أحمد الرازحي: قال الرئيس عقب الاتفاق مع المؤتمر: إذا كان علينا تقديم تنازلات فالأفضل أن نقدمها للداخل
كان ينظر فـي شؤون الناس وهو مريض ويرسل حمايته الشخصية لإسناد المجاهدين فـي الجبهات

إعادة تحرير وتقديم: غــازي المفلحـي
حول حياة وشخصية ومواقف وسلوك الشهيد الرئيس صالح الصماد منذ توليه منصب رئيس المجلس السياسي الأعلى وحتى استشهاده، نذهب مع الأستاذ أحمد الرازحي، سكرتير الرئيس الصماد، وسكرتير اللجنة الثورية العليا سابقاً، في رحلة مذكرات، يروي فيها القليل عن رجل قدم الكثير، رباني خالص النقاء والنزاهة والإخلاص والوطنية، كما تحدثنا أفعاله الصادقة الحريصة والمحبة لليمن واليمنيين قبل أي كلام يقال عنه حياً أو شهيداً.
أحمد الرازحي يروي في السطور القادمة مذكراته عن الشهيد صالح الصماد الإنسان والرئيس في سردية تتناول قصصا تنشر للمرة الأولى من ظل المشهد الرئاسي عن صالح الصماد وقد خص الكاتب الصحيفة بها لتعيد هى بدورها سردها ومحورتها دون الاخلال بجوهرها وسياقاتها ..

ظهور الصماد رسميا على رأس السلطة السياسية
ولد "المجلس السياسي الأعلى" يوم الخميس 28 يوليو 2016، وظهر الرئيس الصماد كأحد طرفي الاتفاق السياسي بين "المؤتمر" و"أنصار الله" وشركائهم.
وكنت مع كثير من الزملاء في سكرتارية اللجنة الثورية محتارين عندما وصلنا خبر يقول إنه تم "تشكيل مجلس سياسي أعلى لإدارة شؤون اليمن"، والذي لا نعرف كيف نشأ وتكَّون وولد بهذه السرعة وبهذه السرية، فحاولت التواصل برئيس اللجنة الثورية العليا للاستفسار حول الموضوع لكني لم أستطع.
فأرسلت أكثر من رسالة لبعض القيادات، منهم الرئيس صالح الصماد، ووصلني الرد منه برسالة توضيحية وقال لي إنه لا مانع أن أنشرها على صفحتي، لكن بحكم عملي سكرتيراً لـ"الثورية العليا" اعتذرت منه بأني لن أنشر ذلك حتى أناقش الموضوع مع المسؤول علينا الأخ/ محمد علي الحوثي، وكان رد الرئيس الصماد سلام الله عليه: "كما ترى، وسوف أتواصل بالأخ محمد علي الحوثي".

ردة فعل اللجنة الثورية
تواصلنا برئيس الثورية العليا، ووجهنا أن نبلغ طاقم العمل بعدم اتخاذ أي موقف، وكذلك إبلاغ أعضاء الثورية العليا بأنه في صدد اللقاء مع الموقعين على الاتفاق السياسي. واستمرت حيرتنا حتى جاء خطاب السيد في عصر اليوم التالي الجمعة 29 يوليو، ليوضح بحزم أهمية هذا الاتفاق السياسي.

اجتماع الثورية العليا
بعد خطاب قائد الثورة السيد عبدالملك حفظه الله عقد اجتماع طارئ لأعضاء اللجنة الثورية العليا في القصر الجمهوري استمر من الساعة 8 إلى الساعة 12 ليلاً، اختتمه الأخ محمد علي الحوثي ببعض المحددات، وتم الاتفاق على الدعوة لمسيرة مباركة لهذا الاتفاق، وتم كتابة بيان الدعوة أثناء الاجتماع وتم إرساله إلى وكالة الأنباء اليمنية (سبأ).

الصماد واللجنة الثورية 
في صباح السبت 30 يوليو 2016 رتبت اجتماع أعضاء الثورية العليا بالأخ صالح الصماد، ووصل أعضاء الثورية العليا قبل الاجتماع بنصف ساعة، ودخلوا إلى مكان الاجتماع قبل الموعد بـ10 دقائق، واجتمع بهم الصماد بناءً على دعوة وجهت له من قبل "اللجنة الثورية العليا"، وافتتح الأخ محمد علي الحوثي، رئيس اللجنة الثورية، الاجتماع بشكلٍ مختصر، مرحباً بالأخ صالح الصماد، وقال: إن لدى أعضاء اللجنة بعض الاستفسارات حول "الاتفاق السياسي" ونريد أن نستمع إليك.
تكلم الشهيد صالح الصماد أولاً حول الانطلاقة الأولى للاتفاق السياسي مع "المؤتمر الشعبي العام"، موضحاً أسباب محدودية موضوع الاتفاق في أربعة أشخاص، والذي بدأ في البداية بشخصين، وتكلم عن مراحل التفاهمات السياسية التي لم تفضِ إلى حلٍّ، بل إلى أفقٍ مسدود، حيث قال إن السعودية قالت إنها لن تدخل في أي مباحثات إلاّ بعد الانسحاب من الحدود، وتسليم المناطق التي تم السيطرة عليها في "نجران" و"جيزان" و"عسير"، وكذلك التوقيع على الاتفاق الذي ينصُّ على تسليم السلاح، وتشكيل لجان في المنطقة (أ) (صنعاء، تعز، الحديدة).
وأيضاً "الأمم المتحدة" كانت هذه مبادرتها في مشاورات "الكويت" وهي من جزأين.
الجزء الأول ينقسم إلى عدة نقاط: تثبيت إطلاق النار، الانسحاب من المنطقة (أ)، وتسليم السلاح... إلخ، وتشكيل لجان محايدة لحماية السفارات والمؤسسات، ولجان مشتركة للمنطقة (أ).
الجزء الثاني: تشكيل حكومة وتوافق على الرئاسة.
ما يعني أنّ الوفد الوطني وصلَ أمام اتفاق مطبوخ جاهز، إلا أنّه رفض ذلك؛ فبحسب وجهة نظر الوفد الوطني فإن الأحرى البدء بتشكيل الحكومة والتوافق على الرئاسة قبل الحديث عن الانسحاب وما إلى ذلك، ودور المبعوث "ولد الشيخ" سيئ للغاية، ووصل به الأمر إلى أن يقول إن على الوفد أن يوقع على الجزء الأول وإلاّ فإنّه سيصرِّح بأن الوفد الوطني معرقل للحوار.
ولذلك كان هناك ضرورة لصنع الاتفاق الذي تم مع إخواننا في المؤتمر بحيث أن الحوار لم يصل إلى نتيجة، وأن السعودية وأمريكا تريدان صياغة اتفاق نوقع عليه، وهو الاستسلام، ولم يرضوا بكل التنازلات التي قدّمها الوفد الوطني، فكان ما قررنا أنه لا يمكن الانسحاب من الحدود ما دام العدوانُ والحصارُ والغاراتُ مستمرة على شعبنا اليمني، وأنه "إذا كان الناس سيقدمون التنازلات فالأفضل أن يقدموها للداخل"، ويصنعوا مصالحةً وطنيةً واتفاقيةً يتمُّ من خلالها تقوية الجبهة الداخلية لمواجهة العدوان الخارجي المتغطرس.
وقال الصماد إن الاتفاق كان ضرورياً وعاجلاً، وهو خطوة أولية لتشكيل إطارٍ عامٍ، وأن الناس لم يناقشوا التفاصيل، وأن الاتفاق قد راعى أقل المحاذير الممكنة، وأنه سيفوِّت على العدوان زعزعة الجبهة الداخلية، ويكفي استياء دول العدوان ومن يقف في فلكها من الاتفاق، ويعتبر استياؤهم شيئاً إيجابياً. أما الشّارع اليمني فأبدى ارتياحه من هذه الخطوة. 
كان هذا جُل ما تحدث به رئيس المجلس السياسي الأعلى، إن لم تخُنّي الذاكرة.
وكنت أنظر إلى وجوهِ أعضاء "اللجنة الثورية العليا" أثناء حديث الرئيس الصماد وكأنّ علامات الاستفهام تتساقط واحدة تلو الأخرى.

موقف أعضاء الثورية العليا
رحب جميع أعضاء "الثورية" بهذا الاتفاق السياسي، وعتب بعضهم لعدم إشعار اللجنة الثورية بذلك لتشارك في إنجاحه بشكل أكبر، وقالوا إن هذه الخطوة أتت متأخرة وكان يجب أن تأتي منذ أشهر، كما يجب على الناس أن يمضوا في ما قد أعلنوه من الاتفاق، خاصة وأن هناك ارتياحاً شعبياً كبيراً.
وكان أعضاء اللجنة الثورية العليا يسألون والرئيس الصماد يجيب ويُبدد ما يلتبس عليهم، وطمأنهم، وشكرهم على حرصهم ومواقفهم التي قاموا بها، والدور الذي تعاطوا به مع الشراكة.
انتهى اللقاء مع رئيس المجلس السياسي الأعلى، وغادر الرئيس صالح الصماد القصر الجمهوري.

الصماد يؤدي القسم في البرلمان
في 14 أغسطس 2016 أدى رئيس المجلس السياسي الأعلى وأعضاء المجلس اليمين الدستورية تحت قبة البرلمان. وكان صدى ذلك ارتياحاً وتفاؤلاً داخلياً، أما الخارج فبعضهم ابتلع لسانه، حتى من الأصدقاء، وأصدرت حكومة بن دغر بياناً بأنه انقلاب جديد، لكن ما يثير الاستغراب إدانة إسماعيل ولد الشيخ للاتفاق واعتبار ذلك انتهاكاً لقرار مجلس الأمن، وقبل أن يعقد مجلس النواب جلسته لإقرار المجلس السياسي في صنعاء بعث عبد ربه منصور هادي رسالة إلى رئاسة المجلس من الرياض قال فيها إنه لا شرعية لدعوة المجلس للانعقاد لإقرار المجلس السياسي ومنحه الثقة، وقوبلت الرسائل والبيانات والتصريحات بالتجاهل من قبل صنعاء، فمنذ بدأت شرارة الحرب والخيارات والقناعات والتوجهات والمصير أصبح لها بُعد آخر.
ألقى الصماد ذلك اليوم خطابا تداولته وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، وتضمن عهداً لله ولأعضاء البرلمان وللشعب اليمني بالعمل والإخلاص والفداء لليمن، وهو ما فعله الشهيد.

تعيين سكرتير الصماد
في 15 أغسطس 2016 تسلم المجلس السياسي السلطة رسمياً من اللجنة الثورية في القصر الجمهوري. وبينما أنا والزملاء مغادرين بعد انتهاء مراسم تسليم اللجنة الثورية التي نتبعها السلطة، تلقيت اتصالاً من الصماد وأنا عند البوابة الجنوبية للقصر قال لي فيه إنه في انتظاري في "فيللا 7".
عُدتُّ وفي مخيلتي تساؤلات كثيرة لماذا استدعاني؟! وصلتُ والرئيس الصماد في انتظاري هو واثنان من مرافقيه في صالة استقبال الضيوف. لم يكن جالساً على الكرسي المخصص للرئيس في صدر الصالة، وإنّما على كرسيٍ جانبيٍ حيث يجلس الزائر. خرج المرافقان وبقيتُ معه بمفردي، وقال لي: هل عرفت لماذا استدعيتك بهذه السرعة، كأول شخص من بعد استلامي السلطة بدقائق؟
 قلتُ له: يدور في رأسي الكثير، وأحبِّذ أن أسمع منكَ. فكان جواب الرئيس (سلام الله عليه): لقد اخترتُك أن تكون السكرتير الخاص لي. 
وأردف: أنا بحاجة أن تكون بجانبي، فلديكم خبرة في هذا المجال، وسبق أن كنت السكرتير الخاص في اللجنة الثورية العليا، ولن تطول مرحلة رئاستي للمجلس، فكل 4 أشهر سوف يتم اختيار رئيس جديد، وأريد منك أن ترفع خطة العمل، وهذا رقم خاص بك للتواصل فيما بيننا، وسيكون بيننا خط ساخن، وأنا واثق فيك "وقد أنت أحلى نظر"، وعليك تشكيل الفريق المساعد لك، وسوف أكون في انتظارك بعد صلاة العشاء للتعرف على أماكن عملنا وتعرف منزلي الخاص لتأتي إلى عندي أي وقت تريد.
دعوت اثنين من المساعدين لي في عمل السكرتارية الخاصة كانا في انتظاري وعرفته عليهما وما هو الدور الذي كانا يقومان به أثناء عملنا في اللجنة الثورية العليا وماذا سيفعلان في العمل الحالي، فقال الرئيس: على بركة الله! ودعا لنا بالتوفيق والسداد في عملنا، واستأذناه وغادرنا القصر الجمهوري.

... قريباً من الله والناس
وبالنسبة للقصر وموظفيه فقد كان يتفقد كافة المباني وصولاً إلى التحويلة وبوابات الحراسة ويسمع من الجميع ويقدم الحلول لمشاكلهم ويوجه بتوفير احتياجاتهم، يتجول بمرافق أو مرافقين ويقترب من الناس، وكان يثق بالجميع ويأمن جانبهم.
كان الصماد يقضي الثلث الأخير من الليل في مُصلاّه، يصلي ويذكر الله ويتدارس القران هو ورفاقه حتى مطلع الشمس.
وعند الشروق، ينام نوماً خفيفاً ولا يهتم بموعد الإفطار، فيستيقظ ويتناول فطوره – فطور الزاهدين الذين قلوبهم متعلقةً بالملكوت الأعلى، ثم ينصرف إلى أوراده وأدعيته، وكان هو ورفاقه يكثرون من التسبيح والاستغفار، ثم يرتدي ملابسه ليذهب إلى مقر عمله، يستقبل قيادة الدولة وغيرهم ممن يطلب اللقاء به، ويفصل في القضايا، ويقدِّم الحلول العاجلة والسريعة، ويجبر الخواطر، يبتسم لهذا ويُقبل رأس ذاك، لا يكل ولا يمل ولا يستفزه أحد، يمتص الغضب بأخلاقه السامية وابتساماته الصادقة، ويُلقي حكمه ونصائحه كالدُّرر تترك في نفوس المتلقين أثراً ينعكس على تعاملاتهم.

لم يتقاعس في عمله حتى في مرضه
أذكر في يومٍ من الأيام، كان الرئيس طريح الفراش ولم يستطع النهوض على قدميه، فأرسلنا له رسالة بأنّ 3 أشخاص يريدون اللقاء به للضرورة العاجلة، وأننا قد اعتذرنا لهم وأبلغناهم بأنه مريض وسيقابلهم بعد تعافيه، وكُنا نعتقد بأنه سيقول لنا: أحسنتم على هذا التصرف، فكان جوابه علينا: اتصلوا بهم وأبلغوهم بأنني مستعد لمقابلتهم الآن، وعليكم أن تأتوا بهم إلى منزلي، وقال: "عيبٌ يا رجال بحق السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي -حفظه الله- إذا ما لقيتهم بايضطروا يسافروا إلى السيد ليلقاهم، وهذا ما يجوز من ربي ينشغل السيد بمواضيع هكذا ونحن موجودون". وكعادة الرئيس -رضوان الله عليه- عندما يخالفنا الرأي في أي موضوع يُلقي كل الحجج والأدلة التي عنده وكأنه يريد يجبر خاطرنا ويوضح لنا ما غاب عن إدراكنا.
وقال إن السيد عبدالملك سيعاني من غربة أشد من غربة الإمام علي -عليه السلام- ولم يبقَ إلاّ أنْ يقول السيد كما قال الإمام علي: "لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظا"، هذا إذا لم نقم بواجبنا ومسؤوليتنا تجاه الناس، ونكون عوناً وسنداً له ليتفرغ للقضايا الكبرى.

يتعامل بالنصح مع المقصرين 
كان الرئيس الشهيد الصماد رجل عزم وتدبير، لا يتسرع في إلقاء الأحكام، ويحمل الناس على السلامة، وكان يُذكرنا بما قال الامام علي (عليه السلام) لولده الحسن: "دع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تُكلف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته فإن الكف عند حيرة الضلال خيرٌ من ركوب الأهوال".
ومما أذكر أنه التقى بشخصين من قيادات الدولة، ومن ضمن ما أطلعاه، أنهما أوقفا أحد الموظفين عن عمله وأعطياه تكليفاً لشخصٍ ثان؛ لارتكابه بعض الأخطاء الشخصية، والأخطاء العملية كعدم الالتزام بالتسلسل الوظيفي، وضعف أدائه الإداري، وأن تعامله مع الإدارات التي تحت إدارته غير جيد، وقد كثُر شاكوه وقلّ شاكروه، فقطع الرئيس حديثهما -وكان يبدو على محيّاه الحزن، وتحوّل إلى محققٍ يُلقي عليهما الأسئلة حول توقيف ذلك الشخص، ولماذا تسرّعا بهذا الشكل، حتى تأكد له صحة أقوالهما؟ ثم طلب الرئيس منهما ألاّ يشعرا ذلك الشخص الذي تم توقيفه بأن الرئيس قد اطلع على أمره.
وقال الرئيس حينها: لا بدّ أن نعملَ لهُ برنامج استعادة، ونعمل على إصلاحه، وننصحهُ حتى لا ينزلق ويضيع، فالله رحيمٌ بعباده، التغيير لا يكون حلاً إن لم يكن مربوطاً ببرنامج الإصلاح. وبعد مغادرة الشخصين، طلب الصماد حضور ذلك الشخص الموقف عن عمله. فأقبل ودخل على استحياء إلى مكتب الرئيس، واستقبله الرئيس في الباب مرحباً به بحفاوة، برغم أنه ليس للرئيس علاقة بذلك الشخص من قبل.
جلسَ ذلك الشخص أمام الرئيس، وكان ينظر إلى الرئيس وكأنه تنبأ بالأمر وبأن عليه القلق الكبير، وكان الرئيس يبتسم له كثيراً، ويُقدم له العصائر والماء بنفسه.
ثم تكلم معه ونصحه بشكل غير مباشر وبأسلوب المحترف الذكي، ثم دعاه لتناول وجبة الغداء معه ليحكي معه أكثر؛ لأن المكان لا يسمح بالكلام الكثير والبقاء لوقت أطول، فذهب ذلك الشخص بنفسٍ غير النفس التي دخل بها وقلبٍ غير قلبه، وكان الرئيس يتواصل به، ويتفقد شأنه حتى شعرَ بذنبه وبتقصيره، وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى بعث للرئيس برسالةٍ خطيّةٍ كتبها من صميم قلبه بكيت عندما قرأتُها، وأدركتُ حُسن التصرف وفن التعامل مع الناس، وأدركت معاني ما ذُكر في الأثر: "إِنَّكُمْ لا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ".

لا يفتي بما لا يعلم
أذكُر في بعض لقاءاته أن أشخاصاً طرحوا عليه قضاياهم التي تحتاج إلى أحكام قضائية، فكان جواب الرئيس الشهيد رحمة الله عليه: يا إخوتي لست قاضياً، وإن أحببتم أن أُحيل عريضتكم إلى مجلس القضاء كجهة مختصة، فأنا في الخدمة وسنحُثهم على الإسراع في الإنجاز بحسب النظام والقانون.
وكان يقولُ لنا: العفو منكم إن أتعبناكم بأوراق الناس، لكن الأجر عند الله عظيم، فالناس لا يريدون إلاّ الاتصال بنا كقيادة مباشرة، فقد اعتادوا في الماضي أن تكون كل صغيرة وكبيرة بيد المسؤول الأول، وهذا السلوك لا يعجبني، ولا أتُوق أن يكون كل شيء بيدي، وإنّما نعمل كمنظومة متكاملة مع بقية مؤسسات الدولة، القضاء والحكومة والرئاسة...، وسيحتاج الناس إلى وقت حتى يدركوا ويعرفوا أين يتوجهون بمعاملاتهم وسنعينهم على ذلك.
فكان يهتم بالإشراف والمتابعة على تنفيذ الخطط المرفوعة إليه؛ خصوصاً التي يرى فيها خططاً للنهوض بالشعب تربوياً أو تعليمياً أو صحياً أو عسكرياً أو اجتماعياً أو تنموياً أو اقتصادياً...

رفد الجبهات أهم من حماية الرئيس
كان يردد مقولة من الأثر: "نتقدمُكم عند اللقاء ونُقدمكم عند العطاء"، وذلك في بعض اللقاءات التي تتطلب التحشيد للجبهات لمواجهة العدوان.
وقد أوفى بوعده، فقد تقدم عند اللقاء وجاد بروحه سلام الله عليه، وكان يقول للناس: "أنا لا أعدكم بما لا أستطيع، ولا أقول إني أمتلك عصا سحرية، لكن سأبذل قُصارى جهدي في تقديم الذي أستطيع عليه". 
أذكر أنه عندما صعّد العدوان في جبهة "نِهم" أرسل حمايته الشخصية للنزول إلى هناك لإسناد المجاهدين، ولم يبق عنده إلاّ السائق وأفراد يعدون بالأصابع، وكان هناك من يقول له: سيدي الرئيس ليس من الصحيح أن تبقى بدون حماية بالشكل المطلوب، فكان جواب الرئيس: "والله إني أستحِي أن أدخل مؤسسةً أو اجتماعاً برفقة بعض الحماية والجبهات في أمس الحاجة إلينا جميعاً، ولولا المسؤولية التي وضعت على عاتقي لحملتُ بندقيتي وجعبتي وما توانيت لحظة واحدة في النزول إلى جبهات العزة والكرامة". وأضاف رحمة الله عليه: "وإذا استهدفني طيران العدوان أكون وحيداً لا يصيب المرافقين أي مكروه".

أخ وصديق لمرافقيه
كان الرئيس الصماد سلام الله عليه يُعامل مرافقيه معاملة راقية، بل ويكلف نفسه كثيراً في الاهتمام بهم ويميزهم على نفسه، ولا يترك أي حواجز بينه وبينهم، يشاركهم مأكلهم ومشربهم، وأثناء النزول الميداني كان يمازحهم ويلتقط الصور معهم، ويشعرهم بأنه يتشرف أن يلتقط الصور معهم، وهناك الكثير من الصور تجمع الرئيس مع رفاقه الذين نالوا معه شرف الشهادة ومع غيرهم، وكان يختار الأماكن التي تتمتع بجمال الطبيعة وبجانب بساط الأزهار، وتحت ظلال الأشجار وحيث الأنهار ليلتقط الصور في زياراته إلى الجبهات.

موقف لا ينسى أبداً
أذكر موقفاً يتعلق بأحد مرافقي الرئيس، وهو الأخ عبد الباري محمد علي مناع (أبو عادل) والذي استشهد مع الرئيس. كان الصماد يرتاح له كثيراً ويحترمه ويقدره.
وكان "أبو عادل" ملازماً للرئيس الصماد في حِلّه وتِرحاله، وكان له دور كبير في مساعدتنا للقيام بأعمالنا.
وذات يوم فوجئت بأن الرئيس نقل عمل "أبو عادل" إلى التحويلة في "القصر الجمهوري". انتظرت أياماً لعلّه يعود إلى عمله برفقة الرئيس، لكنه لم يعُد، ولم أدرِ ما هو السبب، لكن ابتعاده كان له أثرٌ غير إيجابيٍ على أداء العمل. قلت في نفسي: لعل هناك مشكلة مّا! وقلت: لا بدّ من مناقشة ذلك مع الرئيس. وكنت متردداً في طرح السؤال. وذات يوم قبل مغادرة الرئيس بعد انتهاء العمل طرحت السؤال بأسلوب آخر، بأن انتقال "أبو عادل" إلى التحويلة ترك فجوةً في الدور الذي كان يقوم به عندما يكون برفقته.
فأجاب الرئيس بجوابٍ مازال يتردّد في مسامعي إلى اليوم، كلما أتذكر "أبو عادل" أو أنظر إلى صورته.
لقد قال الرئيس وهو ينظر إلى الأرض: "يا أخي، أبو عادل أنا أستحي منه، فهو تقريباً في عمري وأحرج كثيراً عندما أطلب منه مساعدتي في بعض الأشياء".
لم ولن أنسى ذلك الجواب الذي جعلني أراجع حساباتي في التعامل مع من حولي.
انتظرت تقريباً شهراً ثم طلبت من الرئيس أن يُعيد "أبو عادل" للعمل برفقته، وأبديت الأسباب، وكيف القصور في العمل نتيجة غياب "أبو عادل".
فوافق الرئيس وعاد "أبو عادل" لعمله برفقة الرئيس ولم يفارقه حتى استشهد معه في 19 أبريل.
استشهد "أبو عادل" مع الرئيس الصماد، فعرفت معنى فقدان الصديق. لم يكن صديقي "أبو عادل" أذكى الناس ولا أعلمهم ولا أعقلهم، لكنه كان أوفى الناس وأصدقهم للصماد والوطن.
فمن يُرِد أن يكون من الأوفياء فليجعل بين يديه حياة "أبو عادل" ليتعلم منها كيف الوفاء والتضحية.

بقية مرافقي الصماد لحقوا به شهداء
كان هناك الكثير من الأوفياء ممن رافقوا الرئيس الصماد، وبعد استشهاده لم يهدأ لهم بالٌ، وشدوا رحالهم إلى الجبهات، وكان من ضمنهم المجاهد عبدالله حسين هاشم، أحد مرافقي الرئيس الشهيد الصماد، الذي استشهد الرئيس وهو في مهمة، برغم أنه كان أكثر شخص ملازمٍ للرئيس، وبعد استشهاد الصماد نزل إلى الساحل الغربي واستشهد في أكتوبر 2018م. 
وكان الشهيد "عبد الله" السبّاق في سدِّ أي ثغرة أمنية قد تؤدي إلى الرئيس، وأذكر يوم نزلنا إلى محافظة ريمة، جارة القمر والنجوم ومن أعلى قمة في جبال ريمة، أطلّ الرئيس الشهيد من أعلى منصّة يمكن من خلالها مشاهدة الجمال الطبيعي للمنطقة في أبهى صورها. شاهدنا مناظر مذهلة من بدائع صنع الله. وكان الوزراء وبعض المسؤولين يبدو عليهم الاندهاش وربما الحيطة والحذر وهم ينظرون إلى أسفل الجبل. لكن رجل الحماية عبدالله حسين هاشم يقفُ بكل شموخ على الحافة ليحمي الرئيس غير مبالٍ بالمنحدر الشاهق الذي لو زلّت قدمه قيد أنملة سيتحول إلى قطع متناثرة.
... يتبع في العدد القادم.