مهدي المشولي/ لا ميديا
مثلما تورق الكروم وتزهر في الروابي؛ تورق أغنياته فينا وتخضرُّ حباً، وتزهر عشقاً. ومثلما تتبرعم عناقيدها في قلوب محبيه وتثمر، تتعنقد فينا إبداعاته الفنية أشواقاً ومحبة.. حنيناً ولقاءً.. أنيناً وصفاءً.. ترانيم وجد، وألحاناً آسرة.
تغسل الأرواح، وتنقي القلوب، وتشفي أوجاعها.
تشجي النفوس الحائرة، وتطهر أحزانها.
مع كل نغمة حب، هفت أرواحنا، سفراً ورحيلاً، وفي كل ترنيمة شجن، هامت قلوبنا فرحاً وحزناً، تحملها تقاسيم لحونه الماطرة، نحو مدارب فيوضها، حين يشدو بجمال الكلمة وعذوبتها، ويزيدها عذب صوته الآسر رقة وانسياباً، وتمنحها رخامته رونقاً وبهاءً، ليسافر بنا نحو فضاءات الكلمة وعوالم رحابه، وصلاً وانكساراً، بوحاً وجرحاً، بلسماً وهياماً، تباريح عشق، وتسابيح محبة..!
في الجزء الثالث الخاص بأغاني تراثنا اليمني وإسهامات الفنان أيوب طارش فيه تجديداً وإبداعاً، تواصل (لا) نشر تفاصيل محطات أسفاره الجميلة سفراً سفراً ورحيلاً يليه رحيل، وفي كل محطة نتوقف فيها معه ونرتشف بعضاً من تفاصيلها.
في تقديم تراثنا الغنائي بشكل عام، وأغاني اللون الصنعاني تحديداً، يتطلب أن يكون الفنان عازفاً بارعاً، خاصة على آلة العود، وعلى دراية كاملة بمقامات هذه الألوان التراثية، ويمتلك مهارة فائقة في الأداء.
وفي أغنية (بخلت بالوصل عنا يا شرود)؛ للشاعر محسن عبدالكريم المتوفى 1850م، تتجلى قدرات الفنان أيوب طارش الفنية في تقديم تراثنا الفني بمختلف ألوانه الغنائية، بل وإسهاماته في تجديد روائعه الفنية وإضافاته الإبداعية عليه، وساعده في ذلك موهبته الإبداعية كملحن وعازف بارع أولاً؛ بالإضافة إلى سحر صوته الآسر المملوء بالفطرة أشجاناً ومحبة، ثانياً، وروحه العامرة أحاسيس نبض ولواعج رقة ثالثاً؛ وبكل ذلك يغمر الفنان أيوب سامعيه حين يداعب أوتار عوده يغني، وحين يكون في أوج عطائه ونشوته لا يملك السامع إلا أن يذوب معه ويتحد روحاً ومعنى:
(بخلت بالوصل عنا يا شرود 
أخطأت والله في بخلك علي 
سمعت في مغرمك قول الحسود 
أسأت يا سيد في فعلك إلي 
إن به خطيئة فمثلك من يجود 
بالعفو عمن جنى جهلاً وغي
وابديتها لي وراسك ما أعود 
هذا إذا كانت الحجة لدي 
وإلا فشقسم بمن صاغ الخدود 
من حلية الحسن ما أعلم بشي 
من علمك لصقي خلف الوعود 
عزز بزورة فما الوعد لي
وبيننا يا منى قلبي عهود 
طويتها باطن الأحشاء طي 
.....................
أحرقت قلبي بنيران الوقود 
كويتني يا رشا بالهجر كي 
أوحشتني بعد وصلك بالصدود 
حتى ظننت أني ما في الأرض حي 
والآن يا غصن مثمر بالنهود
إن عاد لك شف أو رغبة إلي
بادر بوصلك ونفعلها حدود 
نلوي حبال الجفا سبعين لي 
كيفما اشتيت ولا تلبس عقود 
شمائل الحسن تغني عن حُلي 
ما عندنا إلا مغنى مزهر وعود
يفوح منه عرف عنبر فاخري 
ونسأل الخالق الفرد الودود
يغفر لنا يا حبيبي كل شي 
بخير الورى ساكن الجدود
المصطفى للرسالة من قصي
صلى عليه الإله ما اخضر عود 
أو لاح بارق على كثبان طي)
ومن أهم الشعراء الذين تغنى الفنان القدير أيوب طارش بقصائدهم التراثية التي حافظ عليها من الاندثار، وحفظ بصوته الرائع ألحانها الجميلة، يأتي الشاعر الجميل حيدر آغا الذي ولد في صنعاء من أب تركي، إلا أنه رغم ذلك كان متفوقاً في الشعر الحميني والحكمي على حد سواء، كما أنه كان من أشهر العازفين المهرة على آلة العود، وقد توفي عام 1669م. ومن أجمل ما غنى له الفنان أيوب من بين قصائده الغنائية العذبة، تأتي قصيدة (غزال رامة) التي تغنى بها أكثر من فنان، وفي مقدمتهم مشائخ وأساطين تراثنا الفني والطرب الغنائي الجميل، أمثال الشيخ إبراهيم محمد الماس والشيخ محمد جمعة خان. و(رامة) هو وادٍ يمتد ما A169;A268;A254; A165;A247;A170;A212;A198;A171; في العراق A261;A251;A244;A172; A235;A266; A165;A247;A188;A184;A166;A199;، وهو أيضاً تسمية لمكان يقع A239;A198;A167; A261;A165;A193;A265; A165;A247;A228;A240;A268;A238; A169;A166;A247;A252;A194;A267;A256;A172; المنورة أو (A267;A180;A198;A167;) كما كانت تعرف قبل الإسلام والهجرة النبوية إليها. وكلمات هذه القصيدة الغنائية الجميلة تقول: 
(من يبلغ غزال رامة 
مُذهب الخد ساجي العين 
قد وصلنا على السلامة 
بعد طول الفراق والبين
يا نديم هات لي المدامة
واسقنيها سلاف كالعين
واغتنم لذة الإقامة 
فالسرور في اجتماع إلفين
هزني الشوق نحو الأوطان 
عندما بارق الخريف لاح
كدت أني أطير لو كان
لي جناحين طرت يا صاح 
نحو شادن ربيب فتان 
في يديه حياة الأرواح 
ريم على الغيد له علامة 
وهي أنه بريء من الشين
كم بُدور بِدور صنعا
ولكم من ظبا شوارد
الحشاشة لهن مرعى 
ولهن الدموع موارد
قم بنا يا ندين نسعى 
نحو من كان لي مساعد 
فلم ذا البطء على مه
ما معي للفراق من دين 
يا قليبي العميد بشراك
إن صبح الوداد أسفر
والزمن قد سمح بلقياك
بالغزال الربيب الأحور
ضع فمه حين ينام في فاك
وارتشف ريقه واسكر 
واعتنق قد غصن قامة
واقتطف زهر ورد خدين)
أما الرائعة الأخرى؛ فهي (ناقض العهود)، وهي الأغنية الثانية التي قدمها الفنان أيوب طارش للشاعر حيدر آغا، في إطار اختياراته الجميلة لكنوز ودرر تراثنا الغنائي الثمينة، ومنها درر هذا الشاعر الجميل الذي يعد من أهم الشعراء الذين وثق لهم الفنان أيوب طارش تراثهم الشعري الغنائي، وحافظ عليه من الاندثار أو النسيان، إن لم يكن هو أجمل من أعاد له روحه الفنية بتجديده أو بتطويره بما يتناسب وروح العصر. ومن ضمن ذلك تأتي أغاني هذا الشاعر التي كادت تطمس من ذاكرتنا الشعبية، فبعد أن غنى له أغنية (غزال رامة) - كما ذكرنا سابقاً - عاد وغنى له أيضاً هذه الأغنية الجميلة التي حملت عنوان (ناقض العهود)، والتي يقول فيها: 
(عليك يا ناقض لتلك العهود
سلام من وافي عهوده
يا بدر مشرق حال سعد السعود
لازال زاهر في سعوده
أطعت يا هيف عاذلك والحسود
وخاب من طاوع حسوده
لكن كذا حال الغزال الشرود 
والظبي لاتأمن شروده
أخلفت وعدك يا شقيق القمر 
ما كان هذا فيك ظني
تركتني حيران ما لي مقر
طوراً أنوح وأحياناً أغني 
عللت طرفي يا رشا بالنظر
إلى الهلال هيهات يغني 
وأنت في صنعا تميس في البرود 
كالغصن أوراقه بروده 
كفى كفى يا خل هذا المطال 
أنعم بوصلك يا مهلا
تعال يا ساجي الأماقي تعال 
بنورك الأعيان تجلى 
فما أمر الهجر يا أخو الغزال 
وأعذب اللقيا وأحلى 
أقبل لتسمع عندنا صوت عود 
ينطق بشعري فيك عوده)
محطة محطة وسفراً يتلوه سفر، نواصل تتبع أسفار الفنان أيوب طارش وإبداعاته الفنية مع جمال تراثنا الغنائي اليمني وتجربته الثرية مع كبار شعراء ألوانه الفنية الجميلة الذين تغنى أيوب بروائع قصائدهم الغنائية الخالدة.. 
الشاعر أحمد بن حسين شرف الدين الحسني الكوكباني المشهور بأحمد القارة، هو علامة وشاعر وعلم من أعلام الأدب اليمني، وأحد رجال القضاء.
وبحسب كتاب (نيل الوطر) وترجمته لهذا الشاعر المبدع، فإنه عاش في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وكان عالماً فاضلاً وشاعراً مجيداً، ويعد ثاني أشهر شعراء مدينة كوكبان الحمينيين، بعد ابن شرف الدين، كما أنه ثاني أشهر شعراء عصره بعد الآنسي.
رفدت قصائده العاطفية الحمينية الأغنية اليمنية بروافد عذبة، وأسهمت إسهاماً كبيراً في لونها الغنائي الصنعاني.
تولى القضاء في منطقة (لاعة) من بلاد كوكبان، وكان عصره عصر اضطراب وفتن، حيث شهد 5 أئمة.
له ديوان شعر أكثر قصائده ساخرة وهزلية تناولت موضوعاتها أوضاع البلاد، وعالجت قضايا عصره.
توفي في حوالي 1878م، وهو في طريقه لأداء فريضة الحج. 
ومن أجمل قصائده الغنائية التي تغنى بها الفنان أيوب طارش وعدد من الفنانين الآخرين، تأتي أغنية (يا بروحي من الغيد)، التي تعد من أجمل القصائد الغنائية اليمنية، ومن أروع ما كتب في الشعر الحميني، ومن أروع ما تغنى به الفنان أيوب، والتي تقول كلماتها:
(يا بروحي من الغيد هيفا كالهلال 
حسنها شل روحي وعقلي
غانية ما لها في الغواني من مثال 
لا ولا في المحبين مثلي
حين خاطبتها الوصل قالت ما الوصال 
وأيش تبغى من الوصل قل لي 
قلت زورة تجودي بها جنح الليال 
شرفي بالتلاقي محلي
قالت أما وصالي إلى عندك محال 
ما يطيعوا يبيحوا لي أهلي
غير لا يعلموا بي وأهلي ذا المقال 
شايهموا بقتلك وقتلي
قلت أما أنا والنبي ما أخشى القتال 
لا تخافي إذا هو من أجلي
لا أهاب الصوارم ولا طعن النصال 
غير من طرف قد حل قتلي
قالت هيّا معانا البلد حتى تنال 
مطلبك حين قد اشتقت لوصلي
قلت ما الاسم وأيش البلاد قالت غزال 
ومن الشرق أصلي وفصلي
مشرق الله حيث امرغادة وامجمال 
كم خرايد لهن مثل شكلي
قلت واعذبة المنطق السحر الحلال 
ها أنا صرت مملوك لك بكلي 
قالت الحكم للحب إن تلقى مجال 
همت وإلا فخلي سبيلي
قلت واغارة الله وهذا الدمع سال 
وافرق أهلي وهو لا يجوز لي
والصلاة والسلام ما سجع طير الحمام 
شرقها والمغارب وقِبلي)
الشاعر يحيى بن إبراهيم بن علي جحاف، المتوفى في 1705م، والذي يعده زبارة في كتابه (نشر العرف) أحد أقطاب الشعر الحكمي والحميني، والمتفوقين فيه، وفي كتابة القصيدة الغنائية، يسافر بنا معه الفنان أيوب نحو منابع تراثنا الخالد وروافده الأصيلة، وتعد رائعة هذا الشاعر الحميني الجميل (الشوق أعياني) إحدى أجمل عيون روافده الشعرية التي ما زالت كلماتها الجميلة ولحنها العذب تخضر فينا جمالاً وبهاء، منذ أكثر من 3 قرون، ومازال صدى أنغامها ينساب في وجداننا، وتتجسد بيننا بكل ما فيها من أشجان ولوعة وأشواق وحنين، وتزداد حضوراً حين يُهيِّج أيوب بصوته العذب لوعج المحبة في صدورنا، ويبوح بديلاً عنا بكل أحزاننا ومكنون النفوس وأسرار عذاباتها.
(الشوق أعياني.. يا قرة الأعيان 
والبين أوطاني.. مواطئ الأشجان 
فدمع أعياني.. من فرقتك ألوان 
أضحى بأوجاني.. كالدر والمرجان 
أبكي إذا غرد.. طائر على الأشجار 
وأقول إذا ردد.. وباح بالأسرار 
كأنه معبد.. قد حرك الأوتار 
هيجت أشجاني.. يا طائر الأشجان 
طيري إلف طيرك.. يا قرة الناظر 
ولا إلف غيرك.. غايب ولا حاضر 
كثِّر كُثُر خيرك.. من الوفا الوافر 
وليس لي ثاني.. يستوجب الإحسان
هيجت يا قمري.. بصوتك الملحون 
ما كان في صدري.. من سري المكنون 
حتى مضى دهري.. وخاطري مفتون 
حاير شجي غاني.. لا يعرف السلوان 
ما لذ لي بعدك.. مشرب ولا مطعم 
فقد ترك بعدك.. جوانحي تضرم 
فاذكر سقى عهدك.. حبيبك الأحوم 
وبدرك الغاني.. وظبيك الفتان 
أخَّرت في كتبك.. أيام بل أشهر 
ما أنت في حبك.. صادق كما تذكر 
لو كنت في قلبك.. وخاطرك أخطر 
ما كنت تهواني.. ما كان ما قد كان
فاكتب بما يشفي.. فؤادي الخفاق 
فإنه يطفي.. لواعج الأشواق
وضمنه وصفي.. ووصف ما تشتاق
من وصف أعياني.. وقدي الريان
محبتك دعوى.. ما إن لها برهان 
فإن من يهوى.. يقول يا فتان 
يا جنة المأوى.. للعاشق الولهان 
انظر إلى شاني.. فما رقى لي شان 
قد صار مثل الآل.. حبك لمن يهواك 
فيا سليل الآل.. ماذا الذي أنساك 
قوامي العسال.. وناظري الفتاك 
وخدي القاني.. ولحظي الفتان)