صحيفة «لا» كانت إضافة إلى «لاء رفضي» فصرنا بذلك «لاءات» متعددة

الحلقة الثانية /حوار : صـلاح العلـي
عرفت مجاهد منذ 3 سنوات، وحسدته كثيراً، على عالمه الخاص، وفلسفته الشخصية عن الحياة والوجود، ومقدار الاهتمام الذي يملكه والعزيمة التي تتفجر داخله، وصلابته أمام قسوة الأيام والمحيط والعقبات المنهكة التي حاولت إعاقته وفشلت بجدارة.. وها أنا أحظى بشرف أول حوار صحفي معه.
في هذا الحوار –الذي أردناه عن حياة مجاهد التي لا يعرفها جمهوره المحب- يحكي لنا مجاهد فصولاً من طفولته وشبابه، متنقلاً بين المأساة والفرح والفقد والحب، عن صراعه مع المحيط الذي حاول أن يكبله خلف قضبان «العمى» الذي لا يتمنى مغادرته إذ صارا صديقين..
يقدم مجاهد شهادته عن حياة عاصرها، هي حقبة حكم دامية عاشها البلد في ظل سلطة البطش والإجرام.. وككل لحظاته، يخوض هنا محاكمة مفتوحة لكل زيف وكذب وقصور وتضليل... إليكم الحوار..

دكاترة الجامعة لم يقبلوا بحوثي
 مجاهد، أنت لديك الكثير من القصائد والكتابات وغيرها، هل لديك مؤلف أو ديوان أو عمل ملحن؟
لا، لا توجد مؤلفات، لكن كانت لي من بين كثيرة 4 بحوث كبيرة بذلت فيها جهداً ليس بيسير إبان الجامعة، غير أن الدكاترة كانوا يضيعونها ويهملونها بدعوى أنها ليست جهدي، وعلى العكس من ذلك كانت جهدي تماماً.
 لماذا فعلوا ذلك؟ 
ما حدث أن الأكاديميين يطلبون بحوثاً مكتوبة بخط اليد، وهذا غير ممكن معي لكوني أعمى، لكنني أكتب باستخدام الهاتف السمعي وأخرجها نصوصاً مطبوعة، وهذا كان مرفوضاً لديهم! لذا لجأت لمن يكتب لي بخط يده من الزملاء والزميلات، لكن الأكاديميين رفضوها وردوا بأنها ليست من جهدي!

فجعت بضياع 70 قصيدة
 وماذا عن القصائد؟ وهل لحنت لك أعمال منها؟
القصائد أيضاً، كنت قد جمعت حوالي 70 قصيدة في ورق مبيضة جاهزة، وكنت فرحاً محتفياً بها جداً، وفي أحد الأماكن التي كنت أقطنها اختفت بعد ساعة ولم أجدها مجدداً.. وتلك الحادثة كانت من أكبر الفواجع التي ألمت بي.
أما عن تلحين عمل لي فلم يحدث ذلك.
 أنت الذي مررت بتجربة حب جنونية.. وبرغم أنني لا أتفق أن له تعريفاً محدداً، لكن ما هو الحب عندك؟
هو ذلك المدى الرحب وذلك الأفق المستوعب لكل شعاع مضيء، والقاتل لكل الظلمات، والمبدد لكل عتمة وحزن.

أعمى يقود أعمى
 ما هي أطرف مواقفك وحوادثك؟
هي كثيرة، مثلاً، أنني كنت أمشي في الشارع العام مع زميل لي أعمى أيضاً، خلال ذلك سقطت في حفرة تابعة للأشغال من أجل مد خطوط الهواتف تقريباً، وكانت عميقة، كنت في الحفرة وزميلي في الأعلى (حانب) لم يستطع أن يتحرك، وظل ثابتاً مكانه يخشى أن يسقط أيضاً.. لقد ضحكنا بشدة حينها، ولم أشعر بالألم بقدر ما شعرت بالسعادة، فكيف أعمى يقود أعمى!
ولعل جبيني شاهد على الارتطام بأعمدة النور (الكمبات) في الأرصفة، إذ تكون ماشياً في الشارع فإذا بشيء يوقفك فجأة، أحياناً جدار، وأحياناً أعمدة وغيرها... لكنني عرفت للألم والمعاناة طعماً آخر، فما أجمله وأعذبه حين يكون على طريق هدف سامٍ تسعى إليه.

في مركز النور كانت أتعس لحظات حياتي
 على الشق الآخر.. ما أتعس لحظاتك التي عشتها؟
هذا سؤال يجلب التعاسة، لكن سأخبرك.. طبعاً أتعسها هو رحيل أمي، وحالة الغربة التي عشتها في مركز النور لتأهيل المكفوفين.
أيضاً، أتذكر أحد الأيام وأنا طالب في الجامعة، اتصلت بقريب لنا، وهو شخص مترف الحال، بينما كنت بحاجة ماسة لمال، ولا مصدر دخل لي، ولم أكن أملك حينها فلساً واحداً، حتى إن الحال وصل بي لعدم امتلاك الأحذية... أجاب على السماعة فسألته عن أحواله، ومباشرة وبنبرة انزعاج وتأفف أجاب: "زفت"!
لم أتفاعل مع رده، وكنت مطمئناً إن شرحت له الوضع فلن يخذلني وسيرق قلبه، وبدأت أحكي له الأمر والظرف الذي أعيشه، فكان رده: "العلاقة بيني وبينكم انتهت منذ وفاة أبيك". كان الرد كالصاعقة عليَّ.. الحمد لله، تغير الحال الآن، وأثمر الكفاح الطويل، وهذا صار من الذكرى، غير أنها ذكرى مريرة بكل معنى للكلمة، عندما تجد أن من حولك بعد فقدان السند والظهر لا يقدمون ولا يؤخرون؛ حينها تشعر حقاً أنك تعيش في مقبرة مليئة بالأموات، ولا حي فيها سواك.

العاطفة تتحكم بي
 يقال إن الفاقدين إحدى حواسهم يكونون أكثر عاطفة وشجوناً.. ما رأيك أنت؟
أعتقد أنها تأتي من طبيعة البيئة التي تربيت فيها، في منزلنا كانت منبع العاطفة هي أمي رحمها الله، وهي من أنبتت العاطفة بي، وملأتني بها، خاصة مع حكاياتها عن حياتها، أشعر أحياناً أن العاطفة هي المتحكم الرئيسي في تصرفاتي وتوجهاتي.. لكن ربما أن الذي يفقد حاسة من حواسه، يكون أكثر مأساة وعذاباً، وذلك ما يصنع لديه دافعاً للسعي ألا يُحرم الآخرون مما حرم منه.

تأثير البردوني
 أنت ترى نفسك بردونياً.. ما تعليقك؟
أنا تجربة صغيرة في شعر عبد الله البردوني.. ونبي الشعر البردوني بدأت التعرف عليه عام 96م مع برنامجه في إذاعة صنعاء، «مجلة الفكر والأدب»، وبرنامج آخر هو «أولياء الله».. وهذا دفعني لأن أبحث عن برامج أخرى للراحل، فوجدت برنامجاً كان يقدمه منذ ما قبل الثورة، وتقريباً من 48م، واسمه «أسمار وأشجان»، واستمر حتى 62م، وكان لهذه البرامج تأثير كبير عليَّ وعلى تفكيري ووعيي.

دون العمى أفقد شخصيتي
 لو أن لك أمنية محققة، هل ستكون استعادة عينيك؟
لا، لأن العمى أصبح صديقي ألفني وألفته، هو جزء مني الآن ولا أرى نفسي بدونه، ومعنى أن أفقد العمى يعني أن أفقد شخصيتي.. العمى كرحم الأم وحضنها، لا تريد مغادرته لأنه آمن لك، وأنا كالطفل الذي لا يريد مفارقة رحم أمه، فهو المكان الآمن، وصرت أتملك قياده ويتملك قيادي.
 ألا تريد أن ترى شكل زوجتك وطفلك؟ ترى هيئة الوجود حولك؟
لا، أنا أراهم بالصورة التي رسمتها لهم في خيالي. أنا أرى الوجود بطريقتي.

رسمت صورة وكونا خاصا بي
 هل هو خوف بشكل عام من أن تشاهد وتعرف عكس ما تخيلته ورسمته؟!
بالتأكيد خوف.. منذ طفولتي رسمت فلسفتي عن الحياة والوجود والألوان، وكونت نظرتي ومعرفتي التي لا تعتمد على النظر، رسمت الكون والبشر والطبيعة وكل شيء، الأمر الذي يشبه الكون الخاص بي. وقد بذلت الكثير والكثير لأصل لذلك.
أن أعود وأرى يعني أن أعيد استيعاب كل شيء من جديد، وكل صورة كونتها في رأسي عن أي شيء يجب أن أعيد تكوينها من جديد بحسب واقعية النظر. ولا أريد فقدان الصور المثلى التي كونتها للناس.
أحايين كثيرة يا صديقي البصر يكون سبب تعاسة لك. وجميل أن يكون لك ملاذك وعالمك الخاص بك.

مركز النور كان مجيراً لصالح الإخوان
 كيف كانت فترة الدراسة؟ وكيف مرت عليك وتجاوزتها؟!
فترة الدراسة كانت منذ الصف الأول إلى الثانوية في مركز النور لتأهيل المكفوفين في صنعاء.. أستطيع القول إنني مررت بأعقد مجتمع من المجتمعات، مجتمع مصغر يحكي حالة الحراك السياسي والثقافي والفكري التي يعيشها المجتمع اليمني.. في مركز النور يجتمع المنتسبون من كل محافظة من عدن إلى صنعاء إلى صعدة ومن تعز إلى شبوة إلى المهرة.. يجتمع الإصلاحي والاشتراكي والناصري والمؤتمري.. الصوفي والزيدي والشافعي والسلفي، وإلى آخر هذه التوصيفات.
لقد عشنا أوضاعاً وقضايا أكبر منا واهتمامات لا تعنينا كأطفال، ولا يفترض بنا أن نعيشها، وهذا سبب صدمة لنا.. 
عشنا المهانة والمعاناة والجبروت والغطرسة من قبل مسؤولي الأقسام والمشرفين المؤهلين، في إحدى المرات مزح معي البعض مزحة سامجة، وكان ردي الغضب، كنت طفلاً، لكن المشرف قام بمعاقبتي بـ70 ضربة بالعصا على يدي كأنه حد زنا.. أنا طفل، وتألمت بشكل جنوني، وتورمت يدي، ولم يكن فيه ذرة شفقة ليتوقف عن جرمه. كان جلاداً لا مؤهلاً.
وصل بهم الأمر أن يقوموا بصفع الطلاب بشكل قاسٍ جداً.. ولا حسيب أو رقيب عليهم.
أيضاً كان المركز يستخدم استخداماً سياسياً وطائفياً مقيتاً، ومع اندلاع الحرب الأولى صار هذا الوضع أشد قسوة وضراوة.
ولو صلينا ونحن مرسلو الأيدي يأتي المشرف ويقوم بصفعك ويقول لك «ضم يا ابن الكلب»!
كنا نعاقب إن قلنا «حي على خير العمل»، أو حدث وصلينا في مركز بدر…
نحن أطفال وهم يروننا روافض ومجوساً!
 إذن، كان المركز مجيراً سياسياً.. لصالح من تحديداً؟
نعم جداً، لصالح الإخوان المسلمين والوهابية.. نحن كنا أطفالاً لا اهتمام لنا أو تعنت بمسألة سربلة أو ضم أو أذان من نوع ما، ولم نكن ذوي انتماء سياسي. وكان يستخدم للوهبنة والأخونة.
 قلت إن الأمور اشتدت قساوة بعد الحرب الأولى.. كنتم أطفالاً حينها، هل تم تصنيفكم سياسياً؟
نعم بطريقة ما حسبنا كذلك وفق العقلية الإخونجية المريضة.. نحن من بيئة زيدية، واعتبرنا أنصاراً للسيد حسين في حينه، وبالطبع هذه كانت بداية تقربنا من المسيرة.

اقتربنا من المسيرة مع الحرب الثانية والثالثة
 متى بدأ وعيك السياسي يتشكل؟
منذ الحرب الثانية والثالثة تقريباً، وهنا اقتربنا أكثر من المسيرة.. وأتذكر أنني وصديقاً لي من قريتي في بني صريم يريم، أشعلنا حراكاً ضخماً ضد الوهابية، وهو قيس الدرواني، وكان مريضاً بالقلب بسبب سجنه الطويل في الأمن السياسي، وقد توفي الآن، إذ كانت قريتنا لاتزال محصنة بمحبة أهل البيت وتولي العترة، وكانت موجات الوهابية تتعاظم لغزوها كما فعلوا مع كل اليمن وتدمير تراثه وهويته وفقهه وتاريخه، فعلوا ذلك مع الزيدية والشافعية والصوفية والإسماعلية... تاريخهم ضد اليمن مروع، فتخيل وضعنا كأطفال نتلقى التعليم ونعيش وسط هؤلاء! لكننا نحن الـ20 شخصاً الذين صرنا متقاربين في المركز، أشعلنا حراكاً يعادل حراك محافظة اليوم.
كنا غريبين في مركز النور، لا أصدقاء ولا أقارب، ولا أحد معك هناك، الكبير يأكل الصغير. وذات يوم تجرأنا مع اشتداد الحصار علينا بكتابة مقال عن الوضع، وأرسلناه إلى أحمد غراب الذي كان حينها يعمل في صحيفة «السياسية» التابعة لوكالة «سبأ»، وتم نشره، وهذا حسن الوضع كثيراً.

لن أداهن فاسداً أو متزلفاً
 يقال إنك تفرق ولا توحد.. ما تعليقك؟!
قيل ذلك كثيراً، لكن وماذا أصنع لنفسي إذ وجدت فيها رغبة جامحة بأن تعيش الثورة بكل تفاصيل حياتها.. لا أقبل المداهنة والمجاملة، ولا وضع مساحيق التجميل، وهذا ليس عرفاناً مني، بل محاولة للوفاء مع الدماء الزكية التي نزفت في كل ميدان شريف من أجلنا، ولذا عاهدت نفسي ألا أهادن فاسداً ومخرباً ومتزلفاً ومتسلقاً...
ويشهد الله أنني لا أدعي الزكاء لنفسي، ولن أزكيها، لكنني لا أقول إلا ما أعرف صوابيته، وموقن بذلك، ولست أهتم بالتقارير والشكاوى التي تكتب عني، فلو كنا سنهتم فلن نقول حرفاً واحداً في مواجهة العدوان.

شغوف بصحيفة «لا»
 لكل شخص خلال مسيرته الإبداعية كان هناك أشخاص مؤثرون كتاباً وإعلاميين وصحفيين وأدباء… من كانوا بالنسبة لك؟!
في الجانب الإعلامي كان أول من أثر بي هو صلاح العلي، يعجبني ما يكتب وأتوق إلى تحليلاته وقراءاته، ويعجبني أن أستفزه لأخرج ما لديه، وصلاح العلي بدوره هداني إلى صحيفة «لا»، وملأني شغفا بها، ومن هُنا هُديت إلى قلم صلاح الدكاك، وأعتقد أنني منذ أن عرفت الصحيفة لم يفتني مقال، أيضاً من خلال الصحيفة تعرفت على الكاتب والمحلل والمفكر الاستراتيجي والعسكري الرائع والمؤثر جداً بأمانة، الأستاذ علي نعمان المقطري، وهذا الرجل يدهشني كثيراً ما يكتبه وما يطرحه من مقاربات... وكثير من الكتاب الذين يفاجئوك بما يطرحونه وما تقدمه الصحيفة من خطاب متميز، فكانت هي الهادي لي في الجانب الإعلامي، وكانت «لا» بمثابة الـ»لا» التي أضيفت إلى «لا» رفضي، فصرنا «لاءات» متعددة، وصرت بذلك حالة لا تقبل المهادنة، وقيل «إذا عُرف السبب بطل العجب»، فإذا كانت هذه الأسماء التي لم يكن أصحابها سدنة للحكام أو مسبحين باسمه، هم معلميك، فكيف بك ستكون إذن! والطالب يعمل لأن يفوق معلمه في هذا المسار، وأنا الفكر الذي ارتبطت به، والمعين الذي لا ينضب مصدره صحيفة «لا» الطاقة متفجرة في داخلي.


بطاقــــة 
سرور الشريفي
(في ذكرى زواجها من مجاهد)
مختلفان عن الجميع، يكتمل فينا عالم كبير، وتحتفل في ذاتنا الواحدة ذوات مناسباتنا المتعددة،  نختصر الكلمات بكلمة واحدة مكتوبة بأقل ما في أبجديات اللغة من حروف، وبأوفر ما في هذه الدنيا من أحاسيس ومشاعر، ترصدنا أعين السعادة في كل لحظة، وتتربص بنا الصدف الجميلة منذ الصدفة الحزينة الأولى التي تحولت بنا إلى عمق الفرح، لنغرق بعدها في تدابير الله اللطيفة بنا.
التقينا على ضفاف الماضي لنواصل سبيلنا معاً على ورود ذلك الذي كان يُدعى الحاضر نحو المستقبل، كنا نحمل الأمل على أكتاف أوجاعنا المكابرة، متجاهلين كل أشواك الخيبة في طريقنا، تمنينا أن يتفهمنا البشر فتفهمنا ربهم، وكان ذلك أعظم مما تمنيناه، حمدناه ومضينا نميط أذى  الأعزاء على قلبنا الواحد هو أيضاً، وبصمت الواثقين حبسنا نوايانا الطاهرة في صندوق الوفاء.
قررنا ذات وعد صادق أن نزرع بذرة حب صغيرة علها تزهر، فكانت شجرة مباركة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.
إننا وبحجم تلك الآلام ننعم كل حين بعدها بالعافية، في أرواحنا وفي حياتنا، لأننا وبنفس مطمئنة تركنا قارب المنغصات الصغير يبحر بعيداً عنا، ويوماً ما سيقرأ الكون عنا تلك الرواية التي كُتِبت أحداثها على سطور الحياة بالدموع وبالابتسامات معاً.

# ديانة_الأمل