تشابك المؤشرات ودلالاتها
 

بثينة شعبان

د. بثينة شعبان - المستشارة السياسية والإعلامية للرئاسة السورية -

ليس من الواضح اليوم ما إذا كان أي من الأطراف المنخرطة في الصراع في سوريا يطمح إلى تغيير الواقع والتوصل إلى نتائج يرضاها، أم إذا كان طامحاً إلى احتواء الواقع فقط ومراكمة أوراقه على طاولة المفاوضات المقبلة.
ولكنّ الواضح تماماً اليوم ومن دون أدنى شك هو أن الحرب الإرهابية المجرمة التي تعرّض لها الشعب السوري وجيشه وأرضه أتت بدافع وتخطيط وتمويل من حكومات معادية معروفة، ومشاركة حقيقية، وفي أوجه مختلفة منها، من قبل رئيس النظام التركي أردوغان، الذي وعلى مدى تسع سنوات كان يستخدم كل السبل والوسائل الممكنة لإبقاء الإرهابيين على الأرض السورية بعد أن فتح لهم مطاراته وحدوده، وما الزّج بجيشه اليوم وقواته وعتاده إلى الأرض السورية سوى اعتراف منه بأن أدواته تتلقى الهزيمة تلو الأخرى وأنه يغيّر قواعد اللعبة من أجل إنقاذهم من الهلاك.
هذا يبرهن للقاصي والداني أن أردوغان هو الداعم الأساسي للإرهاب الذي ضرب سوريا، وأنه المستفيد الوحيد من هذه الحرب، وأنّ كلّ أكاذيبه وادعاءاته عن معاناة بلاده من اللاجئين وابتزازه الأوروبيين للدفع له ما هي إلا ألاعيب مكشوفة ومقيتة يعجب المرء من أنها قد تنطلي على بعض الأوروبيين؛ إلا إذا كانوا يشاركونه حرصه على دعم الإرهاب واستمراره على الأرض السورية.
وانكشاف اللعبة لن يمرّ من دون ثمن بعد أن خسر أردوغان معظم أوراقه وأصبح واضحاً للجميع أنه يحاول نقل دعمه للإرهاب إلى ليبيا أو أوكرانيا أو تركستان أو القرم أو حيثما تطلب الوضع الذي يتخيل أنه قد يضمن له السلطة العثمانية أو القيادة الدولية للإخوان المسلمين الذين ينشرون الإرهاب ويشوّهون صورة الإسلام ويساندون القوى المعادية على تفتيت بلدانهم وضمان تبعيتها للقوى الغربية الطامعة في نهب ثرواتها. وفي هذه الاندفاعة لأردوغان لإنقاذ الإرهابيين دخل حقل ألغام مع روسيا لن يتمكن من الخروج منه إلا بعد تغيير قواعد اللعبة التي استمرّ عليها خلال السنوات الماضية، خاصة وأنه يحتاج روسيا أكثر مما تحتاجه بكثير.
إذ في الوقت الذي يعمل فيه الجيش العربي السوري وحلفاؤه على تغيير الوضع الراهن واجتثاث فلول الإرهابيين من سوريا يحاول أردوغان جاهداً الحفاظ على الوضع الراهن وتعزيز أكاذيبه بالنسبة لاتفاقات سوتشي وأستانة والتي لم يلتزم بها يوماً، بل هو يحاول تغيير الوضع الراهن إلى وضع مستقبلي في سوريا، وهو ما تعيه القيادة السورية تماماً وتبذل كلّ ما بوسعها لمنعه من التوصل إلى ذلك؛ فبالرغم من زيارة جيمس جيفري إلى تركيا وبعض التصريحات من أعضاء الناتو هنا وهناك من الجليّ اليوم أن اللاعب الأساسي الذي يتعامل معه أردوغان سياسياً هو الرئيس بوتين، وأنه الوحيد المؤثر في حسابات أردوغان، شاء أم أبى، خاصة وأن العالم برمته كشف أكاذيبه في مجالات عديدة ولم تعد مؤتمراته الصحافية اليومية قادرة على إقناع أحد بما يدعيه، والذي أثبت أنه عارٍ عن الصحة وعلى مدى سنوات.
لا شك أن الجيش العربي السوري وحلفاءه مستمرون في التقدم، وأن الإرهاب إلى زوال في سوريا، وأن فرصة أردوغان الأخيرة هي أن يتعامل مع روسيا وإيران بما تقتضيه الاتفاقات المبرمة في سوتشي وأستانة، وإلا فإنه سوف يلقي بنفسه إلى هاوية أعماله التي قصد بها تدمير الآخرين، ولكنها سوف تعود وبالاً عليه كما عادت على أمثاله في مفاصل تاريخية ومناطق جغرافية كثيرة. في خضمّ تعقيد المعارك الجارية على الأرض السورية واقتراح إيران أن تؤدي دور الوسيط وتجاهل أردوغان الكلّي لهذا الاقتراح ينبري رئيس الكيان الغاصب بنيامين نتنياهو ليعلن أنه يعمل في السرّ والعلن من أجل تشكيل تحالف «إسرائيلي» ـ غربي ـ خليجي ليواجه التحالف الذي أنجبته الحرب على سوريا بين سوريا وإيران والحزب، وهو التحالف المقاوم، وبين سوريا وروسيا وإيران والعراق، وهو التحالف في مواجهة الإرهاب.
ولا شك أن هذين التحالفين يقلقان الكيان الغاصب ويشعرانه بخطر لم يشعر به من قبل، خاصة أن ألاعيبه هو الآخر في السياسة الأمريكية بدأت تنكشف للأمريكيين أنفسهم وبدأت الأثمان التي دفعها ويدفعها الشعب الأمريكي تظهر باهظة لشريحة فاعلة ومؤثرة في السياسة الأمريكية.
إذ ليس من المعتاد أن يتوصل مجلس النواب الأمريكي إلى قرار بأن اغتيال القائد قاسم سليماني صعّد التوتر مع إيران وأنذر بانزلاقنا لحرب معها لا يريدها الشعب الأمريكي، وأن التبرير المخادع المقدم بعد اغتياله غير كافٍ. وينص البيان أيضاً على أن الإدارة ادعت كذباً أن «الكونغرس صادق على شن الغارة وفق قرار حرب العراق عام 2002 وهذا منافٍ للعقل».
وللتذكير فقط فإن ترامب في مسرحية كلمته عن «صفقة القرن» أمسك بيد شريكه نتنياهو مرتين: مرة حين قال له: «لقد انسحبنا من الاتفاق النووي الإيراني»، ومرة أخرى حين فاخر باغتيال قاسم سليماني وكأنه يقول لنتنياهو: حققنا لك هذين الهدفين «الإسرائيليين» وها هو مجلس النواب الأمريكي يعتبر اغتياله والتصعيد مع إيران منافيين للمصلحة الأمريكية ولمصلحة الشعب الأمريكي. ولا شك أن ذكرى حرب العراق وتذكّر من اختلق الأكاذيب في وقتها ودفع بالولايات المتحدة إلى حرب لا تريدها يعيد التأكيد مرة أخرى على خطورة العامل «الإسرائيلي» في السياسة الأمريكية، والذي بدأ الشعب الأمريكي باستيعابه والوقوف ضده بأشكال وأوجه مختلفة.
ومن هنا يأتي تصريح رئيس وزراء الكيان عن محاولة إنشاء تحالف غربي ـ«إسرائيلي»ـ خليجي ليعبّر كما عبرت دراسات «إسرائيلية» عديدة عن قلق الكيان المحتل العميق من نتائج الحرب على سوريا، والتي ولدت تحالفاً إقليمياً ودولياً يقضّ مضاجع داعمي الإرهاب وينذر المحتلين المستعمرين بأن المستقبل لن يكون كما يريدون ويرغبون، ولذلك فإنهم يحاولون إرساء أسس مختلفة لهذا المستقبل تضمن وجودهم وقوتهم، رغم أن المؤشرات الحقيقية والمعقدة تؤشر إلى اتجاه معاكس تماماً لتصريحاتهم ورغباتهم وخطبهم الطنانة والتي لا تجد لها مستنداً مادياً على أرض الواقع.
ومن أهم هذه المؤشرات أيضاً قرب انفراط عقد الناتو في ميونخ، حيث هاجمت ألمانيا وفرنسا السياسة الأمريكية، واعتبر البعض أن الناتو في حالة موت سريري، وبدا واضحاً أن الفراق بين السياسات الأمريكية والأوروبية أصبح أمراً واقعاً اليوم، وأن بعض دول أوروبا تتجه للتعاون مع روسيا، مما سيزيد ولا شك من عزلة الولايات المتحدة وعزلة الكيان الصهيوني معها داخلياً وإقليمياً ودولياً.
المعركة المشرفة اليوم التي يخوضها الجيش العربي السوري في إدلب وحلب تنذر الأعداء بأن خواتم الأمور ستصبح لصالح من قاتل واستشهد وضحى من أجل اجتثاث الإرهاب، وتبشّر الأصدقاء والحلفاء بأن هذه المعركة مصيرية في رسم آفاق المستقبل. كما أن صمود سوريا وإيران وروسيا في وجه العقوبات الأمريكية الظالمة ورغم كل الألم الذي تسببه للملايين من المدنيين الأبرياء يبشر الصابرين بانكشاف الحقائق في الميدان أولاً وعلى الساحة العالمية والأمريكية والأوروبية بأن كل الأكاذيب التي تم الترويج لها على لسان أردوغان ونتنياهو تتكشف اليوم لجميع المتضررين وعبر الساحات وعبر الأطلسي، وأن المسالة مسألة وقت ليتشكل المستقبل بناء على تضحيات المضحين ودماء الشهداء والجرحى وآلام الصابرين، ليتأكد العالم مرة أخرى أن «الزبد يذهب جُفاء»، وأنّ «ما ينفع الناس يمكث في الأرض».
لا شك أن الوقت مناسب جداً لإطلاق كلّ قضايانا إلى المستوى العالمي، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لأن المواقف داخل البلدان والأقاليم أصبحت متشابكة لدرجة لا يمكن التساهل أبداً في إيضاح الحقائق وإيصال صوت الحقّ إلى مبتغاه. العالم اليوم بالفعل في حالة إعادة تشكّل على أسس مختلفة عن تلك التي عهدناها والمجال رحب للعمل والصبر ودعم الحقّ والإيمان الأكيد بالنصر.

أترك تعليقاً

التعليقات