على ضوء صواعق ولهب الحنين تدلف الكاتبة قبو الحقبة المنسية وتهبط سلالمه المجدولة بغزل العناكب وصولاً إلى لحظة سحيقة من العام 1922م، لتبدأ رحلتها من أريكة أمها المحتضرة، مبحرة في خضم مآتم وأعراس ودموع وزغاريد ودماء وقصص حب ومؤامرات ومسامرات عائلية حميمة ودواوين شعر ودواوين حكم وأصوات مزاهر وفحيح أفاعٍ وأبهاء ملكية وسجون وولادات وإعدامات وانقلابات ومكائد حريم ونزوح وجوازات سفر و... منفى!
إنها كتابة اجتماعية (نوستولوجية) تحت سماء حمراء محتدمة بالصراع وحافلة بالأحداث، لا تخلو من زخات فرح تعشب قرنفلات حزن على امتداد رحلة شاسعة الوحشة، تطيح خلالها تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين، بالصور المثالية الراسخة في أذهان كثيرين عن (الثورات الثلاث 48، 55، 1962م)، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تتعمد الإطاحة بها، ودون تخطيط مسبق..
كتاب مغاير مخيف لا يقرأه أصحاب الضمائر الضعيفة وعديمو النخوة.. نضعه بين يدي القارئ على حلقات، إيماناً منا بأن فتح الجروح القديمة وتنظيفها أسلم لعافية أجيالنا من مواربتها وتركها تتخثر.
ووصلت بنات خالي، وأقمنا مأتماً في الحمام، بكينا حتى أرهقت عيوننا، وقرأنا آيات من القرآن الكريم، ومن ثم خرجت إلى بيت خالي، وكان خالي وقتها في المسجد، وحال وصولنا رمى بين يدي عمامته، وقال:
هذا جاهي عليكم تبقوا عندنا (وفي عرفنا وتقاليدنا أن طرح العمامة بين يدي المترجى مسألة كبيرة وشأنها عظيم).
وكان جوابي: بشرط لا معزين ولا مواسين.
فقبل الخال، ونادى الحارس، وألزمه بمنع كل واصل أياً كان، وجهزت حجرة ابنتهم لنا، وكانت أسرة خالي ترتدي كلها ثياب الحداد السوداء.
وجاءني سائق زوجي، يسأل عني، من أجل عودتي إلى البيت، فقلت لهم: أبلغوه أني في بيت خالي، ولا أريد العودة في هذا الوقت.
ووصل زوجي مرتبكاً مضطرباً، يسألني:
ما الذي يضايقك، ويتوسل ألا أزيد على نفسي، وكفى تعذيباً لنفسي، فإنه القضاء والقدر، مصابنا كبير وما علينا إلا الصبر والصبر وحده.
كان زوجي متلهفاً لسماع أية كلمة مني، فقلت له: إني هنا في بيت خالي لاقيت أهلاً، حزنهم لا يقل عن حزني، وتعريضاً بالمثل والاستفزاز الذي أسمعوني إياه في بيت ابن الوزير، كان زوجي يتردد لزيارتنا يومياً، وظني أنه كان يترصد إن كنت عرفت شيئاً عن الأحداث التي تجري وعن القتلة، فيخمده قبل أن يفشى أمره، واطمأن بأني لا أعرف شيئاً، وما بقائي في دار خالي إلا ردة فعل لما سمعته من أقوال استفزتني.
كنت أسمع من بيت خالي تراشقاً بالرصاص بين جماعات متقاتلة، وفي أغلب الأحيان يشتد، وفي بعض الأحيان يهدأ، وأدركت أن الناس غاضبون لفعلتهم النكراء.
في أوائل الأسبوع الثالث لاستشهاد والدي ناداني خالي إسماعيل رحمه الله، وانزوى بي في قرنة (زاوية) من البيت حيث لا يسمعه أحد، وتلفت يميناً وشمالاً، الممرات خالية، والخدم قد هجعوا، واستوثق أننا وحدنا، وبصوت منخفض اقترب مني وقال: 
سأقول لك سراً مهماً، لا يمكن أن أقوله لأهلي وبناتي، وعليك يا تقية حفظه، لأن فيه حياة أو موتاً.
تفتحت أذناي وحدقت عيناي، وانتصبت قامتي، وتمالكت أنفاسي وكبت أحزاني، وقلت: 
تفضلوا، ولكم الأمان، وحفظ السر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. 
قال: يذاع بين الناس أن المتآمرين على قتل مولانا هم بيت الوزير، واستناداً إلى مجريات الأحداث فإن سيدي عبد الله زوجكم، هو من أول المتآمرين، وهو الذي دبر عملية اغتيال الإمام.
أحسست أن الأرض تميد بي، وبدني يرتج، وكأن زلزالاً أمسكني ودوامة بحر خطفتني إلى أعماق الأعماق، أكاد أجن من هول ما سمعت. زوجي أول المتآمرين على قتل والدي؟ وأعمامي آل الوزير وصل الحقد بهم إلى اجتثاث أسرتي، وخيانة تراث الأئمة التاريخي؟
وبدأت أعيد ترتيب ما حدث معي في الأيام السبعة السابقة، حينها أدركت سبب سرعة وجود زوجي بقربي حينما أغمي علي لدى وصول خبر اغتيال والدي وإخواني والحفيد، وعرفت في ما بعد أنه كان على سطح منزلنا، ينتظر إشارة من المجرمين القتلة تنبئ بأن عملية الاغتيال قد تمت، وقلت: الله ولي أمري وهو وحده يتولاني.
كنت أظن أن الاجتماع في ديوان بيتنا إنما كان للتخطيط لرحلة سرية مكتومة، فإذا به اجتماع تنفيذ مؤامرة قتل والدي في وضح النهار. ولم أفق من شرود ذهني وحساباتي إلا ويد خالي الطاهرة تمتد إلي وتمسكني, ويقول: 
سأطلعكم على سر آخر، ولكن ما لي لا أستطيع الحركة؟ قدماي لا تقويان على الانتقال كأنهما غرزتا في الأرض، وتسمرتا في حجرة البيت. حرضني خالي إسماعيل يرحمه الله على السير، فاتكأت على يده ومشى بي جراً إلى منزله الثاني، وكان ملحقاً به ديوان للرجال، فتقدم نحو الباب، وشقه فتحاً خفيفاً موارباً، وقال: 
انظري، فنظرت فإذا أكداس من الأسلحة بنادق وعيارات نارية، وفي أعلى الديوان رأيت رجالاً متحضرين، فنادى خالي أحدهم وعرفه بي، فتقدم الرجل نحو الباب، وخاطبني قائلاً: 
قري عيناً يا بنت أمير المؤمنين، إن ساعة الحساب آتية لا ريب فيها، وسيعرف الذين ظلموا أية جريمة ارتكبوها، وأخرج منشوراً وكان من ولي العهد أخي أحمد وقرأته.
في رأس الصفحة من الأعلى الآية القرآنية الكريمة:
(ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) [الإسراء:33].
ثم تابع ذلك الشجاع، إن الإمام أحمد في حجة، والناس يتوافدون على ديوانه لمبايعته إماماً خلفاً للإمام الراحل، وهو قادم بجيش جرار بإذن الله إلى صنعاء، وعدت إلى مستقري في بيت خالي حيث كانت في انتظاري ابنة خالي، أمة الرزاق، وهي التي أبت أن تفارقني لحظة واحدة.
كيف أصف هول ما سمعت عن زوجي؟ قلبي قد تباين صدعه، وعيني لا ترشح إلا بالدم، وأحشائي محترقة، وأجفاني بمائها غارقة، الدمع واكف والحزن عاكف.
زوجي يقتل أعز إنسان علي في هذه الدنيا، يقتل والدي، أنا الذبيح الحي الماشي، أي حقد أعماه؟ يا لهفي على ما افتراه، وتباً لما ادعاه من حب وود وتقدير، أكانت تعزيتهم تشفياً؟ وهل بكاؤه المر ونحيبه ما كان إلا غطاء؟ هل أتقن زوجي دور الندابة النواحة التي تستأجر بالدراهم في المآتم المصرية، تمشي وراء الجنازة تندب وتنوح، ولا صلة لها بالميت من قريب أو بعيد، سوى ما سوف تقبضه من الدراهم بعد أن يوارى المرحوم الثرى، هل أصبح زوجي مشخصاتياً مصرياً؟
نياط قلبي تتقطع، رزئت بوالدي وإخواني وابن أخي. يا فجيعتي بزوج ماكر خبيث، منافق يظهر غير ما يبطن، تمكن الشر والحقد والحسد منه، وما عاد يفكر إلا في القتل، والأدهى والأمر أنه يكذب ويدلس في مشاعره ومظهره.
إذا جاء إلي كان كالحمل الوديع يبكي ويتأسف ويتمتم بكلمات كنت لا أدع أذناي تسمعانها، كانت ليلة نابغية، ما عرف السهاد طريقه إلي طوال الليل، أنا مفتحة العيون، فاغرة الفم والأشداق، مبهورة أفرك يدي، وأضرب أخماساً في أسداس، أقلب الأمور، ظلام في ظلام، ساعات الليل تمر علي ثقيلة بطيئة طويلة، كأنها أشواك تغرز في قلبي الهموم، حتى أغدو منهوكة الأعصاب، خائرة القوى. لقد مزقتني الخطوب والمخاوف، لولا ذاك الشعاع الذي وصلني من فتحة ديوان خالي.
ولعل من مرجف يتصور أني بالغت في تحميل زوجي وزر ما وقع، وما من دليل إلا ما نقله خالي، وتظل أقوال خالي في مقامها من حيث الشك وليس اليقين، ولكن رويداً فإن القول الفصل والبرهان الأكيد الذي لا يأتيه ذرة شك ما سأذكره بعد ورقات إن شاء الله، حيث لا لبس ولا إبهام، دليل قاطع واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار.
وفي ما أنا فيه، ناداني خالي بصوت متهدج: إن سيدي عبد الله (هكذا كان يسميه تأدباً) بانتظاركم، وتساحبت أعضائي، رجلاي بالكاد تنتقلان، وتسيران بجسمي المرهق، وذهبت إلى حيث ينتظرني، وقعدت وخالي إسماعيل واقف معنا، يتنقل بنظره تارة إلى وجهي وطوراً في وجه المسمى زوجي، فقد كان خالي إسماعيل يخشى أن تبدر مني إشارة أو تلميحة أو كلمة، فتكون هي نهايته، فما نحن إلا أمام قاتل أشر، وأرسلت إلى خالي:
لا تخف أيها الخال، إني وإياكم على العهد والأمان.
أمرت ملامحي أن تعود إلى طبيعتها، وكأني لا أعرف شيئاً سوى ما كان قد نقله زوجي إلي فقط، سيطرت على نفسي سيطرة تامة، وقيدت كل أعصابي بقيود ضاعت مفاتيحها، فلا يمكن لأحذق المفترسين أن يستدل من ظاهري على ما اكتنزه باطني، كأني أقول لخالي:
اطمئن يا خال، فإني للسر حافظة وحياتك علي، لن أخيب أملك، فأنت يا من أسديت كل هذا الجميل، كنت الوالد الثاني، وأنت أعدت الأمل إلي، بقرب انتهاء الكرب وحصول الفرج، فلا تقلق.
أما المسمى زوجي فقد لاحظ شحوب وجهي، وترهل عيوني، فعاد يذكرني بمعزوفته القديمة، تجملي بالصبر يا ابنة أعز الناس، وبالغ في استحضار الأحاديث وقراءة بعض الأبيات التي تدعو للصبر الجميل وفضائل الصبر.
صحيح أن القلب كان ينزف دماً، والعين تقذف جمراً ملتهباً، والأذن عافة عن سماع أكاذيبه، والأنف يشتم من كل خلية في جسمه رائحة الغدر والخيانة، ولكن أنى له أن يلحظ شيئاً من كل هذا، فما أبديت إلا ارتياحاً وقبولاً لما يقوله، والأهم أنه غادر ولم يصطد مني كلمة أو إشارة واحدة بأني أعرف أموراً جديدة، وودع وانصرف.
يتبع العدد القادم