علي نعمان المقطري -

هل ابتدأت الآن معارك التحرير اليمني جنوباً انطلاقا من الضالع لتحرير الجنوب اليمني المحتل مجدداً؟
الحقيقة هي أن معارك التحرير لم تتوقف أبداً في أي يوم من الأيام من قبل، فقد تواصلت باستمرار، وإن كانت بأشكال ومظاهر مختلفة وفي ساحات أخرى مختلفة.. في الطور الجديد من العدوان كل المعارك التي تتفجر الآن تدور حول محور رئيسي واحد هو الجنوب، والرهان على الجنوب هدفه الفوز بنفط الجنوب وثروات الجنوب من أجل السيطرة على سواحل الجنوب وعلى ثروات الجنوب والمواقع الجنوبية الاستراتيجية الهامة.

كانت السعودية قد فرغت من إحكام السيطرة على الشمال وتوظيفه لاغتصاب الجنوب النفطي والشرق الشمالي النفطي الذي ظل خارج سيطرة العاصمة ضمن التفاهمات والملاحق السرية لاتفاقية جدة السعودية ـ اليمنية الشمالية للعام 70م، والتي كانت تنص على منح السعودية امتيازات للإشراف السياسي والأمني على المحافظات الحدودية شمالاً وشرقاً في صعدة والجوف وحجة ومأرب، وامتناع العاصمة عن ممارسة السيادة عليها وتركها شأناً سعودياً تديره من الباطن عبر مقاوليها المحليين كابن الأحمر وأبو لحوم والشايف وجليدان وبن شاجع وبن جلال وبن معيلي وبن كعلان والغادر والأجدع.
وكان ذلك أول تنازل رسمي صريح وتفريط وقح بالسيادة اليمنية والوطنية على الأرض والإنسان والكرامة، وكان الإرياني والأحمر والعمري والنعمان هم الفرسان الأربعة الكبار لهذه السياسة وقواديها وعرابيها وأصحاب النظام الحاكم بأمر الأمير سلطان وغلمانه وخدمه.

صنعاء غرفة عمليات سعودية لحرب الجنوب
كانت السعودية ومن خلفها تهدف إلى ترسيخ سيطرتها وتوجيه طاقات القبائل نحو حرب واستنزاف الجنوب والسيطرة عليه انطلاقاً من مأرب والجو ف ونجران والبيضاء.
لم يكن نظام صنعاء في نظر السعودية سوى غرفة عمليات متقدمة لحرب الجنوب وأتباع وحلفاء الجنوب، فقد غدا الجنوب منذ استقلاله مركز الزلازل وحوض النفط والغاز والذهب والمياه العذبة، فيه بحر مائي متجمع تحت الأرض منذ ملايين السنين، كان أساس الحضارات اليمنية القديمة التي ازدهرت منذ 10 آلاف سنة قبل الميلاد.

الجنوب مركز الزلازل 
لم يكن التدخل العربي القومي من مصر الشقيقة في الستينيات إلا لهدف رئيسي كان يتبلور لدى قيادتها منذ هزيمة العدوان الثلاثي على مصر 56م، كان الهدف الاستراتيجي للقيادة العربية في مصر هو دحر البريطانيين من الجنوب، من جنوب البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن وكافة المناطق المحتلة الملاصقة للسعودية والخليج، ونقله إلى ساحات الرجعية الخلفية عبرها لمنازلتها في عقر دارها كأتباع للاستعمار البريطاني الغربي وقواعد للاستعمار ومنابع للثروة العربية التي يحتاج إليها العرب الفقراء في الوطن العربي كله.
كان الجنوب هو مركز ثقل التدخل المصري في اليمن، وكان ما يهم مصر هو إزاحة التهديد البريطاني عن جنوب البحر الأحمر وتأمين الخاصرة المصرية جنوباً ومنع إسرائيل من السيطرة على الممر المائي.
وكانت خطة صلاح الدين قد أعدت قبل ثورة سبتمبر بسنوات، فقد كانت المنظمات القومية العربية في الجنوب وحدت نشاطها مع القيادة الناصرية في القاهرة لإطلاق الثورة المسلحة ضد الإنجليز في الجنوب، وكانت بحاجة إلى قاعدة شمالية مستقلة تنطلق منها العمليات العسكرية، لكن الحاكم في الشمال لم يكن جاهزاً أو مستعداً لهذ المشروع التحريري الطموح، ثم جاء الانقلاب على الوحدة العربية وانضمام الإمام إليه مؤيداً ضمنياً بمعارضته القرارات الاشتراكية الناصرية، فاتجه التفكير الناصري إلى ضرورة إسقاط الحكم في صنعاء.
وكان أول هدف من أهداف الثورة السبتمبرية 62م هو التحرر من الاستعمار، وكان الاستعمار البريطاني للجنوب هو المقصود، ومعنى هذا أن الجنوب اليمني كان مركزاً للأحداث وهدفاً للصراعات والنزاعات الاستراتيجية بين قوى دولية وعالمية كبرى انطلاقاً من حقيقة كونه مركز الثقل الاقتصادي والتجاري والثروات الطبيعية والموقع المسيطر على أهم الممرات البحرية الرابطة بين القارات.

انقلاب يونيو  74 م  والجنوب
الانقلاب السعودي ضد حكم الإرياني ـ العيني 74م كان سببه الرئيسي هو تبريده للمجابهة مع الجنوب بعد حرب سبتمبر 72م وتوقيع اتفاقيات الوحدة في القاهرة وبيان طرابلس، وبغض النظر عن التطورات التالية التي تناسلت من الحدث الأصلي، إلا أن أصل الحدث الأساسي كان إرادة السعودية ووكلائها في اليمن الذين قرروا معاقبة الإرياني والعيني على تقارباتهما مع الجنوب ووقف الحرب معه، وهو ما اعتبرته السعودية ووكلاؤها، وخاصة بيت الأحمر والإخوان والبعثيين والكومبرادوريين والإقطاع والسلاطين الفارين من الجنوب وكبار الضباط الفاشيين المعادين للحركة التقدمية اليمنية من بقايا الأغسطسيين والأصنجيين والعشاليين وأجنحة اليمين العسكرية الجنوبية المطرودة.
صحيح أن إعلان إسقاط الإرياني كان يشير إلى الفساد وإرادة الإصلاح، ولكن هذا كان مجرد غطاء سياسي لتبرير الانقلاب الذي رعته السفارة السعودية وملحقها العسكري وأموالها، ومهدت له بزيارات إلى الرياض واجتماعات عديدة عقدتها شخصيات الانقلاب مع الأمير سلطان، مشرف اللجنة الخاصة باليمن، واستمرت تفاعلات الانقلاب تتفاعل بعد ذلك وتتناسل باتجاهات عدة، وأدت الأحداث والمواقف الجديدة إلى صراعات بين أطراف الحدث الرئيسيين، أدت إلى الانقلاب على الشهيد الحمدي لاستكمال الانقلاب الأساسي الأصلي الذي باشرته بيت الأحمر والسفارة السعودية وأجهزتها العاملة.
وكانت النقطة الأساسية للصراع مع الحمدي والتمرد عليه هي الموقف من الجنوب والمصالحة الوطنية معه بدلاً عن الحرب، وهو الأساس السري الذي قام عليه تحالف الانقلاب على الإرياني ونظامه، كما أن اختيار السعودية لعلي صالح وتجاوز الشخصيات الأخرى من الموالين والمقربين للسعودية كان بسبب لياقته العسكرية الحربية وتطرفه في العداء للجنوب وإعلانه الحرب انتقاماً للغشمي، حسب إملاءات السعودية ورغبتها.

الجنوب في منظور الامبريالية الأمريكية 
تُظهر الوثائق المرفوع عنها السرية حول اليمن أن مجلس الأمن القومي الأمريكي قد أولى اهتمامه بتركيز شديد نحو الجنوب اليمني وقيادته الثورية، والنتيجة هي أن الجنوب كان هو مركز جميع الأحداث الكبرى في اليمن خلال عقود العواصف، ومازالت أهميته تتزايد مع كل اكتشاف جديد لثرواته الطبيعية الكامنة والمعروفة ولمزاياه الاستراتيجية وموقعه المتحكم بأهم البحار بين القارات.