تأليف الدول الكسيحة
 

روبير بشعلاني

روبير بشعلاني -  كاتب لبناني -

ما تعرضت له الامبراطورية العثمانية من تغلغل رأسمالي أوروبي طيلة قرن ونصف، ثم ما نتج عنه من مفاعيل تفكيكية وتقسيم ليس تفصيلا قديما ومضى، يكون ما يزال راهناً، وما نعيشه حالياً ليس إلا بعضا من آثاره.
وقد يكون هذا "الحدث التاريخي" فاتحة عهد جديد أو مرحلة نوعية جديدة، أو نمطاً معاشاً جديداً  يتميز بالتبعية المطلقة للرأسمالية الأوروبية.
لذلك، فإن معاينة ما قامت به هذه الرأسمالية عينياً، أي تاريخياً، والتدقيق به مسألة راهنة جداً، وليست هواية يتسلى بها التاريخيون. 
وبذلك، تكون قد أرست أشكالا وشبكات من العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تشكل أولويات الهيمنة الحديثة أو ما بعد الاستعمار.
أهمها ربما وأعظمها أثراً تركيب دول "حديثة" مكشوفة أمنياً واقتصادياً، ومن قياس وحجم لا يتيحان لها بناء دولة مستقلة، هو أولوية أساسية من شبكة الهيمنة الخارجية.
بناء دول قَزَمية يتيح للرأسمالية أن "تشتري" منها سلعها الطبيعية، مواردها، بسعر النهب (سعر لا علاقة للندرة أو للعرض والطلب أي دور فيه).
ومن فرط انكشافها الأمني وصغر حجمها، لا تستطيع هذه الدول - القزم (حتى عندما ترغب فعلا بذلك) أن تعترض لا على السعر ولا على طرق استخدام عوائدها. أولوية تتيح آلياً وتلقائياً إنتاج وإعادة إنتاج نخب حاكمة (ومعارضة كذلك) خارجية، تدين بوجودها للأمن الخارجي. وهذا ربما ما يفسر الدوران في الحلقة المفرغة. فالقبول بهذه البنية كمعطى تاريخي نهائي جعل السياسة تدخل بالقمقم الذي أعد لها أن تدخل فيه. لذا، فإن حال من ينسى هذا "التفصيل"، ويذهب نحو التغيير في الداخل الوطني "الذي أصبح نهائياً"، يشبه من يسير إلى الانتحار ببلاهة سعيدة.
فهو يتعاطى مع كيانات "وطنية" لا تملك شرط الأوطان الأول، المتمثل في الدفاع عن أمنها بمواجهة الأطماع الخارجية. وبدلا من الشروع في بناء الدولة المستحيلة، تسير النخب إلى اختراع خطاب يبرر هذا "الخطأ الصناعي" من نوع "قوتنا في ضعفنا" مثلاً، طبعا لكي تبرر دورها التابع في هذه المنظومة. وهي تصبح في حالة ضياع بنيوي كلي. عاجزة عن التمييز بين الداخل والخارج، وبين العدو والصديق.
حتى الدول التي تمتلك موارد اقتصادية هائلة وتفتقد لحجم كاف يتيح لها امتلاك وسائل أمنها تصبح ضعيفة ومكشوفة ومرتمية في فم الغول يأكلها بملء إرادتها.
الرأسمالية الأوروبية بنت لنا، بهذه الكيانات الهشة، فراغاً بنيوياً لكي تملأه هي، وعلينا ربما لكي نفلح أن نعود إلى "اختراع" دولة بحجم كاف تستطيع أن تمتلك وسائل الدفاع عن نفسها وعن مواردها وعن حق استعمالها، أو مبادلتها بقيمتها الفعلية، وعن أسباب الحياة المستقلة.
الاستقلال إرادة، لكنه توافر شروط ضروري.
(*) كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات