هو منشد من نوع فريد، يشهد له كل من سمعه بالتألق والإبداع، ويمتلك خامة صوتية مميزة واستثنائية.. بارع في أداء الأغاني التراثية بشكل تجديدي لا يخلو من روح الابتكار، وكذلك تقديم الشيلات والأناشيد والزوامل الشعبية، وأعماله الوطنية التي صدح بها ضد العدوان السعودي معروفة لدى قطاع كبير من المستمعين.. يعتبر المنشد الأول في محافظة عمران، وقد تجاوزت شهرته المحافظة إلى محافظات مجاورة، وله حضوره البارز والملفت في أغلب الأعراس.. وقد أطلق عليه لقب (بلبل الألحان) لتفرد ألحانه وتنوعها، وصوته الأخاذ.. ضيف صحيفة (لا) لهذا الأسبوع هو المنشد الرائع الأستاذ محمد عبدالله العباسي الذي قابلنا ببشاشة وترحاب، وخرجنا معه بالحصيلة التالية:
بداية مبكرة
 متى كانت البداية أستاذ محمد في احترافك للإنشاد ودخولك فيه؟ ومن الذي شجعك وأخذ بيدك أول الطريق؟
في المستهل أشكر القائمين على صحيفة (لا) على هذه الاستضافة الكريمة.. وبالنسبة لبدايتي في الإنشاد كان ذلك وأنا في العاشرة من عمري؛ حيث كان حب النشيد يجري في شراييني.
أما عن الذين شجعوني ودعموني منذ انطلاقتي الأولى فعلى رأسهم والدي الفاضل، وكذلك الشيخ القدير بدر حميد الذرحاني، والأستاذ العزيز عبدالله مرشد الذي أعتبره دائماً بمثابة أخ لي، وأيضاً بعض المدرسين الأجلاء في تلك المرحلة، وأصدقاء الطفولة.

صعوبات مادية
 ما هي الصعوبات والعوائق التي واجهتها آنذاك؟
الصعوبات وقتها كانت مادية بحتة؛ إذ كان الوضع صعباً، ولم أكن أملك مالاً أشتري به أجهزة أستطيع من خلالها الرفع من شأن ملكاتي الإنشادي والارتقاء بها.

مثلي الأعلى
 من كان مثلك الأعلى في هذا المجال؟
هو أستاذي القدير حمود البحري، أحد نوابغ الإنشاد في مديرية مسور، ولن أنسى ما حييت مؤازرته لي ووقوفه إلى جانبي في الوقت الذي كان فيه المحيطون بي يزرعون بذور اليأس في نفسي، ويعملون على تحطيم قدراتي.

الليث يبهرني
 من المنشدون الذين تحب الاستماع إليهم؟
يعجبني الاستماع إلى العديد من المنشدين، أمثال الأخوين فؤاد جعوان وخالد محرم.. ويبهرني تميز ورقي المنشد الحربي عيسى الليث.. وكذا صوت الشهيد المجاهد لطف القحوم.

التحدي والصمود
 أعمالك شائعة مشهورة، ويتلقفها الناس بالقبول، يا ترى ما هو أحب وأقرب عمل إلى قلبك من بين الكم الهائل مما قدمته طيلة 20 عاماً؟
أحب كثيراً الزوامل والشيلات، أما بالتحديد فهما عملان اثنان، أولهما (التحدي والصمود)، وهي وطنية في مواجهة العدوان كما لا يخفى عليك، أما الثاني فهو شيلة (جننت في الغربة) التي كتب كلماتها الشاعر القيصر عبدالفتاح الزبيدي.

هروب من حفلة عرس
 هل هناك موقف طريف واجهك في أحد الأعراس ومازال محفوراً في ذاكرتك إلى الآن؟
لعل الموقف الظريف الذي ما برحت أتذكره حتى اليوم هو ما حدث معي في إحدى القرى لإحياء مناسبة فرائحية، فقد كان هناك خلاف بين أهالي تلك القرية والقرية المجاورة، وانقسم أبناء المنطقة إلى فريقين: فمنهم من رأى أن تجرى الزفة في ديوان القرية؛ حرصاً على سلامة العريس، وتحاشياً لأي شر قد يحدث، بينما أصر البقية على الزفة في مكان مكشوف، وتم الاتفاق على ذلك، وأثناء الزفة وقبل وصولي إلى الأنشودة الختامية (مرحباً يا نور عيني..) رأيتهم يدفعون العريس، ولم أكن أعلم حينها أن العادات عندهم تقتصر على بعض المقاطع في الزفة، فاعتقدت أن خصوم القرية قد فجروا مشكلة، فهربت مذعوراً، ووليت بكل ما أوتيت من قوة فراراً بجلدي، وتبعني أبناء المنطقة وهم يحاولون التهدئة من روعي، ويصيحون: لا تخف.. ارجع لم يحدث شيء.. وكنت أقفز من الهلع.

تعاون
 من أهم وأبرز الشعراء الذين تعاونت معهم؟
هم شعراء عديدون؛ ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر، شاعر الوحدة الشيخ محمد مبخوت الذرحاني، والشاعر الفذ أمين السريحي، والشاعر الكبير أمين السلامي، وغيرهم من عمالقة الأدب.

الشيلات أكثر صعوبة
 لديك موهبة في الجمع بين كل الألوان؛ فأنت تؤدي الزامل والقصيدة والشيلة وسواها.. أين تجد نفسك بين هذا كله؟ وما هو أصعب الألوان أثناء الأداء؟
أجد نفسي في الزوامل والشيلات كما أسلفت بصورة أخص، وأنسجم معها للغاية، وأشعر أن الناس يستمتعون معها جداً ويتفاعلون بشدة، أما الصعوبة فتكمن في تأدية الشيلات؛ فهي تستدعي نفساً طويلاً، وأداءً متواصلاً، وتحكماً في الصوت ليس لازماً في الألوان الأخرى.

الكلمة أحد أبواب الجهاد
 ما هو واجب أرباب الأدب والفن في ظل الوضع الراهن؟
لا شك ولا ريب أن واجبهم عظيم، والمسؤولية الملقاة على عاتقهم مهمة، والمفترض ألا يتقاعسوا عن القيام بالدور المطلوب منهم، لاسيما والوطن يتعرض لعدوان بشع يستهدف الجميع، وينبغي أن يجاهدوا بالكلمة، وهي أحد أبواب الجهاد، ويرفعوا عقيرتهم في وجه الأعداء، كما يفترض أن يدعوا إلى وحدة الصف، ولم الشمل، والترفع عن الصغائر، وغض الطرف عن سفاسف الأمور، فالظرف المعاش يحتاج إلى التكاتف، ولعل المنشدين والشعراء ومن على منوالهم هم الأولى والأجدر بهذا الشأن.

روح وطنية خالصة
 أنشودة (التحدي والصمود) التي أخرجتها إلى النور بلحن حماسي جميل انتشرت على نطاق واسع.. من مؤلفها؟ وما السر في ذيوع صيتها برأيك؟
هذه الأنشودة ألفها الشاعر أمين السريحي، أحد شعراء عزلة التهام مديرية مسور، أما عن العوامل التي أشهرتها بين الجمهور المتلقي فمن بينها أنها تحمل روحاً وطنية خالصة، وتتحدى التحالف الأرعن، وأيضاً لأنها امتازت كما ذكرت بلحن حماسي يتناسب مع موضوعها.. ومن المعلوم أن القصائد والأناشيد الوطنية المغناة تلقى رواجاً واستحساناً لا مزيد عليه.

الحارثي رمز فني
 من الأمور الملفتة للنظر في مسيرتك تألقك في محاكاة الفنان الراحل محمد حمود الحارثي أكثـر من غيره.. فما السبب؟
الفنان المرحوم محمد حمود الحارثي قامة عملاقة، ورمز فني بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ومحاكاته شرف لأي منشد، وأنا أميل إليه باستمرار، وإلى التغني بروائعه المليئة بالشوق والحب واللوعة، لأنه الأقرب إلى ذائقة المستمعين حسب ظني، وأغانيه مطلوبة ومرغوبة في الأعراس.

محاولات خجولة
 هل تنظم الشعر أستاذ محمد؟ وماذا عن سماع جمهورك لعمل من كلماتك؟
أحياناً فقط.. لكنها محاولات قليلة، وتنحصر في الزوامل فحسب.. وليس وارداً على الإطلاق أن أؤدي عملاً من كلماتي.

حذار من السقوط
 باعتقادك كيف يمكن للمنشد أن يحافظ على مستواه؟
من خلال اهتمامه ببعض الجوانب، وحرصه عليها، ابتداء من التواضع، والتعامل بأخلاق طيبة، والابتعاد عن الغرور الذي لا خلاف على أنه سرطان الإبداع ومقبرة المواهب، فجدير بالمنشد مهما علا شأنه وارتفعت مكانته، أن يحذر من التعالي والنرجسية، وفي الواقع أمثلة وقصص لأولئك الذين غرتهم أضواء الشهرة وبريقها الخادع، فداخلهم الغرور، وسقطوا في مستنقع الفشل الذريع، وتغافلوا عن قول الشاعر:
(ما طار طير وارتفع
إلا كما طار.. وقع)
ومن الأمور التي ينبغي مراعاتها بالنسبة للمنشدين المتخصصين في الأفراح، الرحمة والرأفة بمن يطلبونه لإحياء عرس ما، فلا يشطط ولا يبالغ في طلب المال، فطبقات الناس تتباين، وحالاتهم المالية تختلف، وهذه مسألة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، لاسيما في مثل هكذا وضع.

 سطع نجمك في الأعراس.. فما هو الطابع الذي يشدك في الزفة؟
هما الطابعان اللحجي والشامي، لأنهما يتسمان بالحماسة، ويتفاعل معهما الحضور بشكل ملفت.

ضد الانفلات الفني
 هل تعتقد أن الجمع بين الأصالة والمعاصرة أصبح ضرورة؟
أنا من النوع الذي يحبذ القديم وينحاز له، وأرى ضرورة المحافظة على التراث الأصيل، وحمايته من الاندثار والتلاشي، مع تطعيمه بشيء من الحداثة، وأتحفظ على الانفلات الحاصل بهذا الشأن من انسياق بعض الإخوة خلف أغانٍ ليس بها رائحة للتميز أو الإبداع مما يسمونها عصرية.. وقد اعتذرت أكثر من مرة عن بعض الأعراس بسبب ميول الموجودين التي لا تتناسب مع قناعاتي ومبادئي.

عصر الإنشاد
 كيف ترى واقع الإنشاد في بلادنا حالياً من وجهة نظرك؟
واقع مبشر بالخير، ويبعث على التفاؤل.. فالملاحظ تزايد أعداد المنشدين المقتدرين، سواء من تخصصوا وشاع ذكرهم عبر الزوامل الوطنية، أو من يقتصر تواجدهم على المناسبات الاجتماعية، وتدني عدد الدخلاء على المهنة. والمعلوم أن الإنشاد يشهد صحوة ونشاطاً بعد فترة من الركود والتدني.