علي نعمان المقطري / لا ميديا-

 بعد عام من الثورة الشعبية المسلحة في ردفان استطاعت بريطانيا أن تركز كل ثقلها العسكري والسياسي على ردفان وتحصر المعارك في مناطق محدودة قادرة على التحكم بها استناداً إلى سيادتها الجوية والمدفعية، فأصبحت الثورة مهددة ومحاصرة، ولكسر الحصار حولها كان لا بد أن تمتد الثورة وتتسع من الجبل إلى السهل الفسيح، وأن يشارك فيها الشعب بكل فئاته وشرائحه وقبائله، وأن تتنوع بأساليبها الكفاحية من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً، وكان هذا دور التنظيم السياسي الطليعي المتمثل في الجبهة القومية وحركة القوميين العرب التي جندت جميع أنصارها وأعضائها وقياداتها وأصدقائها في اليمن والوطن العربي كله، فالمعركة ضد الإنجليز المحتلين أصبحت معركة قومية عامة شارك فيها العرب الوطنيون بالأساليب الإعلامية والسياسية، وقدموا لنا خبراتهم العسكرية والسياسية والفنية، وفي طليعتهم كان المصريون واللبنانيون والفلسطينيون.
وقدمت إذاعة صوت العرب من القاهرة برنامجاً يومياً تحريضياً ينقل كل الوقائع والعمليات والمعارك الجارية في ردفان وبقية مناطق البلاد، كما خصصت إذاعة الجبهة القومية من تعز برنامجاً يومياً لساعات لنقل العمليات والأخبار والبيانات والتوجيهات العامة للثوار.
ولعبت صحيفة "الحرية" البيروتية لحركة القوميين العرب دوراً مؤثراً استمر طوال سنوات الثورة والاستقلال في الدفاع عن الثورة ونشر أهدافها على أوسع نطاق، وعرت الصلف البريطاني ووحشيته أمام العالم والرأي العام العالمي والإقليمي.
فقد امتدت الثورة المسلحة من الجبل إلى السهل والمدن الرئيسية في مستعمرة (عدن ـ لحج ـ أبين) انطلاقاً من مركزها في قاعدة عدن البريطانية الكبرى حيث تعشش القوات البريطانية منذ قرن ونيف، تدير منها احتلالها ونفوذها السياسي على مستوى الخليج العربي والجزيرة العربية وعُمان والعراق والأردن وفارس في السابق قبل انتقالها إلى النفوذ الأمريكي المباشر، من هنا كانت تدير بريطانيا دعمها للكيان الصهيوني جنوب البحر الأحمر وشماله، كما تدير نفوذها الاستعماري في القرن الأفريقي والصومال، حيث تواجد أكثر من 100 ألف جندي من مختلف التخصصات.
وهي بذلك كانت تحقق سيطرة مطلقة على مساحات واسعة ومناطق مفصلية من الممرات الدولية والجزر المشرفة المتحكمة بالملاحة الدولية وبحار الثروات النفطية والغازية والمعدنية والتحكم بالطريق الرابط بين الهند والصين والشرق والغرب من مواقعها في عدن والسواحل اليمنية الجنوبية المحتلة الطويلة الامتداد لأكثر من 1500 كيلومتر من المندب إلى حدود عُمان.
كما جعل البريطانيون عدن مخزناً عالمياً تجارياً غربياً لإعادة التصدير للبضائع الغربية والبريطانية خصوصاً إلى جميع المناطق المحيطة.
وكما كانت عدن جوهرة التاج في عقد الاحتلال البريطاني في القرن التاسع عشر، فقد ظلت مركزاً استعمارياً متقدماً تضاعفت أهميتها أكثر بعد استقلال الهند والعراق ومصر والسودان، وصارت بريطانيا تشعر بخطورة فقدانها عدن والجنوب، وقد ناورت في الماضي لفصل عدن وإلحاقها بالمستعمرات البريطانية الدائمة، لكن تطورات الثورة اليمنية والمصرية والقومية العربية الناهضة جعلتها تفكر في إعادة دمج عدن في اتحاد لمناطق الجنوب تكون هي واسطة عقدها ومركزها، وتظل تحت إشرافها بطريقة غير مباشرة عبر اتفاقيات المحميات المطبقة على المناطق الريفية المحيطة بعدن.
حتى العام 64م لم تكن الثورة قد فتحت جبهة عسكرية في عدن المركز، فقد ظلت القيادة العامة تراهن على اقتناع الإنجليز بالرحيل نتيجة خسارتهم المعارك في ردفان، ولكن الثورة في ردفان كانت تعاني مصاعب كثيرة جداً بعد أن ضيق الإنجليز الخناق على الثوار واتبعوا سياسة الأرض المحروقة والتدمير للقرى، وكانت القوات الثورية تواجه مصاعب وبحاجة إلى توسيع المواجهة مع الإنجليز في جبهات أخرى ليقل ويضعف تركيزهم العسكري على ردفان، ويساعد ذلك على هزيمتهم، ولذلك أعدت القيادة العامة للجبهة القومية العدة والعتاد والتنظيم والمعنويات والأفراد والرجال المقاتلين ليخوضوا المعركة الحاسمة الكبرى بعد أن استوعبت في تخطيطها المتغيرات والاختلافات الاستراتيجية والتكتيكية لمسرح الحرب الجديد المختلف عن مسرح الحرب في ردفان، وكان ذلك من أسباب تأخير فتح الجبهة الثانية في عدن.

الحرب الوطنية في مؤخرة العدو وفي قلب قواعده
إن الحرب الوطنية على مسرح داخلي خلف العدو وفي مؤخراته كانت حرباً جديدة تتطلب الإعداد الخاص والتدريب والتخطيط الدقيق والخبرة العامة واكتسابها ونقلها إلى رؤوس الأفراد والانضباط الحديدي على أساسها، فهي نوع من الحروب الخاصة كادرها الأساسي هو المقاتل الفدائي الواعي سياسياً والمغاور أو الكوماندوز خفيف التسليح، المناضل السياسي الثوري المرتبط بالشعب أشد الارتباط، والقادر على الذوبان في وسطه والحصول على الحماية والإخفاء والتمويه والمساعدة والمأوى عند الحاجة وخلال المطاردات التي تكون حتمية بعد القيام بعمليات هجومية على العدو وقواعده، والقادر على تجنيد المناضلين الوطنيين ليصبحوا فدائيين، وتأسيس قواعد سرية جديدة تعوض عن التي يتم فقدانها خلال المواجهات.

الحرب الجديدة
كانت الحرب الجديدة لا تقوم على نفس القواعد الحربية للجبال والمناطق الحدودية كما في ريف ردفان والضالع، بل تقوم على قواعد خاصة بها، أهمها قواعد حرب المدن السرية التي تحضر وتخطط وتعد وتنهض من تحت الأرض، أراضي المدن الرئيسية، ومعنى هذا أن القوات المقاتلة تختفي في نفس المدن المحتلة إلى جانب معسكرات الإنجليز وبين الأحياء والمساكن الشعبية في المدينة وضواحيها، وتستخدم نفس الخطوط الاتصالية التي يسيطر عليها العدو المستهدف إثارة الحرب ضده.
إنها تطبق قواعد حرب عصابات المدن المحتلة، ومعنى ذلك أن المقاتلين ينهضون من مناطق في نفس المدينة المحتلة التي يسيطر عليها المستعمر، من قلب المناطق الواقعة تحت سيطرة المحتل وجيوشه وجنوده وعملائه ومخبريه وموظفيه، من الضواحي والأسواق والمرافق والحوانيت والمرافق العمالية والحرفية والمعامل والمصانع والمعسكرات والمؤسسات، حيث ينتشرون بصورة مموهة وسرية يجمعون الأخبار والمعلومات حول تحرك العدو، ويجندون الأنصار، ويتسربون إلى قواعد العدو ويقيمون مخازنهم.

الحرب غير المتكافئة
هي الحرب غير المتكافئة في العديد والتسليح والخبرات، ومع ذلك يواصلون خوضها اعتماداً على إيمانهم بالأحقية والمشروعية، وبحق الشعب والوطن المحتل في الحرية والاستقلال والوحدة والتقدم، هذا الإيمان وحده هو القوة الرئيسية في تلك الحرب، هو المنطلق الأساسي لقوة المقاتلين في ظروف شاقة، تبدو الانتصارات بنسبة ضئيلة جداً في البداية، ولذلك تتطلب مقاتلين من نوعية خاصة جداً، أهم مميزاتهم هي العقيدة القتالية العالية والوعي والتدريب العالي المستوى والنوعية والتنظيم الدقيق والانضباط الدائم طوال الوقت، والصبر الاستراتيجي والتكتيكي، والقدرة على التخفي عن الأنظار وعيون وجواسيس العدو في الوقت الضروري، والظهور في الوقت الضروري للإغارة على العدو وقتل جنوده وعملائه وتخريب منشآته، وحماية التتنظيمات السرية للقتال التي لا بد أن تتسع باستمرار مع الوقت حتى تصل إلى مستويات كبيرة وترتقي وحداتها القتالية من المجموعات الصغيرة جداً إلى وحدات أكبر وأثقل وأكثر تسليحاً وتعقيداً.

قوات متحركة سرية تكبر كل يوم
تبدأ قوى الثورة بإنشاء فصائل شعبية للحماية الذاتية في المناطق والأحياء، ويحصل الجميع على التدريب الشاق على مختلف الأسلحة والمفرقعات وجمع المعلومات والتموية واتباع قواعد التحرك والعمليات السرية كأعضاء في جيش التحرير الوطني الشعبي، إلَّا أن فرق الكوماندوز تختص وينتخب فيها المتطوعون الأكثر إقداماً من نخب المقاتلين السابقين.
 
المركزية الصارمة في القيادة والتأهيل والأداء
هذا النوع من الحروب لا يمكن قيادته بنجاح إلا إذا اتبعت في قيادته أشد درجات الصرامة والحزم والتنظيم والمركزية والسرية والتكتم، ولذلك يتم اختيار الأفراد المتطوعين للحرب الخاصة الوطنية من نوعيات خاصة لها مهارات وسمات وقدرات ليست في متناول الجنود والمقاتلين الآخرين، ومنها أن يكون الفرد من ذوي البنية الجسدية السليمة القادرة على تحمل المشاق والجوع والعطش لفترات طويلة، والتكيف مع البيئة المحيطة به، والاعتياد على تناول الأطعمة الغريبة التي تتوفر أمامه ولا يجد غيرها، مثلاً لحم الكلاب والأرانب البرية والثعابين، وشرب دماء الحيوانات عند الضرورة والحصار، ومعرفة أساليب الصيد البحري والبري، والحركة عبر المجاري والسباحة والغطس والقفز والنزول عبر الحبال وتسلق المرتفعات والقفز بالمظلات والبقاء في حفر عميقة تحت الأرض ولأوقات طويلة، واستخدام أجهزة الاتصالات والشفرات والحبر السري للكتابة الخاصة والتمثيل وتبديل الوجوه وتحمل التعذيب وإجادة أساليب الدفاع عن النفس واستخدام الأسلحة البيضاء، وصناعة السلاح عند الضرورة من وسائل بدائية وبسيطة، والتدرب على السير الطويل في الغابات والجبال والصحارى.