فؤاد علي عبد العزيز الزريقي
إعداد/ طاهر علوان الزريقي -

لا شك أن الفن كانعكاس لأرقى أشكال الوعي الإنساني، يعبر عن العلاقات الجمالية بين الإنسان والواقع، والفن ليس ترفاً، لكنه كما يقول أرنست فيشر: ضرورة، ووظيفة اجتماعية، تشبع الحاجة الجمالية للإنسان، وتساعده على صياغة الواقع واحتوائه جمالياً.

كما أن هذه النصوص برتابتها وعدم ديناميكية أحداثها وعدم تصاعد خطها الدرامي، تؤدي بلا شك إلى الحد من الطاقة الخلاقة للمخرج، لأن النص الرديء عبء على المخرج، كما تعمل هذه النصوص على جمود وغياب المقتضيات التكنيكية للإخراج كالديكور والإكسسوار والمكياج والمؤثرات الصوتية والضوئية والسلايدات.. الخ.
والحقيقة، إن الاستعانة بالعروض المسرحية القائمة على النصوص العالمية، سوف ترتقي بذوق الجمهور، والوعي المسرحي، إلى الأمام، كما أنها سوف ترفع المستوى الإبداعي للممثلين، بالإضافة إلى تطوير مستوى الإخراج، لأن النص المكتوب للعرض المسرحي لا يشكل عبئاً على المخرج، ولا يستنزف طاقاته في تغطية العيوب الفنية، كما أن العروض المسرحية للنصوص العالمية سوف تلعب دوراً منشطاً لمستلزمات ومقتضيات الإخراج المسرحي من ديكور وإكسسوار ومؤثرات صوتية وضوئية وتصاميم وسلايدات.. الخ.
كما أن تقديم هذه النصوص الجيدة- وهذا هو الأهم – سوف يصقل موهبة المؤلفين المحليين، فإحدى النتائج المؤكدة للنصوص العالمية هي تثقيف وتربية من لديهم استيعاب وقدرات على التأليف المسرحي، لأن النص المسرحي ليس رواية أو قصة تكتب للقراء فقط، ولكنه مشروع أدبي معد أساساً للعرض المسرحي، فالنص المسرحي لا يشترط توفر عناصر فن الأدب فحسب، ولكنه يشترط أيضاً توفر المقومات الفنية والتكتيكية التي تجعله صالحاً للعرض المسرحي، ومن هنا فإن فهم أسرار ودقائق تقنيات العرض المسرحي شرط أساسي لأي نص مسرحي، وهذا هو ما ينقص النصوص المحلية، فمؤلفو النصوص المحلية- ولاسيما الموهوبون منهم، وأخص هنا عبد الكافي محمد سعيد، بدون مبالغة – يتمتعون بالموهبة، ما في ذلك من شك، ولكنهم يفتقرون إلى استيعاب العمل المسرحي، فنصوصهم تظهر موهبتهم أكثر من معرفتهم وخبراتهم، كما أنها تظهر الحس المسرحي لديهم، وليس الوعي المسرحي. وهذه المسافة بين الحس والوعي لا يمكن تجاوزها إلا عبر استفادتهم من العروض المسرحية للنصوص العالمية الجيدة. فالموهبة بالطبع ليست بديلاً عن التأهيل الفني والمعرفة، كما أن المعرفة دون الموهبة لا توجد فناناً، وإنما فقط توجد ناقداً.
من هنا فإن النصوص الأجنبية، في هذه الفترة، سوف تصقل موهبة مؤلفينا المسرحيين. كما ستمهد- عبر تنشيطنا للحركة المسرحية – لوجود مناخ مسرحي يساعد على ظهور مؤلفين مسرحيين مستقبلاً.. فالمؤلف المسرحي، والنصوص المسرحية، لا يوجدان جاهزين في غياب الحركة المسرحية والتقاليد المسرحية، ولا يمكن خلق مؤلف مسرحي جاهز، بقرار أو مجاملة أو لمجرد حب البعض للحضور إعلامياً، ومن هنا يجب على المهتمين بالمسرح في بلادنا أن يعقلنوا عواطفهم، ولا يحاولوا حرق المراحل.
إن دور النصوص العالمية في بداية نشأة الحركة المسرحية في المجتمعات التي لم تتأصل فيها التقاليد المسرحية، تؤكدها الشواهد التاريخية للمسرح في العالم كله.
وسوف أحاول رصد بعض هذه الشواهد لتأكيد الرأي القائل بأن بداية الحركة المسرحية ارتكزت في كثير من المجتمعات على الاستعانة بالنصوص العالمية كمرتكز أساسي ومدخل حقيقي لنهضة الحركة المسرحية، طبعاً مع استثناء اليابان والصين اللتين طورتا مسرحيهما من تراثهما الحضاري، لأن المسرح هناك جزء من الموروث الحضاري والتقاليد الأدبية، كما الشعر في تراثنا العربي والإسلامي.. والحقيقة أن الاستعانة بالتراث المسرحي الإغريقي، ولاسيما تراجيديات سوفوكليس، وأسخيلوس، ويوربيدس، وكوميديات أرسطو في إنجلترا (1489 - 1518) لعبت دوراً في وجود المسرح، ومهدت لظهور المؤلفين الإنجليز في العصر الإليزابيتي، إذ تطورت الكتابة المسرحية في أعمال مسرحيين إنجليز مرموقين مثل كريستوفر مارلو، وتوماس كيد، ومن بعدهما شكسبير العظيم.. وإذا أخذنا المسرح الفرنسي نلاحظ أنه استمد وجوده في البداية من تقاليد المسرح الإيطالي "الكوميديا لارتي". وكانت هذه الاستفادة مقدمة طبيعية لظهور موليير. كما أن الاستعانة بـ"البالار" الإيطالي كانت شرطاً أولياً لتبلور فن الأوبرا في فرنسا.
وفي أمريكا يلاحظ أن الحركة المسرحية اعتمدت في بداية نشأتها على معطيات المسرح الإنجليزي التي نتج عنها ظهور أول مؤلف مسرحي أمريكي، هو وليام دنلوب (1766-1839م).
وفي ألمانيا، جاء جون جوتشيد (1700-1766) وأصلح المسرح الألماني عن طريق نصوص مترجمة ومقتبسة ومؤلمنة من النصوص المسرحية الفرنسية.
وإذا استعرضنا نشأة المسرح في بعض الدول العربية التي سبقتنا في هذا المضمار، ولاسيما الشام ومصر، يتضح لدينا أن الحركة المسرحية بدأت في الشام في النصف الثاني من القرن الـ19 على يد مارون النقاش (1817-1855) الذي قدم أولى مسرحياته "البخيل"، والمسرحية مقتبسة من موليير، مع تبسيطها لتلائم المستوى الثقافي لجمهور ذلك العصر المتأثر بالموروث الذوقي القديم. واستمر في تقديم مسرحيات أخرى كثيرة مقتبسة من نصوص أجنبية، أهمها "السليط الحسود" التي اقتبسها وعربها من مسرحية موليير "الأمير الغيور".
وقد نشأ المسرح المصري في الربع الأخير من القرن الـ19، على يد سليم النقاش وأديب إسحاق ويعقوب صروف الذين قاموا بتمصير مسرحيات كلاسيكية لراسين أندروماك- فيدرا ولكورني هوارس .. الخ. كما لعب نجيب حداد دوراً كبيراً في ترجمة وتمصير كورني، وموجر، ودوماس.. الخ.
وحركة التمصير والاقتباس والترجمة هذه للمسرحيات الفرنسية الكلاسيكية، ثم الرومانسية بعدها، وبصرف النظر عما شابها في العشرينيات من هذا القرن، وشيوع الميلودراما، والفودفيل، والفارس، كانت بحق مقدمة ضرورية لوجود مسرح حقيقي في مصر، إنها كانت القابلة لولادة توفيق الحكيم في الثلاثينيات، ومن بعده ألفريد فرج، يوسف إدريس، ميخائيل رومان، نعمان عاشور.. الخ، وكذلك مهدت لتطور التكنيك الفني للإخراج المسرحي في مصر على يد كرم مطاوع وسعد أردش، وآخرين.
إن الإصرار على إنشاء مسرح يمني، اعتماداً على النصوص المحلية لمؤلفين بعيدين عن فهم أبجديات التأليف المسرحي، ليس إلا من قبيل "وضع العربة أمام الحصان".
ولكن هذا التأكيد على ضرورة الاستعانة بالنصوص العالمية في البداية كمرتكز أساسي لقيام مسرح يمني، لا يعني الاستعانة العشوائية، غير المبرمجة، بل يجب فرز تراث المسرح العالمي برؤية نقدية ومعايير معاصرة لاختيار المسرحيات التي تتلاءم ومتطلبات ظروف نشأة المسرح الوليد في بلادنا، وهذا يعني عدم الاستعانة بالمسرحيات التي تتطلب إمكانيات فنية أكبر من القدرات المتوفرة آنياً، والتي لا تتلاءم كذلك ومستوى الوعي الجمالي وغياب الحس المسرحي لدى الجمهور.
كما يجب التأكيد في البدء على تجاهل المسرحيات التي تحمل أفكاراً تسيء إلى قيم العدالة والأخلاق، وتروج وتبرر قيم مجتمع الاستهلاك في الغرب الصناعي، وتعمل على تغريب الإنسان عن واقعه وتعميق حدة شعوره بالاستلاب. بل يجب، ومنذ البداية، التركيز على المسرحيات الجيدة فنياً، والمتقدمة مضموناً كمسرحيات برخت، براندللو، بومارشيه، تشيكوف، أوكبزي، سينج، أبسن، لوركا، وبعض كوميديات شكسبير، وموليير، وبرنارد شو.
ومن الأفضل، أن "تيمنن" هذه المسرحيات لتتسم بملامح بيئوية محلية، ودلالات مستوحاة من معطيات الواقع، في البداية، دون فقدانها مقوماتها الفنية والفكرية، وذلك تسهيلاً لجذب واستقطاب الجمهور. ونجاح عملية "اليمننة" لمسرحيتي "الجرة"، لبراندلو و"المتقاضون" لراسين، التي قام بها المخرج حسين الأسمر، تظهر بجلاء إمكانية النجاح الفني والجماهيري للمسرحيات العالمية.
وإذا كان رفض "يمننة" النصوص العالمية بدعوى وجود نصوص محلية، يعتبر مزايدة وجهلاً، فإن رفض كل النصوص العالمية – وأكثرها لا يتعارض مع القيم الأخلاقية لشعبنا- تحت ستار أنها مستوردة، يدل على التحجر والتزمت والروح التتارية على الصعيد الثقافي، والحقيقة أن الذين يحاولون استخدام الإرهاب الفكري، والابتزاز الأدبي باستعداء السلطة على الأدباء والفنانين في بلدنا بحجة رفض الأفكار المستوردة، ليسوا إلا مجترين لأفكار قرون وسطية، يريدون إسقاطها على العصر الراهن، عصر انفتاح الشعوب، وتفاعل الثقافة الإنسانية التي تؤدي إلى إخصاب الثقافة الوطنية لكل الشعوب، وأن التفاعل بين الأصالة والمعاصرة وبين التراث والحداثة، والاستعانة بالخبرات العالمية في مجال جماليات وتقنيات الفن والأدب، ليس أسوأ من استيراد معلبات السردين والبيبسي كولا.. الخ.
والخلاصة.. إن الاستعانة بالنصوص العالمية كمدخل لإيجاد حركة مسرحية، رغم أهميته، ليس هو كل شيء.. إذ يجب الاهتمام برفع المستوى المعيشي لأعضاء فرق المسارح، حتى يتمكن أعضاؤها من التفرغ الكلي للمسرح، إذ إن أكثريتهم ليسوا مستقرين، ولا متفرغين للمسرح، كما أن البعض منهم قد ترك المسرح، والبعض سيتركه، لأن الهموم المعيشية تستنزفهم وتشل قدراتهم، كما يجب تطهير الفرق المسرحية من بعض أدعياء الفن والمسرح وفاقدي المواهب، فهؤلاء دمامل، يجب أن تُفقع من جسم المسرح، كما أن الاهتمام بإيفاد البعثات الدراسية للخارج في مجال المسرح وتقنياته، وإقامة معهد للفنون المسرحية مستقبلاً، يعتبر أمراً مهماً لوجود مسرح حقيقي.
إن بناء دور للمسرح في المدن الكبيرة، وعدم اقتصار العروض المسرحية على المناسبات الوطنية، سيكمل المقومات الفعلية لوجود مسرح يمني، وجمهور متفاعل مع فن المسرح.