ماذا يريد الأميركيون في لبنان والعراق؟
 

غالب قنديل

غالب قنديل (*)

خلال الأعوام العشرين المنصرمة، تمحورت الحروب والصراعات في المنطقة بين محور الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية ومحور المقاومة، الذي ما يزال حلفا دفاعيا عابرا للحدود ولم يتحول إلى كتلة متكاملة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، لأن فيه خواصر رخوة ناتجة عن مساكنة المحورين في العراق ولبنان وربما لاحقا في اليمن.
أولاً: تتحضر الدوائر الاستعمارية الغربية والأميركية، خصوصا منذ العام الماضي، لمرحلة ما بعد الانتصار الناجز للدولة الوطنية السورية. وقد بات من المسلمات أن ذلك هو مضمون التحول الكبير القادم الذي يخشى المخططون الأميركيون من نتائجه وانعكاساته على الصراع العربي الصهيوني، مع نهوض القدرة السورية الفاعلة والمؤثرة سياسيا وعسكريا كقوة استقلال وتحرر توفر دعما لا يستهان به لحركات التحرر والمقاومة في المشرق العربي، وتبدل في وزنها وتأثيرها مضمون التوازنات والمعادلات العربية. كما كانت دائما القوة الديناميكة الفاعلة التي تزعج الخطط الأميركية للهيمنة في المنطقة منذ كامب ديفيد، وفقا لمذكرات واعترافات المسؤولين الأميركيين منذ السبعينيات.
ثانياً: في سورية المقبلة على الانتصار، تتجمع مصادر قلق إقليمي أميركي من المستقبل ويمكن إجمالها بثلاثة عناوين:
أ‌- القيادة الصلبة المتمرسة والمتمسكة بخيار التحرر من الهيمنة الاستعمارية وبالهوية القومية والوطنية والدولة الوطنية الصلبة التي صمدت في وجه أخطر الزلازل المتخلية، وحيث سيبدو الرئيس بشار الأسد مع انتصاره بطلا أسطوريا باعتراف الإعلام الغربي بعد كل ما استهدفت به بلاده على يد ثلاث إدارات أميركية تصدرت الحلف الاستعماري الغربي وشبكة عملائه وحلفائه في العالم، منذ غزو العراق مع إدارة بوش الابن مرورا بإدارة أوباما – كلينتون وصولا إلى إدارة دونالد ترامب وقرارها المرتبك بمغادرة سورية.
ب‌- متانة الحلف السوري الإيراني المتحول إلى شراكة كاملة اقتصادية سياسية عسكرية واستراتيجية؛ وهو حلف قوي اجتاز أخطر الاختبارات وتعمد بقوة في ميادين متعددة منذ قيامه بعد انتصار الثورة الإيرانية وازداد صلابة وثقة، وهو تحول مؤخرا إلى نواة حلف إقليمي عابر للحدود يجمع حركات التحرر والمقاومة في لبنان والعراق وفلسطين واليمن، والقائد بشار الأسد هو صاحب فكرة التوجه شرقا كخيار تحرري.
ت‌- منذ الانخراط العسكري الروسي، تجمع سورية في شراكاتها وتحالفاتها المتقدمة نواة تكتل الشرق الجديد في العالم من خلال ما تمثله شراكتها النامية مع روسيا والصين وغيرها من الدول الصاعدة المناهضة للهيمنة الأميركية في العالم.
ثالثاً: يدرك المخططون الأميركيون والخبراء الاستعماريون البريطانيون والفرنسيون حجم التفاعل والتشابك الإقليمي الاجتماعي الاقتصادي والشعبي بين سورية ولبنان والعراق، وفي هذين البلدين قوى المقاومة التي تثير مخاوف أميركية من مخاطر تواصل بلدان المحور جغرافيا وتشابكها اقتصاديا وتحولها إلى كتلة مكتملة المواصفات تتحدى الهيمنة الاستعمارية بجميع أدواتها وتهدد بالذات مستقبل الكيان الصهيوني، القاعدة الأميركية الأهم في المنطقة. وفي هذين البلدين رضخ الأميركيون لتوازنات قاهرة فرضت عليهم لف مشاريع الهيمنة الكاملة على السلطة المحلية في بيروت وبغداد، والتراجع إلى قبول مساكنة سياسية بين عملاء الغرب والولايات المتحدة من جهة، والقوى اللبنانية والعراقية المنتمية إلى محور المقاومة من جهة أخرى.
اضطرت القوى الاستعمارية إلى حصر الأولويات بالاعتراض والتعطيل، ولم تكف عن محاولات هز التوازنات السياسية المحلية. وقد انصب الجهد الأميركي الغربي والصهيوني الرجعي سياسيا وميدانيا على منع أي انفتاح لبناني أو عراقي على سورية وإيران؛ لأنه سيدشن عهدا من التكامل الاقتصادي ويطور إرادة التحرر من الهيمنة الغربية ويغذي فرص التكامل الدفاعي في وجه العدوان الاستعماري الصهيوني، بل وهو في يقين الغرب سيفتح دروب الحشد إلى حدود فلسطين المحتلة في أي حرب كبرى محتملة. ومنع مثل هذا الاحتمال ظل أولوية استعمارية حاسمة منذ عشرينيات القرن الماضي.
رابعاً: إن المسعى الأميركي خلال الأسابيع الماضية لاستثمار نتائج العقوبات الاقتصادية الصارمة والتأزم المعيشي في لبنان والعراق وحصاد الخيارات المحلية المؤسسة على الرضوخ للهيمنة والتبعية في اقتصاد البلدين لاختبار فرص الإخلال بالتوازنات السياسية وتحجيم قوى المقاومة وحلفائها في الحكومتين العراقية واللبنانية، وبينما يدرك المخططون الأميركيون والغربيون استحالة قب التوازنات نحو الإطاحة بقوى المقاومة واستبعادها والخروج من خيار المساكنة. فهم يعملون على محاولة استثمار الغضب الشعبي ونقمة الساخطين لإخراجهم من دوائر الولاء للمقاومة وتأليبهم عليها كخيار ورموز بتحميلها مسؤولية معاناتهم وشيطنتها في نظرهم انطلاقا من تفاقم الفساد والمظالم الاجتماعية.
تستفيد التدخلات الأميركية من تركيبة النظام اللبناني القائم على التقاسم الطائفي، وكذا في نسختها العراقية التي استعيرت مع الاحتلال الأميركي منذ حقبة بول بريمر؛ وهي تتيح بتكوينها منافذ تدخل وتأثير متعددة داخل السلطة السياسية وخارجها، لاسيما من خلال ما بناه الأميركيون في البلدين من سطوة إعلامية وشبكات منظمة ومدربة من الأنجيئوز والنخب المتغربة الطامحة، وحيث يبنى ويروج خطاب متشعب عنوانه الفساد الذي عشعش تحت عباءة الهيمنة الغربية لطمس قضية التحرر الوطني. وقد وقع في الشرك الأميركي العديد من اليساريين والوطنيين وجمهور من حسني النوايا بفعل التيه عن التناقض الرئيسي وشيوع عقلية التجزئة مع القضايا والهموم المعيشية بعيدا عن جوهرها السياسي وبعزلها عن قضية التحرر من الهيمنة الاستعارية وأدواتها كشرط لأي تنمية حقيقية تحتوي الأزمات وتضع حدا لمعاناة الجماهير الغاضبة، وحيث يحصد أهل خيار المقاومة والتحرر نتائج غفلتهم عن ضرورة تبني خيار هجومي بالتوجه شرقا والتخلص من الهيمنة، بدلا من التكيف السهل داخل حكومات الوفاق الوطني وإخماد المقاربات النقدية الصارمة بداعي مداراة شركاء المساكنة في السلطة.
(*) كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات