جبال نهم..بنيان مرصوص
 

وليد مانع

وليد مانع / #لا_ميديا -

انتابني الفزع حين أخبرني "أبو غزة"، المرابط في إحدى نقاط أمن المجاهدين، بأننا في "نقيل بن غيلان"، وأن الجزء الشمالي من النقيل كان حتى قبل عامين فقط تحت سيطرة مرتزقة العدوان! لم أكن أتخيل أنهم كانوا قريبين من العاصمة صنعاء إلى هذا الحد! قلت في نفسي: سلام الله على رجال الله وأنصاره، الأحياء منهم والشهداء، الذين قطعوا عنا دابر القوم.
بضعة اتصالات أجريناها من هناك، من نقطة "نقيل بن غيلان"، ثم قيل لنا إن شخصا سيلاقينا إلى سوق "بانيستر". في السوق التقينا شابا بدا في العشرينات من عمره. أخبرنا بأنه رسول سيوصلنا إلى "دليلنا". وعلى دراجته النارية سار أمامنا حوالى 15 كيلومترا، قبل أن يتوقف ليطلب منا إيقاف سيارتنا في مكان مناسب للتمويه تفادياً لغارات طيران العدوان. طال انتظارنا نسبياً، فعزمنا أن نغادر عائدين؛ لكنهما لحقا بنا، "الدليل" ورسوله، على الدراجة النارية. وبأدب جم، اعتذرا وأبديا أسفهما إذ تأخرا علينا... ورفقة "دليلنا" انثنينا باتجاه إكمال ما جئنا لأجله.
"الدليل" أيضاً في مستهل العشرينات، خجول، صموت، تبدو عليه الطيبة ونقاء السريرة. سألناه عن اسمه، فأجاب: "أبو طه"!
"إلى أين سنذهب يا أبو طه؟!"، سأله الأستاذ صلاح الدكاك، فأجاب: "أينما تشتوا"!
عرفنا حينها أن "أبو طه" لم يكن "دليلنا" الجغرافي والصحفي، وإنما هو فقط "حارس مرمى" الفريق الصحفي من هجمات طيران العدوان. ونتيجة للإحباط الذي اعترى الأستاذ صلاح ساعتئذ، التفت إلينا بصرامة قائلاً: الآن المهمة الصحفية ملقاة بالكامل على عاتقكم! أما أنا فسأحسبها رحلة استجمام أغسل فيها روحي من وعثاء المدينة والعمل، بمشاهد النصر وملاقاة رجال "البنيان المرصوص".
التفت بعضنا إلى بعض، وقد اعترانا القلق من تحمل مسؤولية بهذا الحجم، وبحضور الأستاذ صلاح شخصياً! رغم ذلك فقد أجمعنا أمرنا على حمل المهمة، موقناً «أنا» في سريرتي بأن المشاهد التي سنلقاها لا بد أن تثير حماسة رئيس التحرير وتدفعه ليمسك بزمام المهمة مجدداً، وهذا هو ما حدث فعلاً.
رغم ذلك، لم نبدأ بالتفكير والاهتمام بتنفيذ المهمة الصحفية التي جئنا لأجلها إلا بعد أن انتهينا أولاً مما اعتبرناه رحلة استجمام أخذتنا خلالها النشوة والابتهاج بما خلفته عملية "البنيان المرصوص" من مشاهد النصر والعزة.
5 دقائق تقريبا قطعناها من "بانيستر"، وأشار لنا ثلاثة مسلحين أن نتوقف. طلبوا منا أن نأخذهم في طريقنا، وهذا ما حرص عليه الأستاذ صلاح طيلة الطريق بعد ذلك، في ذهابنا وفي إيابنا، كأقل ما يمكن أن نخدم به المجاهدين. 5 دقائق أخرى، وبينما حاول الأستاذ صلاح أن يتفادى بعض الحفر التي خلفها طيران العدوان على الأسفلت (وما أكثرها!)، صاح أحد المجاهدين، إذ لم نتنبه لتلك العلامات على جانبي الطريق، أن نلتزم الخط الاسفلتي، وألا نحيد عنه، فثمة حقل ألغام على جانبي الطريق! حينها قال لنا "أبو طه" إن ذلك الموضع تحديدا -قبالة جبل القرن- كان هو نقطة التماس بين طرفي القتال قبل عملية "البنيان المرصوص". 

البيئة بنت إنسانها
وصلنا إلى مقر "قيادة اللواء 312 مدرع"، أول المواقع على الخط الاسفلتي التي حررها المجاهدون من أيدي المرتزقة، ثم تتالت المواقع. ويا لمشاعر النشوة والبهجة والاعتزاز بالنصر، تتوالى بتوالي المواقع المحررة.
كثير من جبال نهم ومرتفعاتها عبارة عن كتل صخرية هائلة. لكن الحقيقة أن المجاهدين كانوا أكبر كثيرا وأشد من تلك الكتل. وإن الذي قال إن الإنسان ابن بيئته، بالتأكيد لم يكن يعلم أن الأمر يصبح هنا بالتحديد مدحاً وتشريفاً للبيئة، أكثر منه تشريفاً لابنها: اليمني.

غصــة
لم يلبث ذلك الشعور بالنشوة والابتهاج والزهو، الذي توالى في نفوسناً جميعا بتوالي المواقع المحررة، أن تلاشى، لتحل محله غصة عكرت في نفسي أجواء النصر والعزة والكرامة. هذا هو "معسكر السعاودة"، قال أحد المجاهدين المرابطين هناك. ولقد بدا واضحاً أنه بالفعل كان معسكرا لقوات من الاحتلال السعودي. كل شيء في ذلك المعسكر كان مختلفا عما رأيناه في مواقع ومعسكرات المرتزقة اليمنيين: المتارس، البناء، المخلفات، وسائل الترفيه...
لم أتوقع أن أجد هنا معسكرا سعوديا! استعادت ذاكرتي شريط بل أشرطة ما عرضه الإعلام الحربي عن عملية "البنيان المرصوص"، فلم أذكر أنني وجدت فيها الشيء الكثير عن هذا المعسكر! كيف لمعسكر كهذا أن يفوته الإعلام الحربي؟! وما الذي فوته تحديدا؟! هل فات أعينهم أن ترى حقيقته وأبعاده، أم فات عدساتهم أن تعرض منه ما يكفي ليشعر الناس بحقيقة الخطر الذي كان يحدق بهم، وإلى أي حد بلغ الأمر بالمرتزقة في إدخالهم السعوديين إلى رحم وقلب التربة اليمنية؟!...
ما رأيته في ذلك المعسكر استدعى إلى أيضا ذهني ومخيلتي أمرين اثنين احترتُ وأنا أكتب هذه السطور بأيهما أبدأ، وأيهما أشد وطأة!! ثم حسمتُ أمري!
أما أحدهما فمجرد سؤال: كم يا ترى من المعسكرات المماثلة التي تنشب مخالب غطرستها وعنجهيتها بقلب التراب اليمني في المناطق والمحافظات المحتلة؟! لا شك أنهم هناك يعيثون في أرضنا تماما كما تعيث طائراتهم في سمائنا هنا، وهناك أيضا!
أما الأمر الآخر فهو نتاج المقارنة السريعة بين هذا المعسكر وبين المعسكرات والمواقع المحيطة به!
بدا الأمر وكأنّ كل تلك المواقع والمعسكرات لم تكن إلا لحماية قوات الاحتلال هنا! كما وبدا أن مختلف الأوامر والتوجيهات إنما تصدر من هذا المعسكر "الفخم"!
وبينما ترك المرتزقة اليمنيون وراءهم: كيلو سكر، علبة تمر، بقايا قات... فإن ما تركه السعوديون وراءهم كان عبارة عن: معجون وفرشاة أسنان، شامبو، كريم حلاقة، جوارب فخمة، مشط، أدوية للغرغرة والمضمضة، علب لمنتجات سعودية (عصائر وألبان...)... وكتاب من إصدارات وزارة الدفاع السعودية عنوانه "نحو النصر"!!
وفي حين تمتع السعوديون بمهاجع مزوّدة بأسرَّة وأجهزة تكييف، وحمّام مزوّد بسخّان مياه ومواد بناء "إفرنجي" (وكل ذلك محمي بصفوف من المتاريس الشبيهة بتلك التي نراها على شاشات التلفاز لقواعد ومعسكرات القوات الأمريكية في أفغانستان مثلا)، فإنك كثيرا ما ستصادف في مواقع المرتزقة اليمنيين علباً بلاستيكية فرغ ماؤها، فملئت بالبول!
ستتساءل بالتأكيد: هل كان هؤلاء المرتزقة جبناء أو كسالى إلى هذا الحد الذي يمنعهم من مغادرة مهاجعهم حتى للتبول؟! أم أن رجال الله وأنصاره كانوا قد أطبقوا عليهم الحصار إلى هذه الدرجة؟!

توم وجيري في نهم..
بوصولنا إلى ذلك المعسكر السعودي، كنا قد اقتربنا من "مفرق الجوف". حوالى ساعتين ونصف الساعة، توقفنا خلالها في المواقع التي حررها "البنيان المرصوص"، والحياة في الخط الأسفلتي "طبيعية"، لا فرق بينها وبين ما رأيناه في طريقنا من صنعاء وحتى "بانيستر"!
واصلنا طريقنا باتجاه المفرق، وقبل أن نصل استوقفنا أحد المجاهدين، وبحزم طلب منا أن نجد على الفور مكاناً مموهاً لنوقف السيارة، وأن نغادرها وننتشر في المكان متباعدين بلا حراك. كان على وجهه ضمادة لجرح تركته فيه عملية "البنيان المرصوص". جلستُ على مقربة منه، ورحت أتجاذب معه أطراف الحديث، وإن توقف بين الحين والآخر ليسمع ما يأتيه من تعليمات عبر جهاز لاسلكي في يده.
- وين عازمين؟!
- مفرق الجوف!
- هوذاك هاه! (وأشار بإصبعه نحو موضع قريب في الوادي الفسيح تحتنا) لماذا لم تموهوا السيارة قبل أن تأتوا؟!
- ما كناش داريين!
- مش مشكلة، بس عاتتأخروا شوية!
- طيب لو المشكلة في تمويه السيارة، ليش ضروري نجلس متباعدين وبلا حراك؟!
- الطيران هنا يرصد أي حركة ويستهدفها... حتى أنه قبل ثلاث أيام استهدف حمار... صاروخ بكذا كذا، وبالدولار، يضربوا به حمار!... احنا والطيران ملاحقة طول اليوم، قد احنا سع توم وجيري!
ضحكنا، واستطرد ضاحكاً أيضا:
- ورغم انه "توم" كبيييير، لكنه دائما مهزوم!

... نصف ساعة تقريبا، كنا نسمع خلالها عبر اللاسلكي: الإخوة المجاهدين في مفرق الجوف موّهوا وانتشروا، الإخوة في السايلة موِّهوا... المجاهدين في تبة...
كان الأخ المجاهد بجانبي يوضح لي مشيرا إلى الجهات المقصودة بتعليمات فريق الرصد الدقيق لحركة طيران العدو!
وفجأة التفت إليَّ وقال صارماً:
- خلاص، قم رُح لك بعيد شوية! الهدف المقصود الآن التبة اللي جنبنا تماما!
رددت عليه مداعبا:
- سهل، خلينا أنا وانت نكون الهدف، من أجل يصبح لحمنا ودمنا واحد!
- لحمنا ودمنا واحد واحنا فوق الأرض، أحياء... أما في القبر فكل البشر لحمهم ودمهم واحد، الأخ والعدو!
نهضتُ مبتعداً وقد أدهشني ما سمعتُهُ منه! تذكرتُ أولئك اليمانيين، الذين وفدوا على رسول الله (ص) أفواجاً ليعلنوا إسلامهم. قلت في نفسي: لا بد أن أحدهم قد قال للرسول شيئاً كهذا، ليعلن صلوات الله عليه وآله: "الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية"!

أترك تعليقاً

التعليقات