13 ينايــر 1986 الحـرب المفتوحة
 

آزال الجاوي

آزال الجـاوي / لا ميديا -

(7)
نحن لم نفتح (ننبش) ملف أحداث 13 يناير؛ لأنه لم يغلق أساساً، فمازال زوار الليل والقتل والإخفاء القسري والاحتقانات والصراعات المناطقية و... و... و... الخ. أما الصراخ الذي نسمعه عندما نتحدث عن المأساة المستمرة من بعد ذاك التاريخ إلى اليوم فهو لإسكات الصوت الرافض أو الناقد للعمل الإجرامي مع استمرار المجرم في ارتكاب الجريمة، وكان لسان حال أصحابه (المصمتين) يقول: دع المجرم يشوف شغله ويستمر في جرائمه، وأنت اسكت وتوقف عن الحديث عن جرائمه حتى لا تزعجه! أو كمن يقول لك: دع القاتل يقتلك وأنت مستسلم صامت راضٍ!! أو كمن يمنع الشاهد عن الشهادة لينجو المجرم وتستمر العصابة!!
ما لكم كيف تحكمون؟!!


(8)
كل الذين يحكمون عدن اليوم مؤهلاتهم الوحيدة أمران اثنان، هما:
الأول: الانتماء لإحدى مناطق صراع 13 يناير حصراً.
الثاني: القدرة على القتل.
هذان المؤهلان، ولا شيء سواهما. أوليس هذا استمراراً لـ13 يناير؟!!
وتريدوننا أن نصمت؟!! ما لكم كيف تحكمون؟!!

(9)
تواصل معي الكثير من الأصدقاء للاستفسار عن منشوراتي المعنونة بـ"13 يناير 1986 الحرب المفتوحة"، والغرض منها. ولكي نوضح لكل من لم يفهم الغرض من سياق المنشورات السابقة، نقول:
الغرض من تلك المنشورات ليس الهجوم على منطقة أو جماعة أو فئة بعينها. كما أننا بالتأكيد لا نقصد مَن رحمهم الله مِن الأشخاص أو من هاجروا أو هُجّروا قسراً ومَن تركوا لعبة الموت طواعية. ولا نقصد أيضاً الملتزمين بالتصالح والتسامح قولاً وفعلاً... وإنما المعني والمقصود والهدف من تلك المنشورات هم الذين مازالوا يمارسون الاغتيال والخطف والاعتقال والإخفاء القسري وتأسيس المليشيات المناطقية... الخ, والذين يجب الوقوف ضدهم وكشفهم وتعريتهم ومنعهم وردعهم عن ارتكاب تلك الجرائم، ومحاسبتهم عليها. كما أننا لا نقصد نبش الماضي الأليم، وإنما الاستفادة من دروسه، لمعالجة الحاضر المأساوي، وتجنب المستقبل المرعب الذي يجلبه لنا هؤلاء بالممارسات والأساليب نفسها أمس واليوم، وربما غداً، إن صمتنا على ذلك، تحت أي مبرر.
نحن مع التصالح والتسامح قولاً وفعلاً، ومن أعمق أعماق ضمائرنا ووجداننا، ولسنا مع التصالح كشعار يخفي جرائم الماضي ويحمي المجرمين لتستمر وتتكرر المأساة.
لذلك، لن نستجيب لترغيب ولا لترهيب أو سب وسفاهة، وسنستمر في الكتابة وبشكل أكثر جرأة... وترقبوا القادم!

(10)
في شهادته على أحداث 13 يناير، الأستاذ/ منصور هايل، في كتابه "أطياف عدن حطب الهذيان - شهادات سياسية"، يقول:
"أفضل كفاءات البلاد في حقل إدارة الإعلام والثقافة وصناعة الرأي والفكر تم حشرهم في شاحنة كبيرة نقلتهم إلى سجن في حوطة لحج، ثم إلى منطقة برية جبلية، حيث كانت في انتظارهم كتيبة الإعدام الثأرية التي اصطحبت معها بعض أنجال القتلى "الأماجد" أو "الشهداء الاستراتيجيين" المثيرين للكثير من الريبة والتشوش والتوتر والحرب، لتمكينهم (أي الأنجال) من الأخذ بثأر الآباء، وتعليمهم "النَّصَع" (الرماية) على رؤوس وأجساد خيرة نخبة اليمن الديمقراطية من المثقفين" (ص 51).
عندما نشاهد الاغتيالات والاعتقالات والإخفاء القسري لخيرة أبناء الجنوب، اليوم في 2019، نتساءل: من هم أولئك "الأنجال"؟! ما هي مناصبهم اليوم؟! وما الذي يمكن أن يقدمه للوطن شخص تعلم "النَّصَع" على رؤوس خيرة نخبة بلاده من مثقفين وإعلاميين عُزَّل لا حول لهم ولا قوة؟! أوليست الليلة شبيهة بالبارحة؟!
وتريدوننا أن نصمت؟!! ما لكم كيف تحكمون؟!!

(11)
"المثقف المتهم رقم 1" عنوان أحد فصول كتاب "أطياف عدن حطب الهذيان - شهادات سياسية"، يسرد فيه الكاتب قائمة بكوكبة من خيرة رجال الإعلام والثقافة تم إعدامهم دون محاكمة، بتهمة "الكتابة" فقط(!!)، ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر الأساتذة الشهداء: أحمد سالم الحنكي - مدير دار الهمداني للطباعة والنشر والإصدار، زكي بركات - رئيس تحرير "الثوري"، أحمد عبد الرحمن بشر - السكرتير الإعلامي لأمين عام الحزب، جمال الخطيب - مدير عام إذاعة عدن، عبدالله شرف سعيد - رئيس تحرير صحيفة "14 أكتوبر"، عبد الرحمن بلجون - مدير عام التلفزيون، إسماعيل شيباني - رئيس تحرير مجلة "الحارس" ومدير "الحكمة"، فاروق رفعت - مدير تحرير "14 أكتوبر"...
ثم يروي الكاتب كيف أن التهمة الأساسية للمتهم الأول (الشهيد فاروق علي أحمد) كانت "التنظير"، بل إن التهمة الأساسية له كانت أقل من التنظير، وهي "الكتابة"، مجرد "الكتابة"(!!)، حيث يورد في كتابه الآتي: "ذات يوم، توجه القاضي في إحدى الجلسات إلى الشهيد فاروق بسؤال مزدوج: "كتبت" الورقة؟! ليش "كتبت"؟! ابتسم ساخراً: لأن خطي مليح!" (ص 32)، وكان ذلك، أي "الكتابة"، هو الدليل الذي استحق بموجبه حكم الإعدام!!
ما أشبه الليلة بالبارحة!! فقد تم الحكم عليَّ شخصياً بالإعدام من قبل ما يسمى "المقاومة الجنوبية"، بسبب كتاباتي الناقدة للاحتلال الأجنبي، لما يسمى "التحالف العربي"! وهذه ليست حالة شاذة، بل إن كل من يكتب ما لا يشتهيه هؤلاء فهو مذنب ويستحق القتل! ولعل المثال (الفاقع) اليوم على هذه المأساة ما يتعرض له الأخ فتحي بن لزرق، رغم اختلافنا معه, إلا أن المصيبة لا تختزل في اتهام المثقف وإعدامه بتهمة "الكتابة" فقط، بل تكمن في عقلية جمهور "الرعاع" الذين يؤيدون ويصفقون ويبررون تلك الأعمال، بل هم من يطالب بها, وهذا ما يجعلنا نقول إن 13 يناير لم يتم إغلاق بابها، بل تم تكريسها إلى أن أصبحت جزءاً من البنية النفسية عند شريحة أو فئة اجتماعية مازالت تمارس السلوك الإجرامي نفسه إلى اليوم والساعة.

(12)
التصالح والتسامح ليس شيكاً على بياض، أو صك غفران لما تقدم (وما تأخر) من جرائم. كما أن التصالح والتسامح إن كان يجُبُّ ما قبله فهو لا يعفو عما بعده. كما أنه ليس تصفيراً لعداد المجرمين. التصالح والتسامح أيضاً ليس مجرد مهرجان سنوي أو شعارات وزوامل...
التصالح والتسامح هو إيمان حقيقي، وثقافة وأدب وسلوك وممارسة تقتضي الامتناع الكامل والمطلق عن كل الممارسات السلبية التي أدت إلى كارثة 13 يناير وما تبعها من نتائج. أما التغني بالتصالح والتسامح مع ممارسة الاغتيالات والاعتقالات والإخفاء القسري وتشكيل المليشيات المناطقية وإقصاء الآخر وتأجيج النعرات والانقسامات وممارسة السب والشتم والتخوين و... و... و... خاصة ممن تلوثت أيديهم بأحداث يناير 1986 واستمروا إلى يناير 2018، ومستمرون في استجرار الماضي وتدمير الحاضر وتهديد المستقبل، فلا تصالح ولا تسامح معهم، بل يجب ردعهم ومحاسبتهم.
كيف لمعتقل ومخفيّ قسراً اليوم في 2019 وأبوه أو أحد أقربائه قُتل أو أخفي أو شُرّد في 1986، ومن الجهات نفسها وبالوسائل والأساليب والعقليات نفسها، أن يصالح ويسامح ويقبل بذلك؟!
إليكم كشفاً بأسماء بعض المعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب أو تم تصفيتهم في السجون السرية في عدن خلال الفترة 2016 - 2018، بحسب ما ورد في بعض التقارير الحقوقية والإعلامية:
1 - شكري السقاف - القاهرة عدن (أعدمه أحد ضباط شلال بالرصاص في سجن شلال).
2 - سالم محمد الكوبّي - الصرح أبين (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
3 - نايف اليافعي - المعلا عدن (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
4 - عمار السنجاب - التواهي عدن (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
5 - سعيد عوض سالم - الفيوش لحج (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
6 - أسامة الصارطي - عدن (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
7 - عبد الله حسن - القاهرة عدن (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
8 - محمد حيدرة سالم - جعار أبين (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
9 - قاسم علي سالم اليافعي - المعلا عدن (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
10 - سعيد الدوبحي - أبين (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
11 - ناصر ثابت صاحب - الصرح ـ أبين (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
12 - حلمي الزنجي - المنصورة ـ عدن (قُتل تحت التعذيب في سجن التحالف بالبريقة).
13 - محمد اللجّ - جعار ـ أبين (قُتل تحت التعذيب في منزل شلال).
14 - سمير السولي - البساتين ـ عدن (قُتل تحت التعذيب في معسكر طارق - البحث الجنائي).
15 - حلمي عبد الحليم الطني - الحوطة ـ لحج (قُتل تحت التعذيب في سجن الحزام الأمني - لحج).
16 - محمد الغفوري - الشيخ عثمان ـ عدن (قُتل تحت التعذيب في سجن قاعة وضاح للرقص).
17 - علي مفوت - الوضيع ـ أبين (أعدمه يسران المقطري رمياً بالرصاص).
18 - أصيل أحمد ناجي - الحوطة ـ لحج (قُتل تحت التعذيب في سجن المنصورة على يد المجرم نواف السالمي).
- الأسماء التالية لسبعة معتقلين تم إعدامهم في سجن وضاح بإشراف القائد يسران المقطري:
19 - علي بكرة - السيلة عدن.
20 - أحمد خشبة - السيلة عدن.
21 - عادل الزبيدي - عدن.
22 - عمار علي حامد الهندي - المنصورة عدن.
23 - صالح مقدح - عدن.
24 - أحمد مقدح - عدن.
25 - فوزي علوي اليافعي - عدن.
ثم تريدوننا أن نصمت؟!! ما لكم كيف تحكمون؟!!

(13)
توثق التقارير الحقوقية الصادرة عن المنظمات الدولية، وكذا شهادات بعض المعتقلين السابقين، حالات التعذيب بمختلف أشكاله، بما في ذلك "التعذيب الجنسي والاغتصاب" في سجون عدن التابعة للإمارات والمليشيات الموالية لها خلال الفترة 2016 - 2018. ولعل أشهر تلك الشهادات شهادة المعتقل السابق عادل الحسني. وأشهر تلك التقارير تقرير وكالة "أسوشيتد برس" الاستقصائي المنشور بتاريخ 20 يونيو 2018، والذي تحدث عن ممارسات "تعذيب جنسي واغتصاب ممنهج" في خمسة سجون على الأقل، من ضمنها سجنان على الأقل في منطقة "جولدمور" لوحدها، يفصل بينهما أقل من ربع كيلومتر. هذا بخلاف شبكة من السجون السرية التي تحوي آلاف المخفيين قسراً.
طبعاً الحديث هنا عن الحاضر، أما لو عدنا للماضي لمعرفة جذور المشكلة وروابطها وامتداداتها، فسنجد أن تلك الممارسات ظهرت بشكل ممنهج وواضح بعد أحداث يناير 1986م مباشرة. ولعل أبرز حادثة كاشفة لتلك الممارسات ما كان أثناء محاكمات أحداث يناير (الزمرة)، حيث أخرج أحد المتهمين (الشهداء) الرئيسيين قطعة من ملابسه الداخلية مليئة بالدماء كان يخفيها تحت ملابسه من سجانيه ليرفعها أمام القاضي والحضور ويصرخ أمامهم: لقد تم تعذيبنا وتم "استخدامنا كالنساء"... وقبل أن يكمل صرخ القاضي: "محكمة"! مع عدة طرقات قوية بمطرقة "قانون سكسونيا"، ليطبق الصمت على الجميع منذ تلك اللحظة وذلك اليوم حتى اليوم!!

(14)
جريمة المناطقية والعقوبات الجماعية بالهوية
بعد يناير 1986 مباشرة تمت الاعتقالات والتصفيات بشكل علني على أساس الهوية ومسقط الرأس، وبوضوح، ودون أي غطاء لتلك الممارسات، بل إن التصفية التي امتدت لتشمل كل مناحي الحياة، بما في ذلك نهب المساكن وأخذ الوظيفة، واكبها أيضاً الإحلال على أساس مناطقي أيضاً، بمعنى أنه ليس التصفية فقط كانت على أساس مناطقي، بل التوظيف وتوزيع المناصب والممتلكات كان أيضاً مناطقياً، واستمر حتى بعد قيام الوحدة عام 90، والتي كان أهم شروط المنتصر في يناير 86 لتحقيقها استمرار إقصاء الآخر (مناطقياً) كشرط لقيام الوحدة.
بقيام الوحدة، ثم حرب صيف 1994، لم ينتهِ ذلك النمط من الممارسة التي أصبحت جزءاً من النفسية والعقلية لبعض الفئات الاجتماعية في الجنوب؛ إلا أن "العدو" فقط هو الذي تغيَّر في هذه المرحلة، مع تكريس الممارسات نفسها وبالعقلية نفسها.
في مايو 2016، وبعد أن تم الإحلال في الوظيفة والمناصب على أساس تحاصص مناطقي، أيضاً تم تدشين حملة ترحيل جماعية لأبناء المحافظات الشمالية، بطريقة مهينة وغير قانونية، ودون جُرم يُذكر غير موطن الميلاد أو مسقط الرأس! ذلك الفعل العنصري المناطقي لم يكن حالة استثنائية، فقد تعرض قبل ذلك أبناء عدن من أصول شمالية لحملة ممنهجة تشكك في ولائهم وانتمائهم، وكذلك حملات تصغير وتحقير لهم مازالت مستمرة حتى اليوم والساعة تحمل في طياتها عواقب وخيمة لتلك الفئة الاجتماعية في الحاضر والمستقبل، جريرتهم الوحيدة فيها مولد أجدادهم أو أجداد أجدادهم! إلا أن تلك الممارسات العنصرية لم تقف عند تلك الحدود، أضيف لها -كما حدث في يناير 86 أيضاً- نهب الممتلكات العقارية والبيوت على أساس مناطقي (منزل الرئيس الشهيد عبدالفتاح إسماعيل على سبيل المثال)، وهو تكرار حرفي وتطابق كامل مع ما حدث في السابق، وبشكل أكثر قبحاً وجرأة في التعدي والممارسة.
كل ذلك يجعلنا نقول إن مفاعيل التصالح والتسامح لم تجد لها حيزاً في الواقع العملي، وإنما تم إبقاء مضامينها كشعارات لستْر الجرائم والممارسات غير الأخلاقية وغير الوطنية حتى انفجار آخر!

(15)
العقيد "شيول"
عندما تصبح وسائل وأدوات الجريمة رموزاً يُتفاخر بها، فاعلم أنك أمام فعل إجرامي سيستمر ولن يتوقف، أي أنك أمام جريمة متسلسلة، ولست أمام حدث عرضي عابر أو استثنائي يمكن تجاوزه أو المرور عليه مرور الكرام.
بعد أحداث 13 يناير أتذكر كيف كانت الجثث متناثرة في الشوارع، خاصة حول الحي الذي كنت أسكن فيه، ومازلت أتذكر الجثث المتحللة بالقرب من مستشفى الجمهورية، وكذا بجانب العمارة الصفراء التي أصبحت فيما بعد وزارة للثقافة، والتي كان حولها العديد من الجثث التي ظلت لفترة بعد الحرب حتى بدأت بالتحلل! وأتذكر أنه عندما بدأ رفع الجثث استُخدم "شيول" (بلدوزر)، وكذا سيارة تابعة للبلدية، وقد تم رفع بعض الجثث بطريقة عشوائية وبشكل جماعي بعيد كل البعد عن أخلاقيات ومراسيم احترام الموتى! كما أن الاستهتار والعشوائية بلغا حد أنه لم يُبذل أي جهد لتوثيق ذلك أو حتى لمعرفة هويات أصحاب الجثث، أو حتى أماكن دفنها، والذي كان بشكل جماعي في الأغلب.
من ضمن الذكريات، كانت جثة في رصيف المشاة المقابل للعمارة الصفراء، جاء "الشيول" دون سيارة البلدية، حيث قام بغرف حفنة من التراب من الموقع نفسه وطمر بها الجثة في موقعها على الرصيف! كان ارتفاع كومة التراب متراً تقريباً! مرت الأيام، وبقيت الجثة في موقعها، والتربة التي عليها تتسوى بالأرض شيئا فشيئا، حتى كادت أن تصبح بمستوى الأرض حولها. كان أبناء الحي يتجنبون السير في ذلك الرصيف.
مر الزمان وسافرت وعدت لأجد أنه تم رصف الموقع بالبلاط. ولا أعلم إن تم نقل ما تبقى من الرفاة من ذلك الموقع أم لا! ولم أجرؤ على السؤال؛ ربما لأني أعرف أنه لن يفكر أحد بعد كل تلك السنين برفعها، فما لم يُفعل للجثة في حينه لن يُفعل لبقاياها؛ لكني بقيت أتجنب السير في ذلك الرصيف كلما عبرت من هناك.
في حينها، كان "الشيول" جندياً لا يستحق الامتداح؛ إلا أنه لم يوجه إليه أي نقد أيضاً، حتى أصبح عقيداً وبطلاً ورمزاً!
في الحرب الأخيرة تكرر المشهد نفسه تقريباً؛ إلا أنه في هذه المرة لم يكن الموضوع مرتبطاً بالعشوائية، بقدر ما كبر وتعاظم وأصبح تشنيعاً وتمثيلاً بالجثث، يخالف قواعد ديننا وأخلاقنا، وأصبح فخراً وعملاً بطولياً، وأصبح "الشيول" رمزاً وتم ترقيته إلى رتبة عقيد!!
لو أننا احترمنا جثث أبنائنا بعد يناير 86، وانتقدنا ورفضنا أن يُدفن أبناؤنا على قارعات الطرُق ودون توثيق أو تحقق منهم ومن هوياتهم، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. كما أننا إذا لم نوقف "الشيول" عند حده اليوم، فغداً لن يستثنى أحد من تلك البشاعة، ومن أن يصبح جثة مجهولة مدفونة بعد التمثيل بها في مكان مجهول وبطرق أبشع، عندما يترقى "الشيول" ليصبح جنرالاً وقائداً أعلى!

أترك تعليقاً

التعليقات