المعركة الإيهامية
الحرب الإيهامية إحدى أدوات الاستحمار والإلهاء عن الدرايتين المذكورتين.
ذكر عمي الساكن في قرية "مزينان" أن سيداً في هذه القرية عاملني معاملة مضحكة أصبحت منهجاً عاماً في العالم.
عمي يحب "الديكة" كثيراً. أتى السيد ذات يوم إلى عمي وقال: في بهمن آباد (بالقرب من قريتنا) تباع الديوك رخيصة جداً.
• كم ثمن الواحد مثلاً؟
• ديوك جميلة وسليمة غير أمريكية، يباع الواحد بخمسة توامين!
• (ينكر عليه عمي) لا! كيف يمكن هذا؟! يباع الديك هنا بعشرة توامين، وعلى مسافة كيلومتر واحد فقط يباع بخمسة توامين؟! لا يمكن هذا!
• لا يا مولاي! بل هو ممكن. اعطني الثمن فآتيك بالديوك!
• خذ، هذه خمسون توماناً، ائتنا بعشرة!
ويمضي السيد، وبعد ساعتين يعود بعشرة ديوك كبار وسمان، والواحد بخمسة توامين!
• ألا تريد نقوداً؟!
• لا يا مولاي! إذا كنتم محتاجين إلى مزيد من الديوك آتيكم بها يا مولاي.
يمضي شهران ويأتي أحد أصدقاء عمي لزيارته من "بهمن آباد"، فيجلسان ويتحادثان فيقول الضيف:
• إن أمَّ فلان مُنذْ أن وضعت البيض تحت الدجاجة قد نذرت كل ديك يظهر فيها لك!
وصدفة ظهر 16 أو 17 فرخاً، مات منها أربعة أو خمسة أفراخ، والباقي كله ديكة أرسلناه لكم بعد تمام ستة أشهر.
• هل كانت الفراه جيدة؟
• أي فراخ؟!
• الفراخ التي بعثناها لكم بيد السيد!
• السيد! أي سيّد؟! لقد باعني الواحد بخمسة توامين واستلم الثمن!
• خمسة توامين ماذا؟! قيمة الديك في "بهمن آباد" 15 توماناً، إنه أعلى ثمناً منها هنا!
• سألت السيد كم قيمة الديك في بهمن آباد، فقال خمسة توامين. أعطيته خمسين توماناً وجاءني بعشرة فراخ!
• لا يا مولاي، إنه نذر، كيف يكون ذلك؟!
يقول عمي: علمت أن السيد كان في "بهمن آباد"، وكان قد طلب منه صديقنا (الضيف) أنه متى عزم الذهاب إلى "مزينان" يأخذ معه الديكة ويأتينا بها، فاتفق معه السيد على هذا. يأتي السيد بعد ذلك إلى مزينان ويخبر عمي أن في بهمن آباد ديكة سمينة جميلة، يباع الواحد بخمسة توامين، فيأخذ المبلغ ويعود إلى بهمن آباد ويأتينا بالديكة المنذورة!
يقول عمي: بينما كنت أنا وضيفي نتحدث عن الديكة إذا بالسيد يدخل علينا على غير علم مسبق منه باجتماعنا في ذاك المكان، وما إن أردنا أن نسأله عن الديكة فاجأنا بصوت عال:
• مولانا! لأي شيء أنتما جالسان؟ قد أُريقت الدماء خلف داركم، قتل اثنان وثلاثة مضوا! هلك آخر! أكلت النار بيت فلان...!
يقول عمي: خرجنا بسرعة وبدهشة نتحقق الخبر فلم نجد أحداً خارج الدار، ولا في السوق، سوى رجلين جالسين يدخنان من غليون بلا همّ ولا غمّ! سألناهما: ما الخبر؟ ما الذي وقع؟ أين محل الحادث؟ أجابا: لم يحدث شيء! عدنا إلى الدار فلم نجد السيد! أخرج نفسه من تلك الورطة بتلك المعركة الإيهامية كيلا يقع في المحظور.

إيهام! إيهام!
معركة! مولاي، معركة! يريد أن يضيع ويلبس علينا قضية الديكة، فيقول: معركة! سالت الدماء على الأرض...! يريد أن يموّه قضية الديكة فتبقى مجهولة. يختلق حرباً إيهامية، يُقيم قضية "فرعية" إلى جانب القضية "الأصلية"، فتنشغل الأذهان مدة مديدة...! فمعركة الشعر القديم والشعر الحديث، "والعباء والميني جوب"، والخط الفارسي والخط اللاتيني، "والأصالة والمعاصرة"، هذه كلها معارك إيهامية فارغة، كلها معركة الديكة! من أجل أن تبقى قضية الديكة منسية!
في الفترة بين سنوات 1320هـ و1330هـ. اختُلقت ثمانية إلى عشرين معركة في إيران، من أجل ألا تعرض قضية شركة النفط الأفكار والأذهان! وفي القرن التاسع عشر الميلادي، عندما بلغت نشاطات الاستعمار ذروتها، ظهر سبعة عشر "نبياً" في فترة لا تزيد على ثلاث عشرة سنة، من الصين إلى بوشهر في إيران، من أجل إلهاء البلاد الإسلامية وإشغالها عما هو أهم من هذا. وفي تلك الفترة من الزمن، بينما كان أبناء شعبنا وأبناء الأمة الإسلامية يتجرعون الموت من ظلم الاستعمار وضغوطه، قتل آلاف من الفلاحين الإيرانيين في اختلاف عقائدي مداره: هل أن الإمام موجود في عالم المادة أم في عالم الروح؟
والغريب أنه أثناء ذاك الصراع، ظهر مُدَّعٍ ينفي وجود الإمام في الوجهين المذكورين، ويقول إنه موجود في عالم سماوي بين اللاهوت والناسوت، بين العالم العلوي والعالم السفلي! فقُتل آلاف الفلاحين في سبيل هذه العقيدة، وثار آلاف المدنيين البائسين ضد مؤيدي هذه العقيدة، فقُتِلوا!
من هما طرفا القتال في حرب "العالم السماوي" في القرن التاسع عشر؟! طرفا القتال هما القروي والمدني، مؤيدو عقيدة "العالم السماوي" ومخالفوهم! لأجل ماذا؟! لنفي أو إثبات العالم السماوي! ومتى ذلك؟! في زمان كانت أوروبا تشهد حرباً رأسمالية، تشهد حرباً إنتاجية في ذاك الزمان، جاؤوا هنا ليشعلوا نار حرب "العالم السماوي"!
ما هي حرب "العالم السماوي"؟! إنها الاستحمار! كم من حرب باطلة بلا معنى تقع في هذا الزمان، فيتضح عبثها بعد انتصار أحد طرفي النزاع! كل الهتافات والأمنيات والانفعالات التي يتخذها فريق ضد الآخر، يتخذها الأب ضد ابنته، تتخذها البنت ضد أمها، يتخذها الفتى ضد الفتاة، يتخذها الحديث ضد القديم، والمتجدد ضد المتأخر... كلها معارك تمويهية إيهامية، كتلك المعركة التي قامت من أجل الديكة! أي لا ترى شيئاً عند التحقيق والتفتيش، فينتهي الأمر بصالح ذاك الذي أشعل نار الحرب، وبضياع الفرصة، وهلاك جيل ويأسه، وحرمانه من ثمرة جهوده وكفاحه. ثم يأتي جيل آخر فيواجه معركة تمويهية أخرى، ومئات من الحروب الأخرى. هذه كلها حروب تمويهية يستفاد منها دائماً! وهي أكبر أداة للاستحمار!
حينما يقع اصطدام في مجتمع ما، ينبغي أن يُنْظَر إليه، هل يرتبط بـ"الدراية الإنسانية" و"الدراية الاجتماعية" أم بشيء آخر؟! كم من مسائل فكرية فقهية ودينية وغير دينية وفلسفية وعلمية تعرض الآن على الأفكار والأذهان بشكل كاذب ومحرَّف؟! كم من محاورات ونزاعات أُجريت حول بعض الكلمات العربية الدخيلة على اللغة الفارسية! أصروا على حذف الكلمات العربية من جذورها في اللغة الفارسية! حسن، ما سيكون بعد حذفها؟! لا شيء غير النزاع والجدل مدة من الزمن على حذف الكلمات، ثم العجز عن الكلام الصحيح والتصنّع بالبكم والخرس! تحملنا متاعب إلى يومنا هذا حتى بنينا لغة فارسية بليغة، وينبغي الآن أن ننقيها! حسن وبعد ذلك؟! لا شيء! سفه وتفه والقضية شيء آخر! القضية الحقيقية شيء آخر! والحرب الحقيقية حرب أخرى. لكن الصياح وأصوات الاعتراض تنادي دائماً: أيها الناس، إن الفاقة والبؤس هما سبب الجهل، وعلة جهلنا خطنا! حسن، ماذا علينا أن نفعل؟! نبدله إلى الحروف اللاتينية! حسن جداً! غيرت تركيا خطها إلى اللاتينية قبل أربعين عاماً؛ لكن ما زالت متأخرة! بينما تمكنت الصين واليابان في 15 سنة أن تمحوا الأمية من بلديهما، وأن تصبحا في عداد البلدان الراقية، مع أن خطوطهما عديدة وتعد فناً بحد ذاتها، كما أن الذين يحسنون قراءتها وكتابتها يعدون من علماء تلك البلاد. أين أنتم يا بشر؟! أين أنتم جالسون؟! هذه كلها حروب استحمارية، إنها معركة الديكة لتمويه الحقيقة.

التخصُّص!
كل واحد يسير في نهجه وتخصصه على نحو يغفل عن قضية المجتمع ومصيره! كبقرة أفلاطون تماماً حين لمس شخص حافرها ولمس آخر قرنها ولمس الأخير ذيلها، فكانت نتيجة مجموع اللمس عدم الشعور بوجود حيوان. وهكذا فإن التخصص يسبب انغماس الإنسان في إطار محدود وصغير جداً، مجرداً عن كل المجتمع بصورة يصعب لمس المجتمع كجسم واحد شامل. وعلى هذا فإن التخصص يعدم الدراية الاجتماعية، كما يعدم من الفرد إمكانية شعوره بنفسه كإنسان مساهم في شتى أجواء الحياة. ولكن لماذا يفضي إلى ذلك؟ لأن التخصص يعمل على نمو الفرد من جهة واحدة، ويعطله في سائر الجهات. لكن هل التخصص أمر لازم؟! نعم، إنه أمر لازم، ولا ينبغي أن يعدم؛ لكن في حين نتخصص في فروع مختلفة يمكننا أن نحفظ "كليتنا الإنسانية" و"كليتنا الاجتماعية" في عَرَض "الدراية الفردية" و"الدراية الاجتماعية" في العقيدة.

العلم
إن الوقوف على حقائق عالم الطبيعة، والاطلاع على مظاهر الدنيا، الذي هو مهمة العلم، يؤثر فينا على نحو نجد فراغنا، كأفراد وكمجتمع، من المعرفة، يمتلئ كذباً! يظن العالم أنه ذو نباهة بالنسبة إلى نفسه ومجتمعه وزمانه، ولكن هذا وَهْمٌ، لأنه "عالك" لا غير! و"العلم من أجل العلم" أداة انحراف وضلال عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية. وهو الشيء نفسه الذي قاله هايدجر، أكبر فلاسفة عصرنا وأستاذ سارتر: "إنما العلم والحضارة ثمرة ظروف متراكمة عديدة أصبح الإنسان فيها غريباً عن نفسه"! أي أنه راح ضحية للتحقيق والعلم والفن والحضارة.
عندما نكون منشغلين في مطالعة أو اكتشاف أو اختراع، فإننا نكون غريبين عن أنفسنا (أي نُعْدَم النباهة النفسية) فلا نشعر، نقع آلة بيد العمل ومن أجله. وقد حصلت الحضارة والصنعة والعلم من مجموع تلك الحالات، فحصولها كان في حالة ابتعاد الإنسان عن نفسه وعن التأمل في نفسه، واستغراقه في شيء آخر، لأن عمل الإنسان كآلة ينتج عنه شيء آخر؛ إذ ظهرت الحضارة والصنعة في لحظات كهذه. ومن هنا فإن العلم يضرب "النباهة الإنسانية" و"النباهة الاجتماعية"!

القدرة المادية والبدنية
وهذه القدرة أيضاً مصيبة كبرى، بدنية أم فنية أم اقتصادية! فعندما تتجمع لديّ ثروة كبيرة وتتوفر لي إمكانيات كثيرة، قد أتوهم أن الموفر لتلك الإمكانيات هو "أنا"، و"أنا" أمتلكها! وهذا انحراف عن النفس؛ لأني جعلت المادة والثروة مكان "ذاتي" ونفيت شخصيتي الواقعية، أو أني اتخذت المقام والمنصب الذي وفّر لي القدرة، بدلاً من نفسي، وخسرت النباهة الشخصية، أو أن لي قدرة بدنية أحسبها شيئاً من قدرتي الإنسانية، لكن حقيقة الأمر غير هذا! فبعض الناس قد تكون لهم قوة جسدية كقوة الفيل والجمل، أما من الناحية الإنسانية فقد لا تكون حتى كقوة العصفور، ويحتاجون إلى تجديد الوضوء بشزرة واحدة! وهنا أيضاً تضر القدرة الجسدية بالنباهة والوعي! وقد قيل: "العقل السليم في الجسم السليم"! نعم هكذا؛ لكن الجسم البدن غير الجسم "القوي" وغير الجسم اللامتناسب. كان البعض يقول:
كلما بدنت وسمنت فإنك لن تكون أضخم من البقرة ولو فرضنا ذلك، فعندئذ يحلبونك! وكلما ازددت قوة أيضاً فإنك لن تكون أقوى من الحمار ولو فرضنا ذلك، فحينئذ يحمّلونك أسفاراً! وكلما ازددت سرعة في السير والركض فإنك لن تكون أسرع من الفرس ولو فرضنا ذلك، فحينئذ يركبونك!
فالإنسان "الواعي" يمكن أن يكون قوياً إلى حد يسيطر على مصيره. من هو ذاك الإنسان؟ هو ليس نابليون القوي الذي يعبر عن نفسه وسجنه في جزيرة "سانت هيلينا" بالقول: "كأني خشبة صغيرة ضعيفة تلعب بها الأمواج كيفما شاءت".
«إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى- يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ». نعم، إذا غيّر الإنسان ذاته وطبيعته فإنه قادر على تغيير مصيره ومصير تاريخه. وهذا لا يرتبط بالجسم والمال والمقام، والذي يبقى للفرد إنسانيته فقط...