ترجمة خاصة لـ موقع لا ميديا: محمد زبيبة

  
غيث عبدالأحد 
 صحيفة: الجارديان

قبل أربع سنوات من الآن، كان أيمن عسكر سجينا في جنوب اليمن يقضي عقوبة السجن المؤبد بتهمة القتل. أما الآن فقد أصبح رجلاً ثرياً ذا أهمية كبيرة، حيث أصبح لديه علاقات واسعة تصل إلى مناطق عدة في هذا البلد الذي فككته الحرب الأهلية ودمرته. . أيمن تم تعيينه مؤخراً قائدا للأمن في مديرية كبيرة في الميناء الجنوبي في مدينة عدن، عينته الحكومة اليمنية، التي عن طريقها تقوم السعودية بقصف اليمن منذ حوالى ثلاث سنوات ونصف. لكن أيمن هو صديق للإماراتيين أيضاً، وهم الشريك الأكثـر عنفا في التحالف السعودي الذي يقاتل من أجل استعادة حكومة عبد ربه منصور هادي، الذي تمت إزاحته من منصبه من قبل تمرد الحوثيين عام 2015.

بحلول نهاية عام 2015، أصبحت الحرب ضد الحوثيين متشابكة بسبب التنافس بين أعضاء التحالف، وانتشار المليشيات المسيطرة على مناطق البلاد، وتوسع تنظيم القاعدة في الجنوب. لقد تبدلت أحلام أهل عدن، بازدهار مدينتهم بمساعدة إخوانهم الإماراتيين الأغنياء، بمشاعر الاستياء والإحباط. لقد كان الشيخ السلفي مقتنعاً بأن شيئاً ما يجب القيام به.
وقال لي الشيخ السلفي: (عندما انتهت معركة عدن، تركنا في فوضى.. كانت المدينة مقسمة إلى قطاعات، وكانت كل قوة أو ميليشيا تتحكم بجزء، متصارعة مع الأخرى).
وكغيره من الكثير من القادة اليمنيين، أصبح الشيخ زائراً منتظماً لدولة الإمارات، حيث يتمتع بضيافة رعاته الجدد وليستريح من الوضع المتدهور في عدن. وخلال إحدى زياراته إلى أبو ظبي، قال الشيخ إنه قد التقى ببروفيسور مسن يعمل مستشاراً لمحمد بن زايد، ولقد أتى هذا البروفيسور بمصطلح جديد أسماه (خلجنة العرب)، وهو مصطلح أصبح متداولاً في أوساط النخبة الحاكمة في أبو ظبي. ووفقاً للبروفيسور فإن بقية العالم العربي، لكي ينجحوا، يحتاجون إلى اتباع نموذج الممالك الخليجية؛ أي التخلي عن الديموقراطية والتمثيل الشعبي في مقابل توفير الرخاء المالي والأمن. لقد كان الشيخ متقبلاً فورياً لهذا.
وفي إحدى الليالي في أبوظبي، وبعد لقائه للبروفيسور بفترة قصيرة، جلس الشيــخ في غرفته الفخمة في الفندق وبدأ في كتابة رسالة طويلة إلى حلفائه الإماراتيين، تضمنت خارطة طريق لإنقاذ جنوب اليمن والتدخل السعودي. وبعد الشكر لله والجنود الإماراتيين الشجعان وقائدهم محمد بن زايد، بدأ الشيخ في سرد المشاكل التي تهدد المغامرة الإماراتية في اليمن.
في بيان من 16 نقطة بعنوان (خارطة طريق إنقاذ عدن)، دعا الشيخ إلى تشكيل قوة أمنية جديدة تتألف من مقاتلين من المقاومة، وإنشاء خدمة استخبارات جديدة، وإلى تنفيذ الخلجنة عن طريق حظر الأحزاب السياسية والانتخابات. ووضح قائلاً: (يجب علينا هزيمة القاعدة وجعل الجنوب مثالاً على كيفية تنفيذ الاستراتيجيات الجديدة للخليج). 
وحذر من أن مشاعر الانفصال تسيطر على عدن، واقترح على الإمارات أن تستفيد من هذه اللحظة، من خلال رعاية فصيل مخلص من الانفصاليين، كخطوة لمنع قوة أخرى، مثل قطر أو إيران، من المشاركة في الحركة الجنوبية.
وقال لي: (أنظر، أنا أعمل كمستشار للإماراتيين وأريدهم أن ينجحوا، فمصيرنا مشترك. إذا فشلت أنا وقررت الرحيل، سيكون ذلك كارثياً وعدن ستُدمر. أعلم أنني أحتاج إلى الإماراتيين وأنا معتمد عليهم، إلا أنني، في الوقت نفسه، لست ساذجاً. أعلم أن لديهم مشروعهم الخاص، ولهم أهدافهم الخاصة التي تخدمهم، لكن لا بأس من التعاون معهم).
بعد عودته إلى عدن، عمل الشيخ مع جنرال إماراتي لتكوين وتدريب قوة أمنية جديدة موالية له وقادرة على مواجهة التهديد الجهادي المتزايد. وبينما كان الجميع يطالبون بمساعدة مؤسسات الحكومة اليمنية وبإعادة بناء جيش حديث، كان الواقع هو أن الإماراتيين أرادوا أن يتمكن عملاؤهم من السيطرة، بعيداً عن تدخل الرئيس هادي، الذي اعتبروه عقبة، خاصة وأنه قد تحالف مع عدوهم: الإصلاح.
وأضاف الشيخ: (مؤسستا الجيش والشرطة الحاليتان فاسدتان وفاشلتان. لذا أراد الإماراتيون تشكيل قوة جديدة. وكانت الخطة هي تدريب وتجهيز قوة من 3000 رجل، لكننا انتهينا بتشكيل قوة من 13000 رجل، لذلك قمنا بتقسيمهم إلى أربع كتائب). كان القائد العام للقوة الجديدة التي أطلق عليها اسم (الحزام الأمني)، وجميع قادة الكتائب، وبعض المقاتلين، كانوا جميعا جنوبيين وسلفيين. وأصبح الشيخ أحد كبار القادة.. ومع مرور الوقت، شكل الإماراتيون نصف دزينة من الجيوش، انتشرت عبر عدن وجنوب اليمن، ويعمل قادتهم كأمراء حرب مستقلين، بدبابات وسجون وقوة موالية لهم شخصيا. فلا توجد قيادة مركزية لتربط جميع هذه القوى، ولا تملك الحكومة اليمنية أي سيطرة عليها. وبدلاً من ذلك، تعمل هذه القوى بشكل مباشر تحت قيادة القائد العام الإماراتي، الذي يحضرهم ويصرفهم كما يريد، ويكافئهم كلاً بحسب تعاونه وفعاليته. وبعكس وحدات الجيش اليمني الحكومي، بعدده الضخم وأجور المجندين غير المنتظمة، يحصل المقاتلون في القوات التي تسيطر عليها الإمارات على أجورهم بانتظام ويرتدون ملابس وعدة أفضل. وبأقنعتهم السوداء التي يرتدونها ووحشيتهم الرهيبة، يحتجزون ويعذبون ويقتلون ويفلتون من العقاب.
قابلت مرة أحد قادة الحزام الأمني في قاعدته شمال عدن، بالقرب من نقطة تفتيش كبيرة تفصل المدينة عن محافظة لحج المجاورة، والتي كان للجهاديين وجود قوي فيها. وقال لي إن مقاتلي القاعدة كانوا يتواجدون على بعد 200 متر. لقد كانت المحافظة تحت سيطرتهم بالكامل.
وشرح لي القائد كيف سادت قواته. وقال: (لقد كانت معركة صعبة.. فعلى مدى أسابيع، لم ننم فيها سوى بضع ساعات لا تتجاوز الأربع ساعات، قمنا بدوريات في الشوارع واختطفنا المشتبه بهم من القاعدة... كانت معادلة بسيطة، فالقادة والأشرار قمنا بقتلهم. وأولئك الذين اعتبرناهم ضعيفي المخاطرة وقابلين للإصلاح -المتعاونين أو أصحاب المتاجر الذين تعاملوا معهم- قمنا بسجنهم وتعذيبهم، لكننا أطلقنا سراحهم بعد ستة أشهر بضمانات. أما بقية السكان فإننا نتابعهم من خلال المخبرين).
ترجمة خاصة لـ موقع لا ميديا: محمد زبيبة
وفقا لتقرير الأمم المتحدة الذي نشر هذا العام، فإن جميع الأطراف في اليمن تحتجز المشتبهين بهم دون محاكمة، وتقوم بتعذيب المساجين.
لكن لا أحد يستطيع منافسة الاعتقالات والتعذيب والاختفاء القسري التي تقوم بها القوات التي ترعاها الإمارات. فقد تكوين هذه القوات عام 2016 حملة رعب لم يسبق لها مثيل. قام فيها رجال مقنّعون في الليل باعتقال الناس من على أسرّتهم. لم يعلن أحد مسؤوليته عن هذه الاختطافات. وعلى الرغم من أن هذا العمل تم إطلاقه ظاهريًا لمحاربة القاعدة، إلا أن الأهداف توسعت لتشمل أي شخص تجرأ على معارضة الوجود الإماراتي في اليمن.
قابلت في الصيف محامية حقوقية تعمل في وزارة العدل اليمنية، قامت بجمع قوائم بأسماء المحتجزين وشهاداتهم وشهادات عائلاتهم. وأخبرتني: (كنا نتوقع من الاماراتيين، بعد معركة عدن، أن يشكلوا جيشًا واحدًا من المقاومة، ولكن، وبدلاً من ذلك، قاموا بإنشاء عشرات القوات. وأي شخص يعارضهم يقومون باحتجازه.. وأصبحت مطاردة تنظيم القاعدة ذريعة يُعتقل بها أي شخص لا يعجبهم، وجميع المعتقلين تقريبا يتم تعذيبهم، وغالباً ما يتم تعليقهم إلى السقف، والعديد منهم يتعرضون للتحرش الجنسي. والشيء المحزن هو أن الجنوبيين الآن يعذبون جنوبيين بمباركة إماراتية، بينما تقف الحكومة اليمنية تراقب عاجزة).
ووضعت المحامية أمامي كومة من الملفات التي قالت إنها تخص ما يقارب 5000 حالة. وقالت: (ليس لدينا قوة... نطالب بزيارة السجون، لكنهم لا يستجيبون. وحتى لو كانوا حقاً ينتمون للقاعدة، لا يمكن أن يتعرضوا للتعذيب هكذا. إنهم بوضعهم للناس الأبرياء بجانب الجهاديين، وللأطفال بجانب الرجال البالغين في غرف مكتظة، يخلقون من كل هؤلاء الذين يتعرضون للتعذيب قنبلة موقوتة).
وأضافت: (إن عدن يحكمها الخوف.. لقد كانت الحياة أسهل أثناء الحرب، فقد كنا نتجنب المواجهات ونغلق على أنفسنا في البيوت.. كنا نغلي البطاطا ونأكلها مع الخبز، وكنا نشعر بالأمان.. أما الآن فنعيش في خوف).
بعض السجناء لا يعرفون سبب احتجازهم. فشاب جامعي يرتدي نظارة، كان يحب قراءة كتب التاريخ ومناقشتها مع أصدقائه في مقهى للشيشة، تم اعتقاله العام الماضي من قبل رجال ملثمين قاموا بوضعه في مؤخرة شاحنة صغيرة واضعين رأسه على الأرض، واقتيد إلى غرفة بلا نوافذ حيث احتجز فيها لمدة ثلاثة أسابيع. تم استجوابه فيها عدة مرات، ولكنه ظل في غالب الوقت دون استجواب. حتى أنه كان، في بعض الأحيان، يشعر أن سجانيه قد نسوه. وأخبره المحقق، قبل إطلاق سراحه وإرساله إلى منزله، بأن من الأفضل له عدم التحدث مع الناس عن تلك الكتب التي يقرؤها.
لقد تم اعتقال العديد من الأشخاص لغرض الضغط على أفراد عائلاتهم فقط. أحد هؤلاء هو عبدالله، طالب جامعي قابلته في مقهى جوار مركز تسوق مزدحم. كان عبدالله يشرب عصير الليمون الخاص به بصمت، حين لاحظت وجود تشوه في جلده بجانب ذراعه الأيمن، مخفياً كان ينكشف كلما رفع كوب العصير.
وفي منتصف الليل قبل عام، قام رجال ملثمون بالطرق على باب منزله، وأخبروه أنه مطلوب للاستجواب، وأكدوا لوالدته أنه سيعود في الصباح. قاموا بتغطية عينيه ووضعوه على ظهر شاحنة صغيرة. وعندما أخرجوه من الشاحنة، أدرك أنه كان في القاعدة سيئة السمعة التابعة لقائد قوات الحزام الأمني في عدن، أبو اليمامة، وهو ضابط له تاريخ في الكفاح الطويل من أجل استقلال الجنوب، والذي أصبح وكيلا قوياً للإمارات.
نُقل عبد الله إلى زنزانة صغيرة وترك فيها لبضع ساعات. يقول عبدالله: (دخل إلى الزنزانة، قبل الفجر، أربعة رجال. بدؤوا بضربي وطلبوا مني الاعتراف بأن أخي كان يعمل مع الجهاديين. أقسمت أنه لم يكن كذلك. كان لديه محل صغير لإصلاح الجوالات وأجهزة الكمبيوتر. لم يكن حتى يصلي).
أمسك عبدالله قارورة ماء صغيرة كانت على الطاولة. عصرها قليلاً، وسقطت بضع قطرات على الطاولة البلاستيكية البيضاء. وبدأ يحكي: (واحد منهم أحضر زجاجة كهذه وبدأ يرش سائلاً على ظهري. شممت رائحة البنزين تماماً قبل أن يشعلوه. ركضتُ حول الغرفة مصطدماً بالجدران وصرخت بصوت عالٍ حتى أتى حراس وأطفؤوا النار...لم أكن أعرف وقتها أنهم كانوا يقومون بتصويري، وبأن أخي كان معتقلاً عندهم، وكان قد رفض الاعتراف.. عندما عرضوا الفيلم على أخي، قام فوراً بالتوقيع على اعتراف).
تم نقل عبد الله إلى عيادة، وتم إطلاق سراحه بعد ستة أشهر، وذلك بعد تدخل من قبيلته القوية. أما أخوه فلم يصدروا حكماً عليه ولم يطلقوا سراحه حتى الآن.
عندما سألت الشيخ السلفي عن هذه التجاوزات، نظر إلى الأسفل وقال إنها أفعال يرتكبها شركاء الإمارات المحليون. وقال: (إن سياسة استهداف واحتجاز المشتبه بهم من القاعدة مقبولة دوليًا، والإماراتيون شركاء مع الولايات المتحدة في ذلك. لا بأس من استهداف وإخفاء شخص يشتبه بانضمامه للقاعدة.. لكن اعتقال رجل والزّج به في السجن لمدة عام، وتعذيبه لمجرد أن ابنه متهم بالانضمام إلى القاعدة، فهذه مشكلة).
أبو اليمامة هو اسم يجعل الرجال في عدن يرتجفون عند سماعه. يفتخر أبو اليمامة جداً بوحدات النخبة التابعة له، والتي تدربت على يد القوات الخاصة الإماراتية، والتي لها علاقة، أكثر من غيرها، بأسوأ الأعمال الوحشية. جلست بجانبه صباح أحد الأيام في قاعدته بينما كان يشاهد قواته تتدرب على الاقتحام. مجموعة منهم، ترتدي ملابس سوداء، تقتحم غرفة فارغة لتجر أحد مقاتليهم ويطرحوه أرضاً بقوة على الأرضية الإسمنتية قبل تقييده وجره إلى مؤخرة شاحنة صغيرة ثم ينطلقون بها. ويقومون بتكرار نفس التمرين لعدة مرات.
لاحقاً، في مكتبه، رفض أبو اليمامة جميع مزاعم الاحتجازات التعسفية والتعذيب، واعتبرها مؤامرة من جماعة الإخوان المسلمين للإضرار بسمعة قواته. وتساءل: (ماذا يتوقعون مني أن أفعل بالناس الذين يتجولون في الشوارع بأحزمة ناسفة؟! هل أرسل لهم بعض الورود وأدعوهم بأدب لزيارتي؟!)
لم يمت حلم الاستقلال في الجنوب. سكان الجنوب، كجميع سكان المدن المصابة بلعنة المفارقة بين تاريخها المجيد وحاضرها البائس، محكوم عليهم بالتّوق إلى ماض خيالي. هذا الاشتياق هو شكل من أشكال المخدرات، وعادة ما يكون مخدراً غير ضار، حتى يندمج مع الخرافات القومية أو الطائفية، فعندها يصبح خليطاً متقلباً ومتفجراً.
في السنوات التي تلت الوحدة، رأى الجنوبيون دولتهم الاشتراكية العلمانية وهي تتم السيطرة عليها من قبل الشمال الأقوى. رأوا مصانعهم تفكك، وقاداتهم يفصلون من المناصب الحكومية، وأراضيهم يُستولى عليها، ورأوا نظامهم التعليمي والصحي ينهار. لقد تم استبدال دولتهم الفقيرة التي كانت تؤدي وظيفتها بشكل فعال بنظام قبلي شللي فاسد؛ فما كان من المفترض أن تكون شراكة مع الشمال كان مجرد استيلاء.
لأكثر من عقد من الزمان -قبل ثورات الربيع العربي بفترة وجيزة- دعا الناس المتحمسون والعاطفيون في جنوب اليمن برومانسية وسذاجة، إلى إعادة إحياء دولتهم القديمة. وهتفوا وتظاهروا سلمياً في شوارع عدن وفي القرى والجبال والصحارى، وقوبلوا بوحشية وعنف. حيث قامت قوات الأمن بقيادة صالح، ثم هادي بعده (الجنوبي الذي فر إلى الشمال في الثمانينيات وكان قائدا للجيش الشمالي الذي اجتاح الجنوب وسحق آخر محاولة للانفصال عام 1994)، بإطلاق الغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية على المتظاهرين السلميين، واعتقَلت وعذّبت، وقَتلت أحيانا، خارج نطاق القضاء، لقمع الحراك الجنوبي. تم تجاهل قضيتهم إلى حد كبير، من قبل العالم وجيرانهم، حتى غزا الحوثيون الجنوب، ليتغير بعدها كل شيء.
قال لي، بفخر، أحد زعماء المجلس الانتقالي الجنوبي، الجهاز التنظيمي الانفصالي الأساسي والقوة السياسية الأبرز في الجنوب والمدعومة بشكل كبير من الإمارات، قال لي: (لقد أصبح لدينا جيش الآن، ونحن نسيطر على الجنوب، ولدينا حليف إقليمي يقف إلى جانبنا) (تشكيل المجلس الانتقالي كان أحد النقاط الـ16 في خارطة الطريق التي وضعها الشيخ السلفي، الذي أصبح من أحد أعضائها).
وقال لي رئيس المجلس: (لم نكن يوماً بهذه القوة في الجنوب... الناس يقولون إننا تحت سيطرة الإماراتيين، وكما لو أنهم يستطيعون التحكم بنا بالريموت. لكن الإمارات ليست جمعية خيرية. بالطبع لديهم مصالح كتأمين الساحل والتخلص من القاعدة وإقامة دولة صديقة لهم هنا في الجنوب.. لقد كان الإماراتيون بحاجة إلى شريك، وعندما رأوا فشل حكومة هادي، توجب عليهم التصرف).
لكن الحلم باستقلال الجنوب لا يزال محاطًا بالأساطير. والعديد من الانفصاليين، في نقاشهم حول الجنوب القديم، ينسون الحديث عن الجوع والقمع الذي كان موجوداً في تلك السنوات، ويتغاضون بكل بسهولة عن تاريخ مليء بالصراع والانقسام. فأبطال الاستقلال، الذين طردوا البريطانيين في الستينيات، ثم ألغوا النظام القبلي، وأعطوا للنساء حريتهن، وقضوا على الأمية، ووسعوا امتداد البيروقراطية إلى ما وراء حدود عدن البريطانية، إلى أبعد قرية في الصحراء، انتهى بهم الأمر، ككل الثوار، إلى الانقسام والاقتتال.
لقد تغيرت خلافاتهم، حول النظرية الاشتراكية وشكل الدولة، وأصبحت، بشكل حتمي، خلافات شخصية غلبها العنف، وقد بلغت ذروتها في الحرب الأهلية التي دامت 10 أيام في الجنوب في عام 1986، والتي كان هادي من بين الخاسرين فيها ومن الذين تم نفيهم، قبل أن يعودوا منتصرين في 1994 عندما قهر الجيش الشمالي، بسهولة، الجيش الجنوبي في عام 1994. الآن أولئك الذين خسروا في عام 1994 يقفون مع الإماراتيين، بينما يقف هادي وحلفاؤه ضدهم.
الكثيرون قد يجهلون التاريخ، لكن تماماً كما أشعل الأميركيون، بجهل شديد، المسرح لحرب أهلية وحشية في العراق بتحالفهم مع جانب واحد، خلق الإماراتيون الظروف لاستئناف النزاع والحرب الأهلية.
أخبرني أحد النشطاء الشباب: (لم أعد أريد جنوبا مستقلا. كنت أحلم أنا وأصدقائي بهذا، لكن إن كانوا منقسمين الآن لهذه الدرجة، ماذا سيحدث عندما يصبحون دولة؟ سوف يقتلون بعضهم البعض في الشوارع كما فعلوا من قبل).
عُلقَت، هذا الصيف، لوحات ضخمة ملأت شوارع عدن، حملت صورا لولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد، إلى جانب هادي وبعض القادة الأصغر رتبة (بعضهم أحياء وبعضهم أموات). وعلى الجدران كانت هناك رسومات كتابية (جرافيتي) مؤيدة للإمارات، وملصقات مزخرفة بأعلامها. ولكن، مع انتهاء الصيف، بدأت شعارات تطالب برحيل (الاحتلال الإماراتي) بالظهور.
إن انتفاضات الربيع العربي، والفوضى العنيفة التي أعقبتها، خلقت تحولا في ديناميكيات السلطة في العالم العربي. ولم تقم ممالك الخليج فقط بالإعلان عن نفسها كرموز جديدة للاستقرار في منطقة مزقتها الحرب الأهلية، بل قامت أيضاً باستغلال الفرصة لتوجيه قوتها الجديدة عن طريق التدخل في صراعات جيرانها بتمويل وتسليح الميليشيات في سوريا وليبيا واليمن، وبدعم انقلاب عسكري في مصر.
وفي ظل قيادة بن زايد المتشددة، انتهجت الإمارات سياسة خارجية أكثر حزماً، تهدف إلى تأسيس الإمارات كقوة إقليمية. في اليمن، لدى الإمارات ثلاث مهام مركزية منفصلة عن دعمها للتحالف السعودي. أولاً: سحق الإسلام السياسي بأي شكل. ثانياً: السيطرة على خط ساحل البحر الأحمر الاستراتيجي، والذي يشرف على مضيق ضيق مع القرن الأفريقي، حيث وقد أنشأت الإمارات بالفعل قواعد عسكرية في جيبوتي وإريتريا. وثالثاً: تطوير وتعزيز قواتها الخاصة، والتي تُدرب وتُشرف على وكلاء محليين كقوات الحزام الأمني. 
إن السعي المتزايد لهذه الضرورات الجيوسياسية لم تنل، بالضرورة، إعجاب حلفائهم، ظاهرياً، في اليمن. ففي عدن هذا الصيف، ازداد وانتشر انتقاد الإمارات، لا سيما في أوساط الفقراء، الذين ظنوا أن وجود جيرانهم فاحشي الثراء من شأنه أن يجعل حياتهم أفضل. وبدلاً من ذلك، ازدادت خدمة الكهرباء سوءاً، وانتشرت الأمراض التي يمكن الوقاية منها، وزادهم انهيار الريال اليمني فقراً.
في سبتمبر، اندلعت مظاهرات في عدن وبقية الجنوب بسبب حالة الاقتصاد. لقد تلاشى كل أمل في حصول تطوير جديد، وتلاشت حماسة تشكيل المجلس الانتقالي الانفصالي إلى اقتتال وتناحر. وحتى بالنسبة لأقوى حلفاء الإماراتيين (السلفيين) فقد تزايد الاستياء بينهم عن استخدام الإماراتيين لهم كوقود لخوض حرب غيرهم.
وكما قال لي أحد قادة المقاومة السلفيين، والذي توقف عن القتال إلى جانب الإماراتيين، بغضب: (لماذا نرسل أفضل رجالنا للموت في الجبهة، ونقوم بتفجير المدنيين المحاصرين بيننا وبين الحوثيين، فقط لأنهم يريدون السيطرة على الساحل؟).
وفي غرفة فندق صغيرة في أحد الأجزاء الفقيرة من عدن، جلست مع ثلاثة من قادة الحركة الجنوبية، قاتلوا جميعاً مع المقاومة، وكانوا يعتبرون أنفسهم أصدقاء للإماراتيين الذين دعموهم بالمال والسلاح والسيارات. لكنهم قالوا إنهم جميعاً قد وُضعوا، في العام الماضي، كأهداف للاعتقال أو للاغتيال من قبل قوات الحزام الأمني. وقال أحدهم: (إن الحرب معهم ليست سوى مسألة وقت).
ثلاثتهم انضموا الآن إلى معسكر هادي. سألت أحدهم، ظل يدعو لسنوات لانفصال الجنوب، عن السبب الذي جعله يتآمر فجأة ضد الإماراتيين والمجلس الانتقالي للسعودية، فأجابني: (أردنا جنوباً قائماً على مؤسسات دولة، لا ميليشيات.. إن ما لدينا الآن هو حالة من الفوضى يقوم فيها مسلحون بالقتل والاعتقال كما يحلو لهم.. ليس هذا الجنوب الذي كنت أدعو له.. فإما أن يأخذ الإماراتيون الجنوب ويعلنوه مستعمرة لهم، أو يجب عليهم احترام الشعب والرئيس).
وفي زيارتي الأخيرة للشيخ السلفي في عدن، وجدته يائساً. وقال لي: (الجنوب كان يحكمه الجنوبيون على مدى السنوات الثلاث الماضية، ولكنه كان فشلاً). وأصر على وجوب بقاء الإماراتيين: (لأنهم إذا غادروا، يمكن أن تسقط عدن بسهولة مرة أخرى، وستتقاتل كل هذه الوحدات مع بعضها البعض.. نحتاج بقاءهم. لكنّي، وفي الوقت نفسه، أشعر بالإحباط من الأخطاء التي يرتكبونها. أفهم أنهم ما زالوا يتعلمون، كونهم لا يملكون الخبرة كدولة إمبريالية، لكنهم يتصرفون بغطرسة الدولة الإمبريالية).
وختم كلامه قائلاً: (أعلم أن عامين ليسا مدة طويلة في حياة شعب يحاول بناء إمبراطوريته (يقصد الإمارات)، لكنها مدة قصيرة جدًا لتحويل أصدقائك إلى أعداء).
21 ديسمبر 2018