يمكن القول إن العدو خلال العام الماضي وحده، استنفد الكثير والكثير من مخزونه الاستراتيجي، المادي والتخطيطي والتعبوي، وفقد قدرات لا طائل لتعويضها في ظل تواصل التداعيات القاسية التي يلاقيها من قواتنا.. هنا نحاول مقاربة أهم انكساراته وكيف حدث وما هي خفاياها، كما هو كذلك للوضع الراهن ومجرياته.
هل انتحرت قوى المؤامرة أم نُحرت؟
حين نراجع أحداث المؤامرة العسكرية الانقلابية للسيطرة على العاصمة من الداخل والخارج، التي تولاها عفاش نيابة عن العدوان، فإننا نلاحظ المآل الجنوني الكارثي للمؤامرة الميدانية، وخلال وقت سريع، كأنها بدأت لتنتهي خلال ساعات من انطلاقها بانتحار المشروع المجنون وقادته واندحارهم إلى غير رجعة! فإذا كان المآل واضحاً من البداية لعفاش، فلماذا إذن أقدم عليه من الأصل؟ وإذا كان المآل الانتحاري واضحاً للعدوان وقيادته الاستراتيجية من الأساس فلماذا أمرت عفاش بالقيام بمهمة واضح فشلها وإخفاقها من البداية؟
هناك من يروج أحياناً لإجابات سطحية قصيرة النظر نسمعها في الإعلام ونطالعها في الصحافة، وهي إجابات مستعجلة جداً تصدر عن بعض المحللين و(المفسبكين)، ولا تزيد الأمر إلا مزيداً من الغموض، ولا تحقق وعياً استراتيجياً وطنياً واقعياً بحقيقة ما يجري وجرى في الميدان، مثل ذلك القول بأن النهاية التي آلت إليها المؤامرة كانت مخططة من العدوان نفسه! لأنه يريد الانتفاع بجثة صالح بعد موته واستخدامه كقميص عثمان عند معاوية! ليسهل تحريض الناس للثأر له!
إن هذا التفسير محمول على فكرة افتراض مؤامرة ضد عفاش من قبل أسياده للانتفاع بجثته بعد موته وهزيمته، وطبعاً تنطوي هذه الفكرة على ضحالة كبيرة؛ فلا يوجد ما يؤيدها، فإذا كان العدوان يهمه عفاش بعد موته، فلماذا إذن يفرط بكل تلك الأضاحي التي خصمت من رصيده القتالي الاستراتيجي المجسد بعدد من الألوية الشجاعة المغامرة المغمورة بأسلحة كافية للقتال لأربعة أشهر كاملة دون حاجة إلى تموين,حسب التقديرات؟! ويكفي أن نعرف أن عدد القوات التي استخدمت في المؤامرة حسب المخطط المنشور قد بلغت قرابة 20 ألفاً من المقاتلين قسموا بين قطاعات ومربعات واتجاهات العاصمة والمحافظات المحيطة، وقد جرى دحر كل هؤلاء في صنعاء والعاصمة والمحويت وحجة وعمران وإب خلال الفترة 2-4 ديسمبر، فلماذا يتلاعب العدوان بكل هذه القوات ويمكنه التخلص من عفاش عبر تدبير حادث من الحوادث -مثلاً- وجعله يبدو شهيداً يسهل الندب عليه بدون كل تلك الضحايا من قواته؟! وهذا يسقط من الاعتبار تلك الفرضيات القائمة على نظرية المؤامرة المتطرفة، ويبقى السؤال قائماً.
ونحاول هنا مقاربة الموضوع وفقاً لما هو متوفر من مؤشرات ومعلومات وتحليلات، والملاحظات الآتي:
أن المخطط المعلن للعدوان هو السيطرة الاستراتيجية على العاصمة عسكرياً وأمنياً من الخارج ومن الداخل بعمل عسكري وأمني وسياسي شمولي مشترك. ولكن السيطرة على العاصمة عسكرياً هل تتم دون السيطرة على جبالها المحيطة؟ وأيهما أكثر خطراً عليها؟ أهي الجبال المرتفعة أم الشوارع الخلفية للأحياء المدنية السكنية المنبسطة المحاصرة من المرتفعات المحيطة؟
ويجب الانتباه إلى أن وثائق العدوان التي حصلت عليها الأجهزة والمعلومات المتسربة عنها، لا تخلو من التضليل والخداع والتشويش والقصور، وليست هي كل الحقيقة.

الخداع الاستراتيجي والتضليل حول الاتجاه الرئيسي للضربة
لاشك أن العدو قد نجح في تسريب معلومات ناقصة حول توجهاته الاستراتيجية بهدف إخفاء التوجه الرئيسي للضربة وميدانها واتجاهها، بإظهار التوجه الثانوي وتسريب المعلومات المفصلة عنه بغية حرف ولفت انتباه الجيش واللجان نحو هدف ثانوي في جوهره وإتاحة الفرصة وإفساح المجال أمام تحرك المخطط المخفي والأهم والرئيس، وهو المخطط الهادف إلى كسر الأطواق الدفاعية حول العاصمة والسيطرة عليها من الداخل والخارج. ووضع الجيش اليمني المدافع عنها بين مطرقة العدوان من جهة مأرب ونهم، وبين السندان الصالحي في مرتفعات العاصمة وفي قلبها، من جهة أخرى.

السيناريو العدواني المرجح 
حين يتضح هدف العدو الاستراتيجي الميداني الرئيسي في كل جبهة ومحور واتجاه -في لحظة تاريخية محددة- فإنه يسهل استخلاص التكتيكات والإجراءات المحتملة لتحقيق الأهداف انطلاقاً من معرفة عقلية العدو ونظرياته ومدارسه العملية وتجاربه السابقة.

تقييم الأهداف الأساسية للعدو ميدانياً على الجبهة الشرقية
على الجبهة المركزية الرئيسية لهجوم العدو الراهن، وهي مأرب نهم الجوف صنعاء العاصمة، يقف الهدف الأكبر ميدانياً، متجسداً في تدمير وتحطيم واجتياح العقبة الرئيسية أمام تقدم العدوان نحو شمال شرق وغرب العاصمة المتمثلة في عقبة نقيل بن غيلان، ومنها القيام بالوثبة الكبرى نحو يام - أرحب - بني الحارث- الصمع- المطار. وهذا طور هو ما حاوله طوال العامين من الزحوف المتواصلة المخفقة.
ثم عصر- عطان حدة -جبال الطويل- خشم البكرة -الأزرقين -بني مطر - الحيمة - شعيب- عيبان - ظفار - يسلح -السواد -النهدين -نقم -القصر -غمدان -برش -سعوان.
لكن العدو وخلال محاولاته التقدم على هذه الجبهة، يواجه معضلة جيواستراتيجية طبيعية، وتتمثل في انتصاب جبال هيلان وصرواح وخولان بطول المسافة من مأرب إلى صنعاء وأمانة العاصمة.
وتماسك الجبهة الدفاعية لهيلان - خولان جعلت اختراقها أو السيطرة عليها مستحيلاً، كما أنها تصبح على ميسرة تقدم العدو، وعلى مؤخراته الجنوبية الشرقية حيث يعرض قواعده في مأرب للخطر كلما تقدم للأمام دون تأمين ميسرته ومجنبته، ما يعرضه لالتفاف استراتيجي خطير من الجيش اليمني المتقدم ببطء من محور عسيلان - بيحان - وهيلان، وفي نطاق ذلك المستطيل تتواجد أقوى وحدات الجيش اليمني ولجانه الشعبية المحنكة.

اختلال التوازن البري لغير صالح العدوان
التوازن البري هو ما يحاول العدو السيطرة عليه وتجاوزه، وهذا أضحى صعباً الآن -بالإمكانات القائمة- حيث إن وتيرة التحام الشعب اليمني وقبائله وشبابه بالجبهات القتالية تنعكس في ارتفاع نسبة التعزيزات البشرية الحربية بوتيرة أسرع وأوسع من حجم ووتيرة تعزيزات العدوان، وهذا هو جوهر المأزق الذي يعانيه العدوان على تلك الجبهة، فما الذي دفعه لأن يحاول تجاوزه بمغامرات؟ وعلى ماذا اعتمد؟
منذ نهاية العام الأول للعدوان، ظهرت تلك المعادلة التي حاول العدوان كسرها أو تعديلها، فاستعان بقوات صالح التي كانت تعمل كاحتياط استراتيجي مندس خلف الجيش واللجان، لتقوم بصفه وتكسر المعادلة.
والآن، وبدلاً عن معضلة هيلان صرواح، أضيفت إليها معضلة بيحان وعسيلان وحريب.
والمعادلة الحالية، هي أنه لكي يمكن التقدم نحو بن غيلان أرحب، يجب إزالة معضلة هيلان وصرواح وخولان، ولكنها معضلة مستحيلة الحل كما أثبتت ذلك تجربة الزحوف المنكسرة والمخفقة طوال الأعوام الماضية، فما العمل إذن للخروج من المأزق؟

الهجوم المضاد واختراق المعادلة الاستراتيجية
ما قبل إسقاط الطائرة (تايفون) ظلت الطائرات العدوانية تحلق فوق سماء العاصمة وفوق نقاطها الحيوية ومطاراتها بحرية تامة حتى أسقطت في سبتمبر الماضي.. لكن ما علاقة الـ(تايفون) بفشل الهجوم وسقوط مؤامرة صالح الأخيرة؟!
كان العدوان يوظف أحدث ما في ترسانته من سلاح جوي، و(تايفون) الأحدث في العالم من إنتاج التقنية الأوروبية مجتمعة، فقد كان في مهمة الطائرة ذات التقنية العالية، رصد واستطلاع ومسح شامل للأرض في المطار وحولها من مواقع وجبال ومرتفعات ومواقع حيوية في عموم العاصمة. وترسم خارطة عمليات اختراقية تتعلق بالدفاعات الجوية وحجمها وقدرتها.
كان السؤال الحاسم أمام العدو هو أين تقع نقاط الصواريخ المضادة للطائرات ونوعها وعددها وحجمها وجاهزيتها ومدى خطورتها. وأين تقع مراكز القيادة والاتصالات الوطنية التي يجب تدميرها قبل الإقدام على مغامرة التقدم عبر الجو والبر والبحر، والإنزالات خلف المواقع الرئيسية المسيطرة على منطقة العمليات المحتملة القادمة.

حسابات العدو العملياتية
محيط ومرتفعات المطار الكبير، هي أهم منطقة يجب السيطرة عليها، ويفكر العدو بأنه لا يفصله عن المطار وعن مواقعه في الفرضة سوى القليل من الكيلومترات والتلال، وبأنها مسافة أقرب إلى مواقعه من أي محور آخر.
ولذلك كان ومازال هذا المستطيل الضيق هو الهدف المركزي -إلى جانب الساحل الغربي- الذي يركز فيه أكبر قواته، وقد راهن على وجود بعض القوات من الموالية لصالح سابقاً في المنطقة سبق للأخير أن وظفها في تسليم معسكر الفرضة في العام قبل الماضي للعدو بأوامر مباشرة لقادة تلك القوات. كما أنه حين استبدل رئيس أركانه السابق المقدشي، بآخر من حاشد كان يعمل لدى أحمد علي في قيادة الحرس في السابق، فقد راهن العدو على شخصية عسكرية يمكنها التفاهم مع بقايا القوات الموالية لصالح، ومع القبائل القريبة.

التوازن يحكم الاستراتيجية والتكتيك
التوازن القائم -على المستوى البري- أوصل العدو إلى حقيقة أنه لا يستطيع أن ينجز تلك الأهداف وبتلك المعادلات وفي ظل ذلك التوازن القائم في غير صالح العدوان، وقد يسقط موقع عسكري لنا هنا أو هناك، لكن العدو سرعان ما يجد نفسه مطوقاً من الخلف والأجناب، وتتحول إلى بورة جديدة لاستنزافه، فالذي يغير موازين القوى في نهاية المعارك هو ميزان قوى الجيش واللجان المادي والمعنوي والبشري واحتياطاته المتفوقة بشرياً وعددياً وفنياً ومعنوياً، وبالأرض والجبال والطبيعة الجيواسترتيجية الملائمة لنا في أرض المعارك المفترضة.

وثبة القوات الخاصة -
 تجاوز الجبال بالحبال والرجال بالرجال
تقوم مخططات مدرسة العدو الأمريكي الإسرائيلي الحربية في مواجهة بلدان العالم الثالث المتضرسة والجبلية على قاعدة الهجوم على الجبال والمرتفعات من فوقها ومن خلفها وأمامها في وقت واحد، أي الهجوم من شعب ثلاث مختلفة، من الأسفل ومن الأعلى، وذلك عبر حرب المجوقلات والمروحيات.
ولكي يتخطى العدو نقيل بن غيلان -مثلاً- يحتاج إلى أن يهاجمه من الأمام والجوانب ومن الخلف ومن فوق ومن تحت في آن، وهذا غير ممكن للعدو إلى الآن. وهو يريد كسر المعادلة القائمة بالانتقال إلى حرب المروحيات.

حول حرب المروحيات -
 الحرب القادمة في المنطقة
الكيان الصهيوني هو من يقود الحرب العدوانية في الميدان الآن نيابة عن الأمريكي، ويشرف الجنرال الإسرائيلي شاحاك موفاز وزير الدفاع السابق، على هذه المعارك الآن من مواقع قيادته في سقطرى وعدن ومأرب وغيرها، طبقاً لما كشفته الصحافة العبرية مؤخراً، فهي تعتبر القوى اليمنية قوى قومية معادية لها ولأطماعها ومشاريعها، ولذلك تعتبر هزائم العدوان هزيمة للكيان بالأساس، وهي تضع نظريات وخبرات تكتيكاتها في خدمة العدوان، وأبرزها حرب المروحيات.
كل الخبراء الاستراتيجيين في المنطقة والعالم يعتبرون أن تكتيكات الكيان المدرعة القديمة قد فشلت في لبنان، ولا يمكنه تكرارها مجدداً في حروبه القادمة مع حزب الله وغيره من القوى العربية المقاومة ومنها اليمن، وأن الأسلوب الحربي الذي تعتمد عليه الآن هو أسلوب حرب المروحيات كأسلوب هجومي رئيسي، يعوضه عن هجوم المدرعات القديم الذي خسره الكيان أمام المقاومة الإسلامية في 2006م.
إن حرب المروحيات أسلوب أمريكي طبق في فيتنام في الستينيات، وأثبت فاعليته النسبية في مواجهة حروب الجبال والغابات المباشرة المنهكة الطويلة، وبالطبع فقد استنفدت المقاومة الشعبية الفيتنامية طاقة الأمريكي في نهاية المطاف، وسيجد نفس المصير في اليمن وفي غيرها، ولكننا نناقش طريقة تفكير العدو وتكتيكاته وخياراته.
وبعد 3 أعوام من المعارك بأنواعها، والتكتيكات والخطط المتهالكة والمستهلكة، ليس أمام الأمريكي والصهيوني في اليمن سوى أسلوب الحرب المروحية المحملة بالقوات الخاصة و(المغاوير) والصاعقة والمظليين لإسقاط المواقع الجبلية الهامة التي عجز عنها طيلة الفترة السابقة.

معضلة الهجوم الجوي العدواني- الإنزالي
لم يعد أمام العدوان الآن بعد نكسة المؤامرة العفاشية الأخيرة، وبعد توالي انكسارات الهجومات البرية المتواصلة، أية فرصة لتجاوز معضلته الجيواستراتيجية، سوى الانتقال الى استخدام الإنزالات لقواته خلف المواقع المركزية من الجبال والمرتفعات الواقعة بين فرضة نهم ونقيل بن غيلان والمطار، وهي المربع الجغرافي الاستراتيجي الحاسم الآن الذي يراهن عليه العدوان وراهن عليه من قبل المؤامرة.
لهذه الأسباب وغيرها، فشلت مؤامرة صالح، وفشل مخطط العدوان في الانقضاض على العاصمة.. ويبدو أن مخطط المؤامرة كان يستهدف المواقع الجبلية الحيوية المحيطة بالعاصمة، وحين لم يتمكن من ذلك، ظلت عملية الإنزال الجوي والمباغتة من الخلف فاشلة، فمواقع الدفاعات الجوية لم تعرف أين هي، وساعة وصول المرحلة الأولى من المخطط في اليوم الأول إلى ذروتها وجدوا أنفسهم معزولين.
فإسقاط الطائرة الـ(تايفون) المالكة لقدرات وإمكانيات هائلة، من قبل الدفاعات الجوية اليمنية، جعل العدو يعيد الحسابات، فقد فهم العدو أن القوى اليمنية أضحت قادرة على تحطيم الهجوم الجوي الإنزالي الأخطر، وهو آخر ورقة في تكتيكات العدوان.. ولهذا فشلت مؤامرة صالح، وفشل الإنزال الجوي للعدو، وفشلت حملات السيطرة على الساحل الغربي.