علي نعمان المقطري / لا ميديا -

كانت القوات البريطانية جاهزة لخوض الحرب ضد الثوار والجيوش، فالتوازن المادي كان مختلا لصالح البريطانيين من البداية، فالقيادة البريطانية قد خططت طويلا لهزم وسحق الثوار الحفاة، وكانت تراهن على الطيران الحربي بأنواعه المروحي والحربي القتالي والقاذفات، وعلى المخزون الناري الهائل الذي تملكه قواعدها، وعلى انكشاف القواعد الثورية المحتملة في قرى وبلدات المنطقة أمام الضربات الجوية والمدفعية، وتحديد الهدف ومهاجمته بكل قوة نارية متوفرة ومحاصرته وسحقه.

الدفاع الموقعي والهجوم
كانت بريطانيا كقوة غريبة تحتل أراضي غريبة عليها، وتتموضع في قواعد تخشى مهاجمتها والسيطرة عليها من قبل الثوار، حيث تقع في قلب الضالع وردفان، وحيث معسكراتها ووحداتها المقيمة الثابتة، حيث تحتشد المعدات والأسلحة والدبابات والطائرات والآليات في منطقة ضيقة لا تبعد عن مواقع وقواعد الثوار كثيراً. وقد حدد هذا الواقع مسارات الحرب والمعارك القادمة ونتائجها، ولم يكن في واردها أن تجبر يوماً على التراجع والتقهقر إلى خطوط خلفية جديدة وتتخلى عن الضالع بكليتها بعد أن وصلت ضربات الثور إلى معسكراتها ومواقع قيادتها.
لكن الثورة قد فهمت إشكالية الغازي جيداً، والمتمثلة في انشداده الموقعي القاعدي واعتقاده بأنه سوف يجبر الثوار على التورط في مهاجمته الجبهية المباشرة على الطريقة الكلاسيكية.
ولأنه كمستعمر طال مداه عقودا فقد أقام استراتيجيته القتالية على افتراضه بأنه سيلقى في الميادين محاربين قبليين خفيفي التسليح مكشوفين أمام الطيران والدروع والسلاح الثقيل، وكثافة الجنود البريطانيين وتدريبهم ولياقتهم والعبقرية العسكرية القيادية البريطانية، وكان في ذهنها النموذج العسكري القبلي القديم للانتفاضات القبلية السابقة التي تم التغلب عليها دوما بأقل التكاليف، فلم تدرك بعد ولم تتصور أن تحدث كل تلك التطورات والتقدم في بنية وعقلية قوى الثورة الجديدة، لم تفهم أبدا النفسية الإنسانية لليمني وكرامته وحريته وقيمه الأخلاقية وحضارته وعزته وشرفه.
وكان النموذج الهندي الاجتماعي ما يزال راسخا في العقلية المستعمرة، وأن التمرد القبلي مهما طال سوف ينتهي. كما راهنت بريطانيا على تكتيكات واستراتيجية الرعب والترويع والتغييب للشعب برشوة نخبه المالية الكبيرة وتضخيم مصالحها، وإجباره على التخلي عن الثوار والثورة نتيجة الخوف والرعب؛ ولكن الواقع خيب آمالها ونظرياتها وأوهامها.. جميع محاولات السلاطين والمرتزقة في تجنيد القبائل بعضها ضد البعض انتهت إلى الفشل، وجميع القوات التي شكلتها من المرتزقة المحليين لمساعدتها باءت بالخسران، ونشأت تفاهمات شعبية بين القبائل وبين الأصدقاء والمعاريف والأهالي الموزعين على الجبهتين بالتعاون مع الثورة أو الحياد.
وبدأت الأسلحة والذخائر البريطانية تصل إلى الثوار من مخازن ومعسكرات الإنجليز والسلاطين وتستخدم في هجمات الثوار وإغاراتهم على البريطانيين ومرتزقتهم.
كما راهنت بريطانيا على ضعف العقلية الاستراتيجية القيادية للثوار، ونظرت إليهم دوماً بمنظور السلاطين والمرتزقة والأحزاب العميلة.
وفوجئت بريطانيا بأن جيش الثوار الصغير العدد ينهج خططا معقدة عسكريا ويتحرك وفقا لاستخبارات دقيقة توافيه بكل ما يريد معرفته حول عدوه وما يخططه، وأنه يكبر كل يوم بالمزيد من المتطوعين المتدربين في الجمهورية وتعز ومصر وغيرها، وأنه حصل على تدريبات على أعقد الأسلحة الثقيلة التي يحتاجها في المرحلة ويمتلكها في قواعده ويطورها من خبراته.

المعركة الوطنية والمعادلات الاستراتيجية
انخرطت القوات البريطانية في الضالع في المعركة ضد قوات الجبهة القومية أو ضد جيش التحرير الشعبي الوطني كما اسمه الرسمي، وكان يتكون بداية من 300 رجل في مواجهة قوة بريطانية ميدانية محشودة لا تقل عن عشرة آلاف جندي بريطاني مسنودين بالطائرات والمدافع ومختلف الأسلحة.
بداية كانت القوات البريطانية قد فرضت ميدان المواجهات الأولى حين فاجأت الثوار بالتقدم عليهم بالاستعانة بمرتزقة السلطان وعملاء الإنجليز المحليين، وكان التوقيت غير مناسب، كما أن المكان غير مناسب أيضاً وليس لصالح الثوار، ولذلك تعرض الثوار لبعض الإصابات وأخطرها كانت إصابة الشهيد راجح غالب لبوزة وبعض رفاقه، وكادت الإصابات التي ألمت بقيادة الثورة من الوهلة الأولى أن تكون قاتلة وقد أصابت رأس القوة وقيادتها، ولكن لأن الثورة كانت ناضجة ولها حاضنتها الشعبية، ولها قيادتها السياسية العسكرية الوطنية والقومية والمحلية فسرعان ما بادرت إلى الإمساك بزمام قيادة المعركة العسكرية، وبدأت رسم أساليبها ومخططاتها وتكتيكاتها على ضوء تحليل وافٍ وعميق للمعارك الجارية وظروفها الملموسة على ضوء الجغرافيا والمجتمع والأسلحة العدوانية المستخدمة من قبل العدو البريطاني ونقاط قوته وضعفه.
كانت تكمن نقاط قوة العدو في الطيران والمروحيات والهاونات والمدافع والقوات المتنوعة الكثيرة المدربة والتنظيم العالي التقنيات والمخابرات والمعلومات والتجسس والتناقضات الداخلية والصراعات والثارات بين القبائل واستخدام المرتزقة المحليين.
بينما كانت نقاط ضعف العدو تتمثل في غربته عن البلاد وكراهية الشعب للأجنبي الغازي المحتل، إضافة إلى عجزه عن القتال في الجبال والمرتفعات، ومواجهة الحرب المتحركة للعصابات القتالية الخاطفة وحرب الظلام والأشباح، وطول خطوطه الإمدادية الخارجية ومواقع معسكراته في السهول والمنخفضات والضعف الكبير في معنوياته.
أما نقاط قوة الثوار فكانت واضحة، وهي:
استغلال نقاط ضعف العدو البريطاني المذكورة سابقاً وتعزيز نقاط القوة الثورية. ومن هذا التحليل نشأ وتطور فكر التكتيك العام واستراتيجية الحرب الثورية أو الغوارية الشعبية.
الثائر هو محارب من أجل الحرية الوطنية والشعبية، وقوته هي ارتباطه بالشعب كجزء واعٍ منه منحاز إليه وهو طليعته القتالية وليس بديلا عنه.
الإغارات الخاطفة، والكمائن والمفخخات والقناصة، فقد كانت مفارز الغوار والإغارات والمغاورين هي الشكل الرئيسي لتنظيم المعركة وخوضها ضد العدو البريطاني الأجنبي.

معركة الصدمة الأولى هي الأهم
قامت تكتيكات العدو على البحث وتحديد المواقع الرئيسية لتجمع الجيش الثوري وتدميرها بالضربات الجوية والمدافع والهجمات البرية المشتركة والمروحيات.
بعد الصدمة الأولى كان على الجيش الثوري أن يعيد انتشاره وتنظيمه والخروج من مركزية مطلقة كانت ضرورية في الماضي، أما الآن فيحتاج إلى جانب المركزية الاستراتيجية القيادية، لا مركزية مرنة تكتيكية ميدانية عملياتية وتقسيم قواته إلى مجموعات صغيرة خفيفة الحركة، قادرة على التحرك والتجمع حسب الحاجة وطبيعة الأرض والسكان.

مسارات الحرب في العام الأول من الثورة
كان العدو في العام الأول من الثورة مازال في حالة هجومية ولديه كميات كبيرة من الاحتياطات والمعدات والقوات، ومازال الرأي العام الداخلي والخارجي مغيب الدور والصوت وهو ما زال يراهن على هزائم القوات الجمهورية والعربية في معارك المواجهة مع الرجعية السعودية شمالا.
وخلال هذا العام كان تركيز العدو منصباً على القيام بالهجمات الجوية وحرق الأراضي والقرى والمواقع التي تحتضن الثوار، حيث شن هجومات برية وإنزالية للسيطرة على التلال التي تتحكم بمحاور حركة الثوار في المنطقة والوصول إلى خلفيات قواعدهم وقطعهم عن القواعد ومحاصرتهم في مواقع وتلال معينة.

تجنب حروب المواقع الطويلة الاستنزافية مع العدو
كان هدف العدو هو محاصرة الثوار والقضاء عليهم وهم في مواقعهم الثابتة، وأن يضع نهاية سريعة حاسمة للثورة بخنق الثوار من البداية بالموت والنار والجوع والعزلة والحصار وبالحرب النفسية والتخريب.
كان العدو يريد أن يجر الثوار إلى التمركز والتركز في جبال محددة ومواقع معينة ثابتة، بشكل يمكنه من السيطرة عليها ناريا، لكنه فشل في مناوراته، فقد تميز الثوار بقيادة تكتيكية مقتدرة مجربة مرنة قادرة على توقع تحركات العدو وخطواته التالية والاستعداد المسبق لإحباطها وتحديد مكان وزمن المعركة وأساليبها.

اختراق جبهة العدو الميدانية والإمساك بالمبادرة
كانت جبهة العدو البريطاني قائمة على دعامتين، الأولى هي القوة الإنجليزية، والأخرى كانت قوات المرتزقة المحليين من أتباع السلاطين ومن حكومة الاتحاد العميل من محافظات أخرى، وهي مجموعة من الكتائب الملحقة بالقوات الإنجليزية تعمل كمرشدين ومقدمات ومجنبات لحماية ظهور وأجناب القوات البريطانية.
وفي الميدان كانت قوات المرتزقة المكونة من أبناء القبائل المحلية والعربية والجنوبية تشكل الحلقة الضعيفة في جبهة العدو، وكان لا بد من اختراقها وتجنيد الكثير منها ضد المستعمر وتوظيف خبراتها وقدراتها بعد إعادة تثقيفها بكثافة على أسس جديدة ثورية وقومية ووطنية.
لذلك قام التنظيم الثوري بالكثير من العمل الاستراتيجي، فقد فرز المشاركين في قوات ومعسكرات العدو، وميزهم حسب سلوك كل فرد وموقفه من الثورة ومن الحكم والاستعمار، وبعدها قام التنظيم الثوري بتشكيل خلايا تنظيمية سرية للضباط والجنود الأحرار الموالين للثورة سراً، مستغلين العلاقات الاجتماعية والقبلية والقرابية والروابط الأخوية بين المجندين والقبائل والثوار، وتكونت مع الزمن شبكات كبيرة من الداعمين للثورة معلوماتيا وتسليحا وذخائر ومالا ودعاية وحرباً نفسية، وعبر هذه القناة الاستراتيجية كانت قيادة الثوار تحصل على أهم المعلومات حول نوايا البريطانيين وخططهم وتوجهاتهم أولاً بأول، مما مكن الثوار وقيادتهم من رسم الخطط واستباق العدو في إعداد الكمائن والمفخخات واتجاهات الإغارات الخاطفة على مواقع العدو وتحديد وردع المتعاونين معه ورسم حملات الدعاية والإعلام والحرب النفسية والتخريب على أسس سليمة ومؤثرة. 
كما تستطيع القيادة العليا التخطيط للعمليات التالية والتحضير الجيد لها تدريباً وتقنياً وتسليحاً، بناء على إدراك واضح لميدان الحرب والمعركة، وهكذا أمكن للثوار الإمساك بزمام المبادرة.

توسيع رقعة المواجهة مع البريطانيين
إن فتح جبهات عدن وأبين والساحل والمنطقة الوسطى والشرقية دفع البريطانيين إلى توزيع قواتهم على محاور وجبهات متعددة، مما أضعف تركيزهم القديم على ردفان الضالع، ولم يمر عام 1964 وبداية العام 1965 إلا والثورة المسلحة تتجذر وتتسع رقعاتها وتخرج عن حالة الحصار التي حاولت بريطانيا وعملاؤها عزلها فيها،  فقد امتلكت الثورة متنفسات جديدة وآفاقاً وأعماقاً استراتيجية منحتها القدرة على الامتداد والحركة المناوراتية الواسعة وتعريض العدو لاستنزافات مضاعفة، ضاعفت خسائره في الميادين وانعكست بقوة عبر النتائج السياسية على المركز الامبريالي في لندن، وعلى البرلمان البريطاني والإدارة والصحافة وعلى المعارضة والنقابات والمنظمات الديمقراطية اليسارية والتقدمية المناهضة للحرب العدوانية والضغط على حكومتها من أجل الحوار السياسي ومنح الاستقلال للجنوب المحتل.
ولعبت الصحافة العربية في مصر وبيروت واليمن الجمهوري دورا كبيرا في فضح الاحتلال وإدانة حربه المتوحشة ضد الشعب الطامح لتحقيق حريته واستقلاله الوطني ووحدته. ولعبت الصحافة الوطنية العدنية دورا وطنيا بارزا في تعبئة الشعب وتنويره بحقيقة الاستعمار وما يجري على الأرض.