هم لا يريدوننا أن نسمع أخبار هزائمهم التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية، ونظرت إلى السماء: الحمد لله فإن الفرج قريب، يا رب العباد.
وفي اليوم التالي وصلوا إلينا في النهار، وبدأ الضباط بحديث لطيف ودود.
قال أحدهم: نحن لا نريد سوى راحتكم، ولا نريد أن تظلوا على هذه الحالة، فلماذا لا توافقون على السفر إلى القاهرة.
وأضاف: لقد أبلغونا في القاهرة، بأنكم ستكونون ضيوفاً أعزاء، وستلقون كل معاملة كريمة، فإخوانكم من عوائلكم الذين كانوا في تعز سافروا ولاقوا أطيب معاملة من المصريين، وسهلت لهم كل الأمور.
فكان الرد: نحن لا نوافق على السفر ولا الترحيل، نحن في بلدنا، وهل ينفى اليمني من وطنه. 
كنت أشعر بأن كلماتي تلامس وجدان الضابط فما عاود الحديث، وإنما كان يطرق إلى الأرض بين الفينة والفينة، وينظر إلي بحسرة ظاهرة.
دار بخلدي أنهم يريدوننا رهائن أو يعتبروننا أسرى، ومن خلالنا يمارسون الضغط النفسي على رجالنا، وهذا كله بتدبير من سادتهم قادة مصر، وعلى رأسهم أنور السادات، والذين ورطوهم في حرب ما كان لهؤلاء الجنود المصريين فيها من ناقة ولا جمل.. ولما يئسوا من إقناعنا، عادوا من حيث أتوا، وعلائم الانكسار بادية على وجوههم.
ثم كانت الغارة العشوائية المفاجئة مرة أخرى، وكانت أخبار ما يسمونه (التفتيش المكثف العشوائي) قد سُرِّبت إلينا من بعض العساكر، جزاهم الله خيراً، فقد نقلوا إلى أولادنا وخاصة عبد الله:
يا عبد الله، أبلغ أهلك بأنهم يعدون الليلة لهجوم مكثف عشوائي عليكم، سينبشون كل شيء، وسينثرون كل شيء، الأسرة، الخزانات، الصناديق، المطابخ، الدواليب، الملابس والفراش، التفتيش سيكون دقيقاً وحازماً.
وأخذنا حذرنا مسبقاً، وأعددنا للأمر عدته، فكل ما عندنا من ذهب أو فضة أو نقود، أخفي ما بين ملابسنا الشخصية التي كنا نرتديها، وما عدا ذلك فلا شيء، سوى ديواني سفينتي التي كنت أنقل إليها أشعار إخواني وأشعار عمي حسين عبد القادر، وفيه قصائد غزلية.
كان مصدر خوفي تلك القصائد الغزلية، فماذا لو سيطروا على ديواني، وما الذي يمنعهم من التعريض بنا، فأسرعت إلى الديوان، وغطيته بكيس قماش صغير، وقلت لولدي عبد الله أسرع إلى الضابط حقك، وقل له هذه الوديعة أمانة الله أن يحفظها، فإن عشنا يرجعها إلينا.
وبالفعل: خرج عبد الله مسرعاً، فقد قطع درجات السلالم بقفزات محدودة، وسلمها للضابط، حيث قال له ذاك الضابط الشهم: يا ولدي عبد الله، أبلغ والدتك أنها بإذن الله في الحفظ، وهي أمانة في عنقي، سأحافظ عليها كما أولادي وروحي، وعاد إلي عبد الله فرحاً، وأبلغني ما قاله ذلك الضابط اليمني الأصيل.
واستطراداً: فإن ذلك الضابط احتفظ بالوديعة، وبعد سنوات دعا الولد إبراهيم بن محمد الهجوة لضيافته، وأكرمه بضيافة خاصة ومقيل، وقال له: عندي أمانة للوالدة تقية، أريد أن أُبرِئ ذمتي منها، وسلمه الأمانة قائلاً: الأمانة محفوظة على رباطها كما هي.
رعاه الله وزاد من أمثاله من رجال الأمانة، وبعد سنوات سلمني الولد إبراهيم بن محمد الهجوة الأمانة عندما التقينا في أمريكا.
كان هذا الدفتر وما زال من أعز الأشياء إلى نفسي، فيه ذكريات لي إبان طفولتي، وأحداث وطرائف كانت لي مع والدي، وأشعار لإخواني وخاصة أخي علي، إذ كان يرتجل الشعر أحياناً وهو في زيارتي أو ونحن في داره، فأُسرع إلى دفتري وأسجل ما ارتجله، ومنها الكثير، ومنها بعض الأشعار التي يجود عليَّ الله بنظمها في ساعات خلوتي إلى نفسي.

الطلعة البهية للبقرة
سلَّم الله ديواني من عبثهم وتفتيشهم العشوائي المكثف، وكانت له فرحة، غير أن فرحي لا يدوم كما تعودت.
فمنذ أيام لم يعرف أطفالنا طعم الحليب، وفيهم الصغار الذين يحتاجون إليه في هذا العمر المبكر، وبدأت شكوانا ترتفع، نريد حليباً للأطفال، ولا من يسمع، وعاودنا الشكوى ثانية، وثالثة، ورابعة، ولا أدري ما تم، ففي صباح أحد الأيام، دخل عساكر على حوش معتقل بستان الخير وهم يسوقون عدة بقرات، ونادوا علينا، ووزعوا الأبقار الحلوب على عوائلنا، وكان نصيب عائلتي بقرة حمراء، دقيقة رشيقة، فرحبت بها، وكانت بقرتنا تصعد السلم، ما أجمل طلتها، جاءت بقرتنا لتشارك في اجتماعاتنا، أما فضلها بالحليب فكان مدراراً، وما بخلت عليّ.
ولا أدري إن كان كرماً منهم أو كرم شيوخ اليمن، فقد سمعوا بنقص الحليب عند أطفالنا، فتبرعوا بتلك البقرات، إنه كرم من الله سبحانه، فقد منّ علينا بنعمه وفضله، لقد سلّمنا أمرنا لله تعالى، ورضينا بمشيئة الله وقدره، ورضينا الاعتقال في بستان الخير، وفي حي التقى، قصر أخينا أحمد، رحمه الله، كان هذا القصر مشرع الأبواب لاستقبال كل مظلوم أو مستغيث أو محتاج، كان باب خير لكل من عرفه، فحولوه إلى معتقل لأهله، وسجن لأطفاله الأبرياء. ولكن مصدر صمودنا وقوتنا هو اعتمادنا على الله سبحانه وتعالى، وعلى تعاطف أهل صنعاء معنا، ثم مواقف الشيوخ الشرفاء الذين ما سمعوا بمظلمة أو شكوى أو ضيق لحق بنا، إلا هبوا مستنكرين ومتوعدين.
ولا أخفي أننا قد أمضينا في معتقلنا أياماً طيبة، وإن داخلها الحزن، فعندما كنت أقف على مفرج بستان الخير، أتذكر أبيات الشعر التي قالها أخي علي عند الانتهاء من بناء المفرج في 18 شعبان 1357هـ، قال:
يا مفرجاً في الجمال آيه... ومربع الفضل والهدايه
تخال من تحته المباني... كالجند تصطف حول رايه
بناه من لا يقوم عمري... له بمدح ولا سوايه
لذلك أرخته وحيد... حوى من الحسن كل غايه
تاريخه: 1357 للهجرة
وتنهدت، وأجلت ناظري في أفق صنعاء، وانحنيت أرى الناس في شوارعها، وارتسم أمامي صورة موكب والدي في الدورة اليومية، واستعراضات العرضي، وموسيقى الجيش، ورن في أذني الصوت الرخيم لعمي حمود الشمسي، مؤذن الإمام، واستفقت من هيامي وشرودي لأرى نسوة وأطفالاً وأولاداً معتقلين، وتحت الرقابة، والتفنن في الإزعاج والإرهاب.
فقلت: أيها النازحون عنا، عودوا إلينا، فمكانكم مهجة القلب، ومقلة العين.
أيها الراحلون عنا، قد سلبتم منا الروح ومزقتم الجسد، ولم يبق إلا الدموع، تجري كما أمواج البحر.
لعلي أكون كالطير فأطير، ولكن كيف يطير الطير وقد هاض منه الجناح، وانحدرت من عيني قطرات دمع حارقة لاهبة، واستعذت بالله، فقلت:
تجملي بالصبر يا تقية، إن ما عند الله قريب، فرجه أقرب من حبل الوريد، ونزلت أدراجي أجرُّ كلي جراً.
وتمضي السنون، وتتعاقب التفتيشات والمضايقات والإزعاجات في النهار والليل، حتى كانت أواخر سنة 1385هـ/ 1965م، فإذا بخبر مفرح يصل إلينا؛ أبشروا فإنه سيجري تبادل الأسرى بين القوات الملكية من جهة، والقوات المصرية والقوات الجمهورية من جهة أخرى، وعرفنا أن رجالنا وقبائلنا قد حققت انتصارات في ميادين القتال.
وجرى تبادل الأسرى بواسطة الصليب الأحمر الدولي، ليشمل كل المعتقلين من رجالنا في قصر غمدان، وبالفعل فقد أفرج عن الأولاد، محمد بن القاسم، وعلي بن علي، وعلي بن إبراهيم، ومحمد بن عبد القدوس، وأولادنا الصغار المحتجزين معنا وغيرهم، وكان عدد المفرج عنهم ثلاثين شخصاً، وكان من ضمنهم ابنتي الصغيرة رجاء، ولم يسافر من النساء غيرها، وسبب قبولي بسفرها أنها كانت تعاني من التهاب باللوزتين بحيث أثر المرض على صحتها، وظلت في مرض دائم، وكنت أخاف عليها، أما وقد وصل حال ابنتي لما هي عليه، ولابد من إجراء عملية جراحية لها، فقبلت التضحية ببعدي عنها إنقاذاً لحياتها.
وبالفعل فقد سافر المُفرج عنهم بطائرة الصليب الأحمر الدولي، وتحت إشراف الأمم المتحدة، فوصلوا إلى جدة، ومنها إلى بيروت، وعلمت أن العملية أجريت لابنتي بنجاح والحمد لله، وأدخل الأولاد المدارس، فدرسوا في مدرسة المقاصد الإسلامية بداية، ثم قام مندوب الصليب الأحمر الدولي بزيارتنا في معتقلنا، وسألنا عن حالنا، وما نلاقيه من معاملة، وأبدى استعداده لتوصيل رسائلنا إلى أهلنا للاطمئنان علينا، وكان يرافق مندوب الصليب الأحمر الدولي العقيد شوكت المصري، وضابط آخر يمني.
يتبع العدد القادم