الاستبداد الآسيوي العثماني؟
 

كارلوس شهاب

كارلوس شهاب -

في العصور الوسطى، كانت أقرب قوّة غير أوروبّية إلى أوروبّا هي الدولة العثمانية، ومنذ القرن الرابع عشر، 
كانت جيوش العثمانيّين تهاجم الفضاء الأوروبّي «المسيحي»، ولذلك صار «التُّرك» المثال الكامل للقوى غير الأوروبّية التي اصطفت ضدّ القارة، فبدأ النظر إليهم نموذجياً بوصفهم استبداديّين بطبيعتهم، مفتقرين للقيم المسيحية وموسومين بالبربرية. 

في عيون المفكرين الأوروبيين، كان يُنظر إلى تركيا بوصفها حكماً مطلقاً استبدادياً، وكان في هذا الوصف استعادة للنظرة إلى «فارس» مقابل الإغريق في المرحلة الكلاسيكية، ولذلك صارت المواقف الإغريقية العرقية المركزية مندمجةً في دراسة علم التاريخ ونظريّاته ومناهجه عند العلماء الغربيين وفي التحليل الثقافي. إنّ الانقسام إلى قسمين، الذي أسّسه الإغريق بين أنظمتهم الديموقراطية الخاصّة بهم وبين ما تصوّروا أنه آخر، «فارسي»، قد امتزج مع رأيٍ أوروبّيٍّ جاء في ما بعد، عن العثمانيّين، مؤسّساً لرؤيةٍ مطابقةٍ لما سماه كارل ماركس «الاستثنائية الآسيوية». 
بناءً على ما تقدّم، لا بدّ من نقاش ثلاثة مظاهرٍ من المجتمع العثماني(التركي)، لنستفهم عن مظاهرَ معيّنةٍ من هذه التصوّرات المركزية الأوروبية، ونتأمّل في الأفكار الأوروبّية عن تقسيم التاريخ إلى مراحل، وعن دراسة علم التاريخ ونظريّاته ومناهجه بشكلٍ أكثر عمومية، فيتّضح أن المقابلة الثنائية بين أوروبا وآسيا الاستبدادية، هي مقابلةٌ متعجّلةٌ، مؤسّسةٌ على الجهل أو التحامل.

المظهر الأوّل: الجيش 
النظر إلى تركيا بوصفها حكماً استبدادياً مطلقاً يسير يداً بيد مع فكرة «المحافظة الإسلامية»، وعلى سبيل المثال، فإنّ النظر إلى الدونية التقانية المفترضة عند العثمانيّين مرتبطٌ بمعالجاتٍ مركزيةٍ أوروبّيةٍ تبنّاها عدّة مفكرين أوروبّيين، وهذا يعني مقاومة العثمانيّين لتبنّي التجديدات التقانية التي صنعها الآخرون، وميلهم إلى إخضاع كلّ مسائل التقدّمات المتحقّقة في المعرفة وفي الاقتصاد والحياة الاجتماعية، لاعتباراتٍ أيديولوجيةٍ مقرّرةٍ مسبقاً، لا لاعتباراتٍ علمية، وذلك بتوجيه أمرٍ استبداديٍّ مطلقٍ من السلطة، لا تترك مجالاً للمبادرة الشخصية أو الإرادة الحرّة التي ميزت - على حسب ما يُشاع-  الحالة الأوروبّية.
العثمانيّون، أوّل ما واجههم عدوٌّ يستخدم سلاحاً نارياً، لحقوا به في الحال، وقد فعلوا ذلك بشكلٍ سريعٍ وفعّال، فجمعوا المواد اللازمة لصناعة المدافع وملح البارود، وبلغوا في ذلك حتى تغيير هيكلية الجيش. لا يوجد أي وصف تاريخي للحظة وصول البارود (المُصنّع في الصين أصلاً) إلى العثمانيّين، ولكن يُشار إلى أنه وصلهم عن طريق المغول. 
كانت صناعة المدافع مهمّةً بالغة التعقيد، وقد استخدم العثمانيّون البرونز في صناعتها نظراً إلى أنهم كانوا يستطيعون الوصول إلى إمدادات النحاس، على عكس أوروبا التي استخدمت الحديد في صناعة المدافع، والبرونز والحديد على حدٍّ سواء، احتاجا إلى مسابكَ للمعادن مع تقسيمٍ معقّد لليد العاملة وتنظيمٍ للعمل، فطوّر العثمانيّون مسابك المعادن (ترسانة) في جميع أنحاء دولتهم، في آفلونيا وأدرنة ومدنٍ أخرى، ومنها المسبك العثماني الامبراطوري (الترسانة الأميرية). 
في أواخر القرن الخامس عشر ومطالع القرن السادس عشر، كان مصنع المدافع الامبراطوري ومصنع السلاح (Cebehanen-i-Amire) وأعمال البارود (Boruthane-i-Amire) والترسانة البحرية (Tersane-i-Amire) قد أعطت لإسطنبول ما يُعدّ أضخم مجمّعٍ عسكريٍّ صناعيٍّ في بدايات العالم الحديث، ولم يضاهِ هذا المجمّع سوى ترسانة البندقية. 
كان مسبك إسطنبول وحده ينتج ما لا يقلّ عن 1000 مدفع في السنة، ووظّف عدداً كبيراً من العمّال على اختلاف تخصّصاتهم، و62 سابكاً للمدافع، ومجموعةً منظمةً من الفنيّين يصل قوامها إلى 200، وكلّ هذا كان ما بين العامين 1695 و1696؛ لذلك، فإن فكرة الأوروبّيّين عن عجز العثمانيّين عن الإنتاج، هي فكرةٌ خاطئة، ولم يكن العثمانيّون بطيئين في تبنّي أيٍّ من الأساليب الفنية وممارسات العمل التي كانت تعرف بوصفها «رأسمالية».
لذلك، تسقط فكرة «المحافظة الإسلامية» قبل نقاشها حتّى، حيث شهدنا أنّ الانفتاح التقاني العثماني كان قد أعطى العثمانيّين تفوقاً نارياً على خصومهم الأوروبيّين من البنادقة وآل هابسبيرغ النمساويّين، وأنه بعد معركة «ليبنات» التي هُزم فيها العثمانيّون أمام البنادقة والنمساويّين، ودُمّر أسطولهم، فقد استطاعوا بفترةٍ قياسيةٍ استعادة الأسطول العثماني ومحاصرة البندقية وإجبارها على دفع ضريبةٍ سنوية. 
وكذلك تسقط فكرة «المحافظة التنظيمية» لدى العثمانيّين أيضاً، حيث إن العثمانيّين كانوا أوّل من طوّر جيشاً مستقلاً يقف فوق الجماعات الدينية والثقافية والعرقية الإثنية المتنوعة، وقد سبقوا جيرانهم الأوروبيّين على ذلك بـ250 سنة، أي قبل نشوء أوّل جيشٍ أوروبّيٍّ مستقلٍّ مع آل هابسبيرغ أثناء حرب الثلاثين عاماً (1618-1648).
يبيّن هذا التطور أن العثمانيّون كانوا مجدّدين في المسائل العسكرية، وأنّ السهولة التي تكيّفوا بها للتلاؤم مع حالتهم العسكرية في كل النواحي التقانية والتنظيمية، توحي بديناميةٍ حراكيةٍ في المجتمع 

العثماني، مختلفةٍ عمّا يصوّره السادة الفضلاء المتلزمون بالاستثنائية الآسيوية.

المظهر الثاني: فلّاحون عبيد
تمحورت إحدى المناقشات الأوروبّية حول أن قوّة العمل في الحدود العثمانية كانت مختلفةً عن مثيلتها في الغرب، حيث ظلّ الفلّاحون في حالة عبوديةٍ كبيرة، ولكن السؤال هو، هل كان الأمر كذلك حقّاً؟ أي هل كان الفلّاحون يُباعون ويُشترون؟ 
بالرغم من فترات حكم السلطان المركزي القوي، إلّا أنه لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال اعتبار فلّاحي الدولة «أرقّاء»، إلّا إذا أخذنا البلاغة على أنها واقع. يحلّل المؤرّخ التركي المرجعي خليل إنالجيك، نظام المزارع العثمانية على أنه نظام المزارع المستأجرة القائم على عائلة الفلّاحين، حيت تكوّنت وحدة مزرعة البيت من زوجين ومساحةٍ معيّنةٍ من الأرض وزوجٍ من الثيران، وأن مسألة ملكية الدولة للأرض كانت حمائيةً بالدرجة الأولى، أي لحماية الفلاح من التقسيم ومن العدوان ومن فرط الاستغلال؛ ويُقدّم إناجاليك طرحاً يثبت به أن الزراعة العثمانية لم تكن لتختلف عن الإطار العام في وقتها.
في الحقيقة، كان دور الدولة العثمانية مختلفاً قليلاً عن حقّ الاستيلاء العام في المجتمعات الأوروبية، ولكن ظلّ الفلّاحون فيها تابعين وأحراراً في ذات الوقت، شأنهم شأن كلّ المستأجرين الزراعيّين في الأرض، فالحيازة العثمانية للأرض هي إذن أكثر تعقيداً ممّا يصفونها به بأنها حكمٌ استبداديٌّ مطلق في قالبٍ آسيوي. 
كانت الحقوق في الأرض في الدولة العثمانية مرتبطةً بالقانون المدني العثماني الذي كان معتمِداً أساساً على الممارسات الرومانية البيزنطية، وعلى إثر ذلك تكوّنت الحقوق الملكية والحيازة والانتفاع، وقد عُهد بالحقّين الأخيرين منها إلى الفلاحين بطرقٍ متعدّدةٍ، وكان يمكنهم بيع أراضي الدولة، وفي هذه الحالة كانوا يحتاجون إلى إثبات الملكية حسب قانون إسلامي. 
وكما كان الحال في أوروبّا، كان الاستيلاء العام (الملكية) في القانون المدني العثماني يعني فقط الحق النهائي في السيطرة القانونية، وأما «الملكية المحضة»، فيمكن إثباتها من قبل مواطني الدولة، وعلى هذا الأساس تمكّن الفلّاح من نقل الأراضي إلى مؤسساتٍ دينية، وكان أيضاً يستطيع استخدام حقوقه لأغراضٍ تجارية، إذ أشار إناجاليك إلى أن الفلاحين جمعوا ما فاض من مزروعاتهم وصدّروه إلى المناطق الحضرية في الامبراطورية أو أوروبا، وهذا يعني أنهم كانوا مرتبطين بالسوق وبإنتاج محاصيل النقد، والقانون الإسلامي يُقرّ هذا النوع من الملكية الخاصّة.
إضافةً إلى ذلك، كانت الدولة العثمانية تشهد نزاعاً بين سلطة السلطان وسلطة القاضي، أي سلطة الدين وسلطة القانون، ويعني ذلك أن حقوق الفلّاحين كان يُدافع عنها ضد التكاليف الشديدة جداً من إحدى السلطتين، بمعنى أن السيادة كانت مجزأةً، وهذه، بحسب روّاد الاستثنائية الآسيوية، كانت خصيصةً مميِّزةً لأوروبّا وحدها.
وعلى الرغم من الادعاء بالمدخل المادي للكتاب الماركسيّين، فإنهم دائماً ما يركّزون على حقوقٍ مجرّدةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ ودرجةٍ عالية، لا على الممارسة، وذلك باستخدامهم أنواعاً عريضةً لملكية الدولة أو الملكية الجماعية أو الفردية، ولكنّنا نجد في كل المجتمعات تدرّجيةً «هرمية» في ملكية الأرض مع بعض الحقوق المخوِّلة للشخص الفالح ولأسرته، وبعض الحقوق لمالك الأرض المحلي، وبعض الحقوق على مستوىً سياسيٍّ معيّن، فهناك العديد من التنوّعات في الحقوق المخوِّلة وعلى مستوياتٍ مختلفة، لذلك نرى أنه من الخطأ الحديث عن كل الحقوق الممكنة كأنها موضوعةٌ في مستوىً واحد في أي مجتمعٍ محدد. 
كان هناك تباين كبير في حقوق الفلاحة وطرائقها، وكذلك كان هناك تبايناً في ما يخصّ حقوق الأرض، لذلك فإن التعقيد الواضح على هذين الصعيدين في الدولة العثمانية لا يتناسب أصلاً مع سطحية الرأي الأوروبّي والماركسي.
أمّا في ما يخصّ منح قطعٍ من الأرض للعسكريّين والولاة مقابل واجباتٍ محدّدةٍ، يناقش إنالجيك أنه بالنظر إلى أن المنحة كانت قابلةً للإلغاء، وليست إقطاعيةً ميراثيةً، فيجب تسميتها بـ»المنحة الإدارية»، وهي تشبه إلى حدٍّ ما الإقطاع البيروقراطي في الصين؛ ومع ذلك، يحتاج الأمر إلى إعادة فحصٍ شاملٍ وموضوعي، وليس على أساس وجوده أو غيابه استناداً على خبرةٍ أوروبّية محضة.
أخيراً، نصل إلى أن إنتاج الفلّاحين ما كان أبداً أن يبقى عند مستوى الكفاف، فقد كانت إسطنبول ضخمةً، وأوسع من أيّ مدينةٍ أوروبّيةٍ أخرى، وكان تموينها ذا أهميةٍ عظيمةٍ عند الحكّام العثمانيّين، فكان أن معظم الحبوب والمزروعات قد جاءتها من أراضي الدولة، وبالأخصّ منها شمال القرم، فيما انتشرت حول العاصمة زراعة الفاكهة والخضروات وتربية المواشي؛ ولم يقتصر الأمر على تموين إسطنبول، بل امتدّ إلى الحواضر الأوروبّية كالبندقية وغيرها؛ لذلك، فإن الحديث عن أن الفلّاحين انغمسوا في إنتاج مستوى الكفاف، هو زعمٌ باطل، فقد كانت التجارة والسوق ذات علاقةٍ بالإنتاج.

المظهر الثالث: التجارة 
كانت الامبراطوريتان الرومانية والبيزنطية قد وضعتا التجارة تحت سيطرة الدولة إلى حدٍّ كبير، وقد حذا العثمانيّون حذوهما، لكن مع ذلك، ظلّت التجارة عامةً وخاصّة في نفس الوقت، حيث تضمّنت التجارة تجّاراً مستقلّين إلى حدٍّ ما، ولم يكونوا واقعين تحت سيطرةٍ «استبداديةٍ» بالكامل، بالإضافة إلى موظفّين حكوميّين؛ وهذا ما أشار إليه المؤرّخ إنالجيك حول «بيت منديس»، الذي كان يديره يهودٌ مغاربة هاجروا من إسبانيا إلى الدولة العثمانية، فـ»كانوا يملكون شبكةً كبيرةً من العملاء في أوروبا»، إضافة إلى أنهم «امتلكوا حصّةً من التجارة العالمية آنذاك». 
عليه، لعبت الدولة العثمانية دوراً حاسماً في تجارة العالم، حيث كانت إسطنبول نقطة تلاقي طرق التجارة إلى البحر الأسود والمرافئ الدانوبية بطرق التجارة إلى الشرق حيث الهند وآسيا، ذلك بالإضافة إلى أن هناك طريق تجارةٍ عموديٍاً يمرّ عبر دمشق -بورصة -أكرمان -لوفوف، وهو الطريق الذي مرّت عبره السلع الشرقية لتصل إلى بولندا ودوقية موسكوفي وبلاد البلطيق.
غطّت العمليّات التجارية أوروبّا وآسيا سويّةً، وكانت الدولة العثمانية وريثة الهيمنة البيزنطية بعد أن استعادتها من البندقية وجِنَوَا، وقد ألهمت فكرة إعادة إحياء تجارة الامبراطورية الرومانية الشرقية محمد الفاتح، ولم يقتصر الأمر على تجارة المتوسط، بل كان هناك نوع من السيطرة العثمانية على المحيط الهندي أيضاً، حيث دعمت إسطنبول مملكة آتشيه الإندونيسية ضد القوى الأوروبية عسكرياً وتجارياً. 
عليه، نرى أن نشاط تجارة الحرير والقطن والقنّب التركي يدلّ على أن آسيا الصغرى كانت قد أصبحت مُصنِّعة في هذه المجالات قبل الجميع، أي قبل أن تُنافسها المراكز الغربية والروسية حتى، إذ تدلّ تجارة الحرير والبهارات أن هذه البلاد أظهرت نشاطاً تجارياً من النوع الذي يرتبط بالرأسمالية التجارية، والذي يقتضي درجةً معيّنةً من المشروع والمبادرة الخاصّين، والاستجابة لطلبات السوق، ولاشتراك الصناعة والتجارة.
وكان ذلك كلّه ما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، أي قبل أن يبدأ تدفّق الذهب والفضة القادمين من النهب الأوروبّي لأمريكا، وقبل أن تستعبد القوى الأوروبّية ملايين الأفارقة الذين أقامت بهم جحيم مزارع السكر في أمريكا الجنوبية، الذي كان يأتي أوروبّا من التجارة مع بلاد الإسلام فقط، وقبل أن يغيّر الأوروبيّون طريق التجارة عبر استحداث عشرات المستعمرات على السواحل الأفريقية والآسيوية؛ بالتالي، غيّر ذلك توازن الفرص وخلق الحدود، ومعه نشأت خرافة التقدّم الأوروبّي الذاتي والاستبداد الآسيوي.

خلاصة 
ما أردتُ إثباته في فحص هذه الحالات العثمانية الثلاث، بالتركيز على التقانة العسكرية، وحالة الفلّاحين، والتجارة، هو أنه من الخطأ التزام الرأي الأوروبّي الساذج مقارنةً مع تعقيد الواقع الفعلي. 
بالطبع، تطوّرت أوروبّا، ولكن هل كان هذا التطوّر بفضل الأنظمة الديمقراطية الأوروبّية مقابل «الاستبداد الآسيوي»؟ أو بفضل وجود مرحلةٍ تاريخيةٍ معيّنةٍ، على سبيل المثال لا الحصر، «الإقطاع»؟ أو بفضل وجود قانون، على افتراض غياب القوانين في العالم «اللاأوروبّي»؟ أو بفضل العلمانية التي يعبّر عنها برنارد لويس على أنها «فكرةٌ مسيحيةٌ بالأصل» مقابل حالة الركود في الإسلام؟
هذه الأفكار اللاتاريخية التي تسري مثل النار في الهشيم، ويتمّ تداولها دون أيّ تفكيرٍ، هي بالتحديد ما ينبغي اقتلاعه وتدميره.

أترك تعليقاً

التعليقات