فلله يا أهل اليمن، كم من الخصال الحميدة قد تأصلت في نفوسكم يا أهل النخوة، التي لا يعرفها إلا من عاش في اليمن وجرب أهل اليمن. وسرى الخبر في صنعاء، وجاء إلى ساحة بستان الخير جماعة من المشائخ للاستفسار عن معاملتنا، وليتأكدوا من ادعاءاتهم بأنهم يعاملوننا المعاملة الإنسانية اللائقة بنا، وكان الغضب والتأثر والحزم بادياً على قسمات وجوههم، وتصارخوا في ساحة بستان الخير: (والله لنقلبها من هنا، إذا كانت معاملة عوائل آل حميد الدين سيئة)، وأضاف أحدهم: (إن سكوتنا عن الثورة، وعدم إثارة القلاقل في وجوههم لن يكون إلا بحسن معاملة عوائل آل حميد الدين).
وإثر ذلك، ولإسكات أهالي صنعاء والمشائخ سمحوا لخالي إسماعيل غمضان بتزويدنا بالحنطة والخضار والألبان، وكافة ما يلزمنا، وكان بداية الانفراج علينا.
وكان لنا جزاء من نوع آخر، ولكنه ما أثر علينا، واستقبلناه بالهمة والاستخفاف من قرارهم، فقد أصدروا أمراً بسحب المساعدات الموجودات عندنا، ومنعت بعضهن حتى من الدخول إلينا، هؤلاء الخادمات كن وفيات، لا يردن أجرة، ما يبغين سوى مساعدتنا في محنتنا، وما كان من ضباطهم إلا أن طردوهن شر طردة، ومنعوهن من الاقتراب حتى من بوابة معتقل بستان الخير.
وكان عدد المعتقلات والمعتقلين من النساء والأطفال قد بلغ مائة وثلاثين فرداً.
ولم يكن لفعلتهم هذه أي تأثير علينا، إذ بادرت النساء إلى تقسيم العمل بينهن من طبخ وتنظيف وكنس وجلي وعناية بالأطفال، وكانت بناتنا ماهرات في إعداد الطعام، وكانت وجباتنا على الأغلب جماعية، نجتمع عادة على وجبة الغداء، فإذا انتهينا من أمورنا المنزلية، نجتمع لتدارس أحوالنا وما نلاقيه، وكيف يجب علينا التعامل مع هؤلاء الذين لا يرحمون طفلاً ولا فتاة ولا امرأة، ثم تكون قراءة القرآن الكريم، وتتولى إحدانا شرح وتفسير ما أشكل فهمه، وندعو الله أن يمن علينا بالفرج من الشدة، كلنا مجتمعين، صلواتنا جماعة، ودرسنا جماعة.
أما السهر في الليل فلم يكن؛ حيث كانت تقطع علينا وسائل الإنارة، وخيراً فعلوا، ننام مبكرين، ونصحو مبكرين للصلاة، وقراءة الواجبات الشرعية بصورة جماعية.
ولا أخفي أن أجواء المحنة انعكست إيجابياً على علاقتنا مع بعضنا البعض، فتعلق كلنا بكلنا، وزادت محبتنا وحرصنا على بعضنا البعض، فالألم واحد والأمل واحد، وشعرنا بأننا الأقوياء وهم الضعفاء؛ فليس من الشهامة العربية والإسلامية، ولا الأخلاق الإنسانية اعتقال النساء والأطفال الأبرياء ممن لا ذنب لهم، فالعقوبات الجماعية هي من أفعال القراصنة واللصوص والعصابات، حتى قطاع الطرق فإن بعضهم يأنف من التعرض للنساء والأطفال.
ما عرف تاريخنا الإسلامي في عهد الصحابة ولا عهد الخلفاء الراشدين، وطوال تاريخنا في عهد الأئمة، وعهد والدي وأخي أن سجنت أو اعتقلت امرأة يمنية لأسباب سياسية، حتى وإن ظهر عداؤها لنظام الحكم، النساء عندنا هن شرفنا ومدار عزنا، دون كرامتهن وشرفهن وعرضهن تهون الأنفس والأموال.
وقضينا سنة أولى في معتقل بستان الخير.
وأصبح اعتقال عوائل آل حميد الدين في بستان الخير حديث مقايل ومجالس أهل صنعاء، فقد لاكت الألسن السجانين، وتبرم الناس من سوء أفعالهم، وأسمعوا الكثير من النقد، فأبلغونا بالسماح للأولاد بالدراسة، بعد ضياع سنة من أعمار الأولاد، وتوالت الأذونات، فقد سمحوا لأخوالي بزيارتنا في حوش معتقل بستان الخير، ولكن تحت مراقبة العسكر، ثم سمحوا لأولاد الوزير إبراهيم وقاسم بزيارة ابنة أخيهم، التي هي ابنتي، وقيل لي يومها: إن أولاد الوزير إبراهيم وقاسم هم من طلب من عبد الله السلال تعيين مدرس للأولاد، فقد كانت علاقتهم بالسلال قوية، إذ أيد كل من إبراهيم والقاسم الثورة في البداية، ولما أيقنوا سوء المآل انقلبوا ولحقوا بآل حميد الدين في الخارج، وسمح لأولادنا بالدراسة، وخصصت غرفة مقابلة لمعتقلنا للتدريس، وجاء المدرس بالفعل، ولكن تحت الحراسة والمراقبة.
يبكر الأولاد في الذهاب إلى الغرفة (المدرسة) وقد استعدوا فيتسلمهم العساكر المدججون بالبنادق والرشاشات، ويفتشون وتفتش حقائبهم أو أكياسهم، ويدخلون إلى صف المعتقل الدراسي، والعساكر تطوق الغرفة، عند كل شباك وقف عسكري، كانت مدرسة تحت السلاح، أولادنا يتلقون العلم في هذا الجو المخيف المقيت، ولكن مهما كانت الأحوال، فالأولاد لا بد أن يتعلموا، وكان مدرس أولادنا شهماً، ساءه ما كان عليه حال المدرسة التي يدرس فيها، فتبرع بإيصال رسائلنا إلى أهلنا، ولم نعدم الوسيلة لإخفاء الرسائل مخافة أن تقع في أيدي الرقباء، وبالفعل فقد تسلمنا العديد من الرسائل عن طريق ذاك المدرس الشهم، ونجحنا في إيصال شيفرة خاصة بنا إلى رجالنا في الخارج، وبدأت الرسائل المشفرة تصل إلينا.
وداوم أولادنا على الدراسة، وبعدها يسمح لهم بالتجول أو كما يقولون: فورة السجن، في الحديقة، ولكن أيضاً تحت الحراسة، ثم يعودون إلى المعتقل قبيل المغرب، وكان ولدي عبد الله يتأخر، وأقلق عليه، وأذرع الساحة ذهاباً وإياباً، سائلة عنه ومنتظرة له، فيطول تأخره، وكان يدور في فكري أن هؤلاء يمهدون لاحتجازه في سجن آخر، طالما أن والده قد نجا، ولما يحضر متأخراً كنت أسأله عن سبب تأخره فيقول لي: تأخرت عند الضابط، فأزداد خوفاً عليه، ولكن ما حضر إلا وهو محمل بأنواع الحلوى، ويروي لي أقاصيص عن طيبة ذاك الضابط، ولما حاولت معرفة اسم ذلك الضابط يجاوبني: أنا لا أعرف.
وفي إحدى الليالي قطعت الكهرباء بسبب طارئ، ولفنا ظلام دامس، وكنا قد نزلنا إلى غرفة الشاذروان، فالماء فيه متوفر، وأسرتي وأولادي وأحفادي وبناتي الأكثر من باقي عوائلنا، وللظلام وحشة، وما هي إلا بضع ساعة حتى سمعنا على باب الشاذروان قرعاً فقلت لعبد الله: انظر من القارع، ولما استفسر منه وعرفه فتح الباب، فإذا بالرجل يعطيه فانوساً مضاءً، وسألت من هذا الذي حل لنا مشكلة الظلام، أجاب: هذا هو نفسه حقي الضابط.
يا الله، الضابط أصبح حق ولدي عبد الله، فطلبت إليه أن يسأله عن اسمه، فقال: أنا فلان، وقد سبق لي مرافقة والدك، وبقيت أنا وأخي عند والدك ضيوفاً، بيننا عيش وملح، وواجبكم علي، أرد به بعض معروف والدك، فعل هذا الضابط الشهم أعاد إلى نفسي الثقة، الدنيا ما زالت بخير.. وتطل الكوارث مرة أخرى، ولكن حذاري من الضعف والانهيار يا تقية.
كنت لا أعلم مصير زوجي، وعرفت في ما بعد أنه رافق الإمام البدر إلى المملكة العربية السعودية، وبحثوا عنه طويلاً وكثيراً، سألوا عنه كل من له اتصال به، فما وجدوه، ولا عرفوا عنه شيئاً، ومن ثم استنطقوني عنه، فما أفدتهم بكلمة واحدة، بل تركتهم حيارى، ولأنه سلم وبدا له نشاط في الخارج ضدهم، فانتقاماً منا أرسلوا دبابات إلى هجرة الكبس لهدم منزلينا اللذين بنيناهما بأموالنا، إمعاناً في سياسة العقاب الجماعي، وقامت الدبابات بما يلزم بقذائف المدفعية، ولما كان أساس البيت متيناً فلم تتمكن من تسوية أساساته بالأرض، وهو ما كانوا يريدونه، وحتى لا نقوم ببنائه مستقبلاً أرسلت طائرة وقامت بدكه دكاً عنيفاً وانتصروا على حائط برلين.
وذات ليلة سمعنا دربكة مزعجة، وخطى ثقيلة على السلالم والدرج، فنهضت مسرعة إلى الباب الرئيسي، فرأيت عساكر تجري هنا وهناك، وتتدافع وكأنه يوم الحشر، مدججين بالأسلحة، يتراكضون وكأنهم يبغون صيداً ثميناً، فاعترضت طريقهم مذهولة، ماذا تريدون؟ لماذا كل هذا الإزعاج في الليل؟ الكل نائم، فما لكم كأنكم في خضم معركة.
فقال ضابطهم: أين الراديوهات، تنفست الصعداء، وعرفت أن في الأمر شيئاً.
قلت له: في أمكنتها ظاهرة وليست مخفية، لماذا تريدونها، وبدون أن يجيبني أمر الضابط رجاله بجمع كل الراديوهات وإحضارها إليه، وبسرعة جنونية تخاطف العساكر كل الراديوهات من غرفنا، كأنها غنائم حرب، وأخذوها، وولوا مدبرين.
ولم يحتج ما فعلوه إلى شيء من التفكير، فما صلة الراديوهات باعتقالنا سوى أنها تنقل أخباراً لا يريدون لنا أن نسمعها، وغمرتني موجة من الفرح، ووزعت ابتساماتي على بناتنا وأولادنا وأطفالنا، والذين لم يعودوا يضطربون أو يخافون من مثل أفعالهم هذه، وقدرت أن قواتنا الملكية ألحقت بهم هزائم، وخاصة بالقوات المصرية التي وصلت لمساندتهم بعد أيام قليلة.
يتبع العدد القادم