ أي ما هي مواقف وسياسة حدتو التي أثارت انزعاج العراقيين وآخرين؟ وما هي سياسة أولئك الشيوعيين المصريين الذين كانوا يعادون ثورة يوليو ونصيرتها حدتو؟

موقف حدتو من ثورة يوليو وموقف معارضيها
كان العراقيون يعلمون أن حدتو شريكة لجمال عبد الناصر في ثورة يوليو. ولهذا اتصلوا بشيوعيين مصريين كانوا يعارضون موقف حدتو المؤيد لهذه الثورة. أيدت حدتو الثورة منذ لحظة قيامها، بينما عارضها الآخرون ووصفوها بأنها مؤامرة وانقلاب. وهذا الوصف قاله د. سمير أمين. ونستند في عرض موقف حدتو وموقف معارضيها إلى ما كتبه سمير أمين بنفسه، الذي كان من أعضاء حزب الراية الذي اعترض على ثورة يوليو وعلى موقف حدتو، وهو الحزب الذي كان قادته أحد أطراف المؤامرة مع العراقيين. فقد عرض د. سمير أمين الموقفين في تقرير كتبه في 1955 باسم حزب الراية تحت عنوان "تحليلان.. سياستان"، وأعاد نشره في 2014 في كتاب "قضايا الشيوعية المصرية". واستند ذلك التقرير إلى مطبوعات حدتو ومطبوعات حزب الراية. وأوضحت تلك المطبوعات أن حزب الراية يرى أن التمرد في مصر يتصاعد في الفترة السابقة على ثورة يوليو. ولذلك "قرر الأمريكان أن يتقدموا الصفوف". كما قال هذا الحزب: "وكان هناك احتياج لنظام أقوى، ولكن ديماجوجي وشعبي. والانقلاب الذي باركه الامبرياليون كان سيخلق هذا النظام". هكذا اعتبروا أن ثورة يوليو انقلابا رحب به الغرب الاستعماري.
بعد ذلك قام سمير أمين بعرض موقف حدتو من ثورة يوليو وانتقده وأعلن معارضته له. فقد قال إن حدتو كان لها موقف مختلف، حيث "ادعت أن تنظيم الضباط الأحرار يمثل التحالف بين البرجوازية الوطنية والبرجوازية الصغيرة". ثم واصل عرض موقف حدتو في تلك الفترة. وخلال ذلك وصف ثورة يوليو بالمؤامرة والانقلاب. فقد قال: "ينبغي هنا التنويه بأن حدتو كانت على علم بالمؤامرة والانقلاب. فقد اشترك فيها عضوان من التنظيم العسكري في حدتو، وهما يوسف صديق وخالد محيي الدين. وعقب الانقلاب مباشرة دشنت حدتو الحركة الشعبية للجيش لتصف بها الأحداث. ونادت الشعب ليساند جيشه. وشحذت همم المثقفين للكتابة في جريدة الحركة وهي التحرير".
كان لحدتو بالفعل دور فعال في قيام ثورة يوليو وحشدت التأييد لها. وكان موقفا صائبا. ولم تكن مؤامرة ولا انقلابا. كما دعت -بوصفها فاعلة في الأحداث- إلى استمرار الجبهة التي أسقطت الملك فاروق وسيطرة الإقطاع. وقالت حدتو في هذا الصدد: "يجب علينا السعي لبناء جبهة مع الشريحة الاجتماعية التي في السلطة، أو بالأحرى أن نعيد البناء مع هذه الشريحة للجبهة التي أدت إلى إسقاط فاروق وإنهاء السيطرة الاقطاعية في مصر". يعبر هذا عن دور حدتو ومكانتها في التاريخ. ولكن تم توجيه الاتهام لها ومحاربتها من جانب بعض الماركسيين، ومن بينهم الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي البريطاني وشيوعيون مصريون. وكانت حدتو تعرف مكانتها وأن موقفها يواجه معارضة، لكنها معارضة خاطئة. ولهذا قالت في مطبوعاتها: "ألم يؤخذ علينا اشتراكنا في أحداث يوليو 1952؟ كما استنكرت موقف المعارضين لثورة 23 يوليو قائلة: هل كنتم تريدون أن نقف في صف الملك فاروق؟
إن هذه المواقف لحدتو كانت وراء طلب العراقيين التخلص من قادتها. وهو أمر كان من ضمن خلفيات الأزمة بين عبد الناصر والشيوعيين. فقد كان ذلك الطلب من جانب العراقيين ضمن عوامل تفاقم تلك الأزمة على أكثر من مستوى: الأول مستوى العلاقة بين مصر والعراق، والثاني مستوى العلاقة بين عبد الناصر والشيوعيين في مصر وفي العالم العربي. ولم تكن الحملة الإعلامية ضد الشيوعيين في نهاية 1958 بعيدة الصلة عن كل ذلك. وقد بدأها عبد الناصر شخصيا، وأعقب ذلك بحملة اعتقالات واسعة في أول يناير 1959. وكنت شخصيا أحد المقبوض عليهم. كما تصاعدت الحملة الإعلامية والأمنية ضد الشيوعيين خلال الشهور الأولى من عام 1959، وتزايدت حدتها بعد إجراء العراق محاكمات شملت أنصارا لتوجهات عبد الناصر.

الهدف من طرح هذا الموضوع
هناك أكثر من دافع وراء تناولنا هذه القضايا. فأولا نريد إلقاء الضوء على قضية كان لها تأثيرات سياسية بالغة ومع ذلك لا يتناولها المؤرخون والمعنيون بتاريخنا الوطني. ونريد ثانيا توضيح أن المغامرات السياسية غير المسؤولة لبعض الشيوعيين ينتج عنها الكثير من الكوارث. ونود ثالثا توضيح أن الأزمات من ذلك النوع كان لها تأثيرات سلبية على التضامن العربي وعلى الوحدة بين مصر وسوريا. كما كان لها رابعا تأثيرات سلبية على علاقة مصر بالاتحاد السوفييتي. ونريد خامسا إلقاء مزيد من الضوء على قهر عبد الناصر للقوى الوطنية الديمقراطية ومحاربته لها حتى وإن كانت حليفة له. كما أن محاصرة عبد الناصر للقوى السياسية الوطنية التقدمية كانت بداية لتجريف الحياة السياسية، بل كانت النتيجة النهائية هي عدم استمرار تجربة عبد الناصر السياسية والاجتماعية ذاتها.
قام عبد الناصر قبل شن حملاته الإعلامية والأمنية بتوجيه تحذير للشيوعيين نقله لهم أنور السادات. وكان الدافع لذلك متعدد الجوانب. فقد أراد إنهاء وجود الشيوعيين، وذلك في سياق رفضه التعددية الحزبية وفرضه صيغة التنظيم الواحد المتمثل في "الاتحاد القومي". وقد اتخذت هذه الصيغة اسم "الاتحاد الاشتراكي" بعد تأميمات الستينيات.
كما أراد عبد الناصر ثانيا، وهو الأمر الأكثر خطورة، مواجهة وإحباط خطة العراق تحويل قيادة العالم العربي من القاهرة إلى بغداد. وهي عملية دبرها الشيوعيون العراقيون وأبلغوها لبعض الشيوعيين المصريين الذين كانوا تاريخيا يعادون منظمة حدتو ويقفون ضد توجهاتها. في هذا السياق طلب الشيوعيون العراقيون من الذين يعادون حدتو أن يتخلصوا من قادتها حتى لا يكونوا عقبة أمام عملية نقل زعامة العالم العربي إلى بغداد بدلا من القاهرة. ويقتضي فهم هذه الأمور أن نشير أولا إلى عملية تأسيس الحزب الشيوعي المصري في 8 يناير 1958، وعلى السلبيات التي ترتبت على الأخطاء التي شابت عملية الوحدة التي تأسس بموجبها ذلك الحزب.

أترك تعليقاً

التعليقات