وائل إدريس /كاتب يساري ليبي-

«في مبادرة فزان، يقولون خذوا وزارتين واتركوا وزارة الدفاع، ما يضحكوا علينا! قلت لهم: المغاربة أخذوا البترول والعبيدات، أخذوا البرلمان والبراعصة، أخذوا الوزارة (يقصد الحكومة) ونحن نأخذ وزارة الموت» (الشيخ إبريك اللواطي، أحد مشائخ قبيلة العواقير، في اجتماع مسجل مع قبيلته في فبراير 2017).. 
كتب محلل أجنبي متخصص بالشؤون الليبية قبل يومين، أن الحرب في ليبيا ليست حرباً أيديولوجية، بل هي حرب على الاقتصاد.
هذا صحيح تماماً، فالجميع في ليبيا يعلم تماماً أن الميليشيات التي تقاتل في العاصمة هي التي قضت على الجماعة الإسلامية المقاتلة، وساندها فريقان من تياري الخضر والكرامة حينها، وأن ميليشيا الردع تسجن الكثير من الإسلاميين المقربين من الغرياني، وأن الإخوان وقيادات الإسلاميين كانوا في صف واحد مع خليفة حفتر وكل قيادات الكرامة في 2011، وكان هناك مدح متبادل. كذلك مواجهات الكرامة لم تبدأ ولم تكن موجهة للميليشيات إجمالاً، بل قيادات الميليشيات المحسوبة على البوادي (بولغيب والوكواك وغيرهما) قاتلوا مع حفتر في بداياته وكانوا يعتقدون أنهم يسيطرون على بنغازي والشرق من خلال الدفع بحفتر وغطاء الجيش في الواجهة، كذلك هم أنفسهم ساندوا ميليشيات الزنتان في 2014، واعتبروها جيشاً ليبياً ولا يزال الجميع يذكر ذلك، أي أنهم هؤلاء أنفسهم الذين يقاتلون حفتر في العزيزية اليوم (إجويلي والطرابلسي)، مع التذكير بأن ميليشيا الكانيات (ترهونة) كانت ذاتها، يؤيدها أنصار حفتر اليوم قبل أشهر قليلة، وفجأة أصبح هؤلاء مؤيدين للجيش، حتى الرافضين لحفتر إلى قبل أسبوعين، لأن العامل المشترك هنا هو ترهونة ومعاداة أعدائهم من الميليشيات الأخرى، ولو أضفنا بعض الميليشيات التي اشتركت في عملية حرب المطار في 2014، كميليشيات غريان التي انضمت لحفتر، وميليشيا قبيلة أولاد سليمان التي جرّ ضمها على حفتر عداوة التبو، المنافسين الأقوياء من فبراير لأولاد سليمان، وأضفنا لهم المنضمين لهم من المقارحة حلفاء حفتر وقبيلته، لوضح لنا أن الحديث عن جيشه بمعيار ومنطق أنصاره لا يزال بعيداً عن الواقع، وأن الأمر برمته جمع أكبر عدد من القبائل تحت عنوان الجيش والأرقام العسكرية، ولن أزبد وأزيد بأن تنظيمهم العسكري بعيد جداً عن مفهوم الجيش، ولو شاهدت عناصر الصاعقة وإحدى سراياها وآمرها لظننت أنك أمام صاحب سوابق وليس أمام قائد عسكري.
هنا، لا يعني أني ضد الاستعانة بالقوى الشعبية أو رفض الميليشيات، فأنا لا أستطيع تجاوز واقع هدم البلد وسلطته وما أفرزه ذلك من التماسك القبلي المتين، وإنما الغرض من كلامي وضع الواقع كما هو وتفكيك خطاب المؤيدين الخضر لحفتر بدعوى تغيير طبيعة الصراع إلى جيش وميليشيات، وليس تقدميين ضد الغرب وهيمنته وأدواته، لأن الرجوع لطبيعة الصراع الوطني يكشف عن أسباب هذا التأييد الحقيقية، ويعريها تماماً ويرجعها لأصولها المادية، لا المثالية، كما هو إظهار حقيقة التناقضات القرابية في المجتمع الليبي، فنحن لسنا شعباً بل قرابات، في شرارة معينة ودعم غربي خرج التناقض القرابي للسطح، ومع هدم السلطة اشتد الصراع وأصبحت الحرب قاسية بين الإخوة، لأنها حرب المعاش.

فتنة الجبل فترة الاستعمار الإيطالي
"وهكذا اختفى من الغرب رجل خطر جداً كرمضان السويحلي" (الحاكم الإيطالي الشهير غراتزياني يتحدث عن الشيخ خليفة عسكر).
لو رجعنا لطبيعة الصراع في الجبل، والأسباب التي دفعت بقبول مقاوم كبير كابن عسكر للذهاب إلى الإيطاليين والتحالف معهم، سنجد أن هناك أسباباً جديرة بفهم طبيعة القبائل، فهي كتلة اجتماعية واقتصادية وسياسية، حدودها تبدأ وتنتهي عند القبيلة، حتى في تحالفاتها السياسية ومواقفها الوطنية، فلقد كان ابن عسكر أكثر المجاهدين حنقاً على إيطاليا في الجبل وعاداها في مناسبات كثيرة ولم يجعلها تهنأ في مرحلة السلم أو الحرب، إلا أن طبيعة النزاعات والخلافات التي بدأت بمرسوم تعيين عيسى بوسهمين بديلاً عن بن شعبان من قبل المحمودي على زوارة عندما كان مخولاً من الدولة العثمانية، ومن ثم إقناع بن شعبان لساسي خزام الذي كان على ترابط معه قرابياً بالذهاب معه في خياره ومقتل ساسي، ثم ما أدى لاحقاً لنزوح قبائلهم ناحية زوارة ومحيطها ثم رجوعهم في عام 1919، ثم مقتل رمضان السويحلي وقد كان ابن عسكر حليفه الأكبر وثقته عند الحاجة، ثم إصدار الشيخ محمد فكيني مرسوماً بتعيين أبو الأحباس الذي نال من مصالح ابن عسكر وأهله وانحيازه للآخرين ثم رجوعه لفكيني نازعاً سرجه، وما تلا ذلك من حروب وتهجير للفريقين حتى انتهت بتهجير قبائل الجبالية إلى الوطية، أدى هذا في نتيجته إلى التقاء ابن عسكر والطليان، لكن الطليان لم ينسوا له سابق أعماله، وحقده عليهم، ومناوأته لهم، ولم يثقوا في تواصله معهم، فقبضوا عليه غدراً وأعدموه في يونيو عام 1922.
من السياق ذاته الكثير من القيادات الخضراء، ما كانت لتنال موطئ قدم في السلطات الجديدة، لذلك كان موقفها يعتمد بشكل كبير على مواقفها المتشددة السابقة في مناهضة أعداء النظام وما تخلله من سمعة، كانت لا تحفز على القفز من سفينة النظام على الإطلاق، واختلافها مع القبائل، مما أدى إلى إضعاف مؤتمر القبائل وإضعاف قوة مقاتليه التي هزمت في عام 2014، وحاجتها إلى وجود قيادة واحدة صلبة يجتمع عليها الناس ولم يكن هناك إلا سيف الإسلام وهو مرفوض عندهم لعداوتهم السابقة إبان حكم والده، وعدم ثقتهم به إن وصل للسلطة، وهذا الأمر يعلمه القاصي والداني في أنصار النظام، دفعهم إلى تأييد عمليات الكرامة من بدايتها، خصوصاً أن جزءاً من قياداتها محسوبٌ على قبائل الشرق معقل أنصار الكرامة، وبالتالي إلى الوقوف خلف حفتر ورمي دعم الغرب له تحت أقدام المصلحة الخاصة، خصوصاً في الحاجة للعودة إلى مزارعهم وأملاكهم ونفوذهم السابق، وهو منطق مكرر في حياة المجتمع الليبي والمجتمعات القرابية.
في ليبيا، كغيرنا من الدول غير الناجزة، في بلد اقتصاده ريعي، ومجتمعه قرابي، الفساد فيه نمط معاش، وسلّم القرابة يحمل أيضاً فوارق في الحصول على نسبة من الريع، لكن يبقى دائماً عامل الارتباط القبلي وتمسكه فيه.
لا شك أن الاستقرار مهم، لكن هذا الاستقرار مغشوش في حقيقته لأنه مع إبقاء الهيمنة واستقرارها بسلطة قوية على غرار كامب ديفيد فهو يؤدي أن تلعب ليبيا دوراً أكثر رجعية لصالح الغرب مما هي عليه الآن، بل ستعمل على خنق المزيد من تطلعاتنا نحو بناء الدولة الناجزة التي سعى لها القذافي في مشروعه التقدمي عربياً وأفريقياً وكاد أن ينجح في الثانية لو لم تخنه الظروف الدولية، ولولا صعود تشافيز والقوى اليسارية المتأخر في أمريكا اللاتينية، ولولا أسباب أخرى عديدة لا يتسع لها المقال.
لكن التبرير المثالي حول الذهاب خلف التحالف مع الغرب في السيطرة على الدولة، ثم مناوأتها لاحقاً إذا امتلكنا الإرادة بحسب تعبير أحد هذه القيادات، هو ترك الأمور للقدر وتغييب المنطق ورهن ليبيا لعقود طويلة غالباً للغرب. لا شك أن هذه الظروف هي أفضل ظروف موضوعية لخلق مواجهة مع أكبر عدد من القبائل والقرابات في المجتمع الحاقد على وضع البلد، لدرجة توجيه وعيه إلى أن الإشكالية في الميليشيات بذاتها، لا إلى المشروع الغربي الذي احتاج هذه الوضعية الاستنزافية لفترة من الزمن قبل أن يعود لتشكيلها حسب مقتضيات المصلحة والظروف الكارثية التي تقبل بكل السياقات المطروحة للشعب نتيجة هذا الفراغ.
إذاً علينا بخلق تيار ثالث مناهض، فكل الظروف الموضوعية داخلياً وخارجياً (التناقضات بين المركز الغربي الرأسمالي ودول الأطراف الصاعدة) متوفرة للخروج من التبعية الغربية والقضاء على الميليشيات، لكن تبقى العوامل الذاتية في مواقف هذه القيادات والمواقف القبلية المتذبذبة وعدم استغلال إقصائها خارج السلطة وتوظيفها في الصراع ضد الغرب يداً بيد مع القضاء على كل مظاهر ضعف البلد، هو الخيار الوطني والمادي (وليس المثالي كما يتوهم البعض عن جهل) في الدفع بمجتمعنا الليبي نحو مشروع الدولة الذي يضمن لنا ولأبنائنا وأحفادنا الحياة الكريمة التي تعيشها الأمم الناجزة.
نهايةً، المسألة ليست في الميليشيات والفساد، فما الأولى إلا من مظاهر الهيمنة الكاملة التي تعيشها ليبيا، وأما الفساد فهو وإن لم يكن سابقاً على ما هو عليه اليوم، إلا أن الفساد هو نمط معاش المجتمع الليبي سابقاً وحاضراً ككل المجتمعات القرابية/ الريعية، فهل بعض (هناك استثناءات) قادة النظام السابق أبرياء؟ وأموالهم الحالية جاءت من القانون رقم (10) للمرتبات! سنضحك على أنفسنا إذاً إن قلنا ذلك، فهم ونحن نعرف أنهم كانوا أعلى سلم قرابي في معاش السلطة، أي أعلى سلم الفساد بمعنى آخر (أعود وأؤكد على أنه نمط معاش المجتمع) فهم أصحاب توزيع الريع من خلال الواسطة مثلاً من العقارات السكنية إلى القروض إلى الإيفادات، إلى نسب المشروعات، بالإضافة إلى الفساد المباشر في موضع المسؤولية، فحديث بعضهم عن أنهم يريدون تطهير العاصمة من الفساد مضحك ومثير للسخرية. هذه هي الحقيقة، وأحب أن أواجههم بها ولو أزعجتهم بعد كمية المبررات التحريفية والتوصيفات التي أطلقوها علينا الفترة الأخيرة.
دعني أقول هنا إن موقفنا كيسار وطني عربي وليبي ينطلق من الذهاب خلف التناقض مع المشاريع الغربية، وضرب أدواته، مع السعي لجمع أكبر قدر من أصحاب المصلحة في إزاحة أدوات الغرب من السلطة، ولو أخذت إحدى هذه الأدوات موقفاً مضاداً للغرب سنقبل بها في الصف الوطني، ولو كان سبب هذا التموضع مصالحها القبلية، وستكون هكذا غالباً، لذا سياق الصراع فقط ما يحدد موقفنا اليوم، وأنا أدعو القيادات الوطنية لتطهير نفسها من العبثيين حولها، وما نحن فيه اليوم إلا نتاج المجموعة التي حولكم، سواء من أبناء عمومة أو من الأتباع الذين يبقى إخلاصهم الوحيد لأنفسهم.