بسبب انبهارها وانجرارها وراء الغرب الاستعماري، ثقافياً وسياسياً على وجه الخصوص، فإن المنطقة العربية ما تزال شبه مغيبة عن الاطلاع على الإرث والأثر الفكري والعملي للدكتور الشهيد علي شريعتي، رغم شهرته الواسعة، ورغم حاجتها إليه.
فمن بين كل مفكري العالم، يكاد يكون شريعتي وحده الذي آمن بما لدى شعوب العالم المقهورة والمجتمعات المستضعفة، من ذخائر وكنوز روحية ومعنوية لا ينقصها سوى الالتفات إليها وحُسن استثمارها، لتجعل من أولئك المقهورين والمستضعفين قوة قادرة على مواجهة أعتى قوى العصر المادية، بجيوشها وأسلحتها وتكنولوجيتها وأموالها...
من هنا، اختارت صحيفة «لا» كتاب «النباهة والاستحمار» كي تقدم به لقرائها نموذجا من الإرث الفكري الجليل للدكتور الشهيد علي شريعتي.

عون الظلمة
مهما تطور الفن والصنعة، فإنه ليس إلا طريقاً للتعجيل بخسارة الإنسان. وتباً له إذا فقد نباهته الإنسانية والاجتماعية! فالشعب أو المجتمع الذي يفقد نباهته الإنسانية أو الاجتماعية، فما "مهندسه" إلا مصلح للآليات الغربية، وهو خير وسيلة لاستيراد البضائع الغربية إلى بلاده، وما "فنِّيه" إلا دلال طغيان وظلم يمهد الطريق للاستعمار، وما "عالمه" إلا موظف أجير بالقوة والمال، يستمد فكره ونهجه في التحقيق، من الأجنبي، في داخل البلاد وخارجها... وهكذا نرى أدمغة العالم الثالث تنقسم قسمين: قسم منها يُؤخذ إلى الخارج فيُستهلك في تلك الأجهزة العظيمة، باذلاً للأجانب نبوغه وقابلياته من أجل أن يملأ بطنه، ولم يدرِ أي شيء خسر مقابل ألفي "تومان" يضاف على الراتب! وقسم يعود إلى البلاد ويشكل الدعامة الخامسة للبلاد، للاستهلاك الأجنبي. فتكون مهمة الأديب والمحقق والفيلسوف منهم استنزاف الأفكار وتحجيرها، وتغيير الأذهان وتحريفها، ويقوم الفنيون والفيزيائيون والكيميائيون بمهمة تسمينهم!
قبل ثلاثين سنة لم يكن في أفريقيا كلها مهندس أفريقي واحد، فكان المتمولون الفرنسيون، أصحاب رؤوس الأموال، يأتون بالمهندسين من فرنسا ويدفعون لهم شهرياً خمسين ألف "تومان". أما الآن فقد شاء الله أن يكون بين الأفارقة مهندسون منهم، ويعملون العمل نفسه الذي كان يعمله الفرنسيون؛ لكنهم لا يتقاضون إلا ألفي تومان فقط!
إن الشيء الذي يُنجي الإنسان والمجتمع والأمة من شؤم مصير الاستنزاف الفكري في طريقتيه القديمة والحديثة، هما: "النباهة الإنسانية" التي يتحدث عنها الدين الراقي، ذلك الدين الذي يتجاوز العلم، و"الوعي الاجتماعي" الذي تتحدث عنه الرسالة العقائدية النبوية. وينبغي أن تكون هاتان الدرايتان مقياساً لكل إنسان، لاسيما في العالم الثالث، فضلاً عن المجتمعات الإسلامية والشرقية؛ لأنهم متى نظروا إلى المسائل بغير هذا المقياس خسروا؛ لأن المزورين اليوم ليسوا ألعوبة الأمس التعيسة، إن هؤلاء يصنعون في الأساس عيناً ونظرة. ولذا فإن الإفلات من مصائدهم، والخروج من مضائقهم، وكشف مخططاتهم، يستلزم أن يبصر الإنسان، ويعلم أي مؤامرة غربية معقدة يوْقِعُون بها جيلاً من الأجيال، ثم أن يعلموا بعد ذلك ما الذي يريدون أن يصنعوه لأنفسهم! فإن غفلت عن هذا فستكون ضحية تحت سكاكينهم، تنشط في ضغطهم عليك، وترقص إذ يذبحونك!
إن بلاهةً وحماقةً غريبة للغاية كهذه، تصيب الأجيال في جميع أنحاء العالم، حتى في الغرب نفسه أيضاً؛ فالناس في الغرب ليسوا تلك الأيدي والضمائر التي تقرر المصير في الشرق.

الاستحمار.. ورباعية:الاستغلال، الاستعمار، الاستبداد، والاستعباد
لا بد من مقياس للتطبيق. عينان ونظرتان: دراية ذاتية، ودراية اجتماعية. وأي دعوة ودعاية وكلام وتقدم وحضارة وثقافة وقدرة... خارج إطار هاتين الدرايتين ليست إلا تخديراً للأفكار، للانصراف عن الإنسانية والاستقلال والحرية. إنه تسخير للإنسان كما يُسخّر الحمار. ومن هنا أُطلق على هذا العمل اسم "الاستحمار".
أما الدافع لهذا الاستحمار فقد بلغ درجة من القوة والشيوع في زماننا هذا، لم يسبق لها نظير على مر التاريخ.
كان الاستحمار في الماضي تابعاً لنبوغ المستحمرين وتجاربهم. أما اليوم فقد أصبح معززاً بالعلم، بالإذاعة والتلفزيون وكل وسائل الإعلام، بالتربية والتعليم، بالمعارض، بعلم النفس الحديث، بعلم الاجتماع، بعلم النفس التربوي!... صار فنّا مجهزاً بالعلم، دقيقاً جداً، ومن هنا تصعب معرفته.
إن أي مسألة أو قضية عرضتها عليكم، فلسفية كانت أم علمية أم فنية، وإن كانت قضية تقدُّم المجتمع والحياة، فإنها إذا كانت منحرفة عن "النباهة الذاتية" و"النباهة الاجتماعية"، فهي دعوة كاذبة، غاشمة، مزورة، عاقبتها الذل والعبودية والغفلة.
ما الفرق بين أن يكون الإنسان "عبداً حديثاً"، أو أن يكون "عبداً قديماً"؟! بين أن تكون "جارية حديثة" أو "جارية قديمة"؟! لا فرق إلا في الكلمات. فذاك يسمي الجارية "ضعيفة" وهذا يسميها "لطيفة"، والمعنى واحد؛ أي: "لست إنساناً".
إذن فمعنى الاستحمار: تزييف ذهن الإنسان ووعيه وشعوره، وحرف مساره عن "النباهة الذاتية" و"النباهة الاجتماعية"؛ أي: دافع عمل على تحريف هاتين النباهتين، وحرف الفرد والجيل والمجتمع عنهما، فهو دافع "استحمار"، وإن بدا من أكثر الدوافع قدسية وأقدسها اسماً. إن أي عمل ومهمة سوى هاتين النباهتين، أو ما يعد في طريقهما، ما هو إلا ذهاب في العبودية، والوقوع ضحية لقوة العدو والاستحمار المطلق، وإن بدا عملاً مقدساً وموضوعه مهم جداً.
إن من سوء الحظ أن لا ندرك ما يراد بنا، فيصرفوننا عما ينبغي أن نفكر فيه من مصير مجتمعنا، أو ما أُفكر فيه "أنا" من مصيري كإنسان، إلى أن نفكر في أشياء نحسبها راقية جداً وعظيمة ومشرِّفة، فيصيبون الهدف دون أنْ نشعر! ومن أجل هذا قلت في مكان آخر: "إذا لم تكن حاضر الذهن في الموقف الإنساني، فكن أينما أردت. المهم أنك لم تحضر الموقف، فكن أينما شئت؛ واقفاً للصلاة أم جالساً للخمرة، كلاهما واحد".
إن المستعمرين لا يدعونك إلى ما تستاء منه دائماً، فيثيرون نفورك فتنفر منهم إلى المكان الذي ينبغي أن تصير إليه، بل يختارون دعوتك حسب حاجتهم، فيدعونك أحياناً إلى ما تعتقده أمراً طيباً من أجل القضاء على حقٍّ كبير، حق مجتمع أو إنسان، وأحياناً تدعى لتنشغل في حق آخر، فيقضون هم على حقٍّ آخر هو أهم.
عندما يشب حريق في بيت، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله، ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن، فكيف إن دعاك إلى عمل آخر؟!
فالاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، ما هو إلا استحمار، وإن كان عملاً مقدساً أو غير مقدس. فتنبه! حتى لو كانت مناجاة مع الله، أو وقوفاً للصلاة، أو انشغالاً في مطالعة أحسن الكتب العلمية والأدبية، أو أكبر اكتشاف علمي، أو أي عمل تقوم به، أو أي شيء تنشغل به... كل ذلك يدل على أن الداعي قد استحمرك! واستعمرك، وألغى وجودك!
إن أي جيل انصرف عن التفكير في "الوعي الإنساني" كعقيدة واتجاه فكري ومسير حياة وتحرُّك دائم، لا كانشغال يومي يزاوله كل شخص، وأي إنسان لا يفكر في "الوعي أو الدراية الاجتماعية" بمعنى "درايتنا أو وعينا نحن"، وإنما يفكر في شيء غير مصير المجتمع ومشاكله ومبهماته واحتياجاته، فإن هذا التفكير حتى لو كان في شيء مقدس، فهو استحمار! وقد استُحمر ذاك الجيل. ولذا فإن الاستحمار قد لا يدعوك إلى القبائح والانحرافات أحياناً، بل على العكس، قد يدعوك إلى المحاسن، ليصرفك عن الحقيقة التي يشعر هو بخطرها، كيلا تفكر فيها فتنبهك "أنت" و"الناس".
وهنا يغفل الإنسان، ويتجه نحو جمال العمل ولطفه، غافلاً عن الشيء الذي ينبغي أن يعيه. هذا هو الاستحمار من طريق مباشر.

من التاريخ
اتخذ بنو العباس سياسة غريبة في التاريخ الإسلامي؛ إذ كان المسلمون في فجر الإسلام إذا أحسوا بخطر يهدد مصيرهم، أو رأوا ظلماً أصابهم من الخليفة أو قرابته، عطَّلوا أشغالهم وتركوا الأسواق والمحلات، وهرعوا إلى المساجد، فصاحوا واستغاثوا ودعوا الخليفة للمحاكمة والاستنصاف. كان هذا شعور المسلمين الاجتماعي في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي زمن أبي بكر ثم في عهد عمر وفي عهد علي أيضاً، وحتى في عهد بني أمية. وواضح أنه لا يمكن بسهولة أن يتم التحكّم والتسلّط على أناس كهؤلاء، حيث يصعب الظلم والسيطرة عليهم مع هذه الجرأة والجسارة. كانوا أهل دراية اجتماعية وإنسانية كما ذكرت؛ لماذا؟ لأنهم مسلمون ملتزمون اجتماعياً بشدة وحرص، إذا سمعوا صوت الأذان هرعوا إلى الصلاة فحاسبوا أنفسهم، وفكروا في مصيرهم و"درايتهم". وحينما رأوا "عُمَر"، ذاك الإمبراطور الذي فتح مصر وإيران والروم، يرتدي ثوباً من الغنائم الحربية أطول من ثيابهم بقليل، علت أصواتهم بالمعارضة يطالبون بالمساواة في تقسيم الغنائم، لا فرق عندهم بين "عمر" أميرهم، امبراطور الشرق والغرب، وبين جندي من الجنود. فخاطبوه: لماذا ثوبك أطول من ثيابنا؟
أجبروه على المحاكمة لأول مرة، وأخذوه بإيثار نفسه عليهم بذاك الثوب. طالبوه بالعدالة، بدلاً من الثناء عليه وإجلاله على فتح إيران والروم. انظر إلى شعور تلك الأمة. أُنظر إلى اهتمامهم والتزامهم بمصيرهم. يستطيعون أن يرفعوا إيران المتحضرة في العهد الساساني بأطراف أصابعهم، ويلقون بها أينما شاؤوا، وقد قلعوها فلا يُعلم أين ذهبت. لذا فإنهم قادرون على فتح الروم كله. استطاعوا فتح مصر وإخضاعها بثلاثة آلاف رجل فقط.
أُناس يغيرون مجرى التاريخ، ويهتمون بمصير مجتمعهم بدقة وولع. يُجبرون "عمر" على الحضور إلى المسجد ليجيب الناس بنفسه، من غير ممثل، أو ناطق عنه موصى بما يقوله!
ويأتي بابنه عبدالله شاهداً معه، ويخاطب الناس قائلاً: إن نصيبي من القماش لم يكفني ثوباً، لطول قامتي، وقد أعطاني ابني عبدالله نصيبه فأضفته لنصيبي وصنعت ثوبي هذا. هلمّوا فتّشوا، ابعثوا وكلاء منكم، حققوا كيفما شئتم، فإن عبدالله ليس عنده من هذه الغنيمة... وبرأوا "عمر" بعد التحقيق!
إذن، واضح أنه لا يمكن التحكّم بهؤلاء الناس كيفما كان. وليس لهم علاج سوى الاستنزاف، أي أن تستنزف منهم تلك الدراية السياسية التي يذكرها أفلاطون، وتسلب منهم تلك الدراية الاجتماعية النبوية النيّرة التي ذكرتها. وإذا سُلبت منهم لا يبقى بعدها شيء ذو خطر، شاؤوا أن يكونوا علماء أم فلاسفة، ليس بذي أهمية. حتى لو كان نصفهم كأبي علي بن سينا، والنصف الآخر كالحلاج، فلا فرق. وعلى كلٍّ فإنهم ليسوا سوى خدم الخليفة. وهل كان ابن سينا غير ذلك؟! فالرجل في شبابه طبقت شهرته العالم بنبوغه، ولكنه ليس سوى قلم كاتب "لجلالة الخاقان".
ولو أنه لم يكن ذا شعور لكان أفضل! يصير الإنسان كذلك إن لم يكن له هدف؛ إذ لا يجديه حينها علمه ولا فنّه ولا مكانته.
ماذا عن كبار الفنيين والعلماء وكبار أعلام الفنون الجميلة وأهل الصنعة؟! تراهم يصنعون "على قابو"()، ويضعون "ألف ليلة وليلة" في دار الخلافة في بغداد. وطبيعي أنه لو لم يكن لنا فن لكان أفضل! ما هي فائدة هذا الفن وهذا العلم؟! لا شيء، فقد انحرفوا بالناس عن مسار "درايتهم الاجتماعية".
يأتي زمان بني العباس، ويتزوج جعفر البرمكي العباسة. أقيمت وليمة الزفاف، وطُبخ من الطعام ما أخذوا يُخرجون فائضه من بغداد عدة أيام، حتى تراكم جبل من الطعام خارج المدينة. وبعد أن أكلت منه الطيور والحيوانات أياماً، تعفن فأخذ يهدد صحة الناس وسلامتهم، مما اضطرهم إلى استئجار جماعة لإبعاده عن المدينة!... ولم يظهر رجل من المسلمين في كل المجتمع الإسلامي ليقول لهم: هذا الطعام الكثير إسراف في الدين. نعم! لم يقل ذلك أحدٌ، لا عالم ولا فقيه ولا شاعر، لا نبيه ولا غير نبيه، لا فيلسوف ولا إمام ولا... لماذا؟ لأن "الدراية الاجتماعية" لم تكن موجودة لديهم. لكن هؤلاء الناس الذين لم يُبدوا اكتراثاً لذلك الإسراف كله كانوا يجتمعون معاً ويتحدثون فيما بينهم، يتسامرون ويحتفلون... بماذا؟! بأنهم اكتشفوا لغة، أو وجدوا قاعدة نحوية للغة العربية! عثروا على كتاب في الطب والأدوية يريدون أن يترجموه ليحصلوا على وزنه ذهباً! وبلغت الأبحاث الفلسفية والعلمية والأدبية، وعلوم الجمال والفن ذروتها، حتى ظهرت الحضارة الإسلامية العظيمة في زمان بني العباس! لكن هذا لا يجدي، فهؤلاء الناس لم يبقَ لهم شعور بالنسبة إلى مصيرهم الاجتماعي، فكانت النتيجة يوم دخل المغول، لم تجد حضارة ولا اقتدارا ولا معرفة. هدأ الجميع كالغنم. الضحايا تحت سياط وسيوف المغول. فلم تبقَ حشمة ولا جلالة ولا حضارة إسلامية ولا امبراطورية إسلامية في الشرق والغرب إلا وخضعت للمغول. لماذا؟ لأن "الدراية الاجتماعية" كانت منعدمة! وهكذا نجد دافع الاستعمار في زمان بني العباس هو العلم، والحضارة والفن، والأدب والتحقيق العلمي والفني والأدبي واللاأدبي.