محمود رشيد  - كاتب يساري أردني -

في كثير من الأحيان يثار التساؤل حول العلاقة الجدلية بين الاستعمار والتخلف، وما إذا كنا متخلفين بسبب وقوع مجتمعاتنا تحت السيطرة الاستعمارية أم أن المجتمعات العربية متخلفة بصورة لا علاقة لها بالتأثير الاستعماري؟
في البداية يمكننا الرجوع إلى بدايات عصر التنوير الفرنسي وبدايات صياغة مصطلح الحضارة civilization المرتبط بمفهوم المواطنة، وما يرتبط بهما من قدرة البنية الاجتماعية على إدماج الأفراد عبر القوانين والأخلاق من حيث كونهما منطق العلاقات الاجتماعية. ومن الناحية المقابلة اعتبرت البربرية هي غياب أو ضعف قدرة البنية الاجتماعية على القيام بهذا الدور.
تأثر الفيلسوف الألماني جورج هيجل إلى حد كبير بمبادئ الثورة الفرنسية بصورة تفوق كل معاصريه من المثقفين الألمان. وانطلاقاً من تأثره بالمفهوم الفرنسي/ الأوروبي للحضارة والبربرية، فقد ذهب هيجل إلى أن أفريقيا ليس لها إسهام تاريخي في هذا العالم. وبالعودة لمقتطفات من "فلسفة التاريخ" سنجد تأثره الواضح بهذه المعايير، وكذلك البدايات غير الدقيقة وغير الموضوعية المعتمدة على الإثنوغرافيا الوصفية التي ستشكل فيما بعد علم الإنثروبولوجيا، حيث نجده يستفيض في وصف مجتمعات آكلي لحوم البشر الزنوج، فالزنجي عند هيجل بحكم كونه لم يدرك ذاته بعد إزاء الموضوع/ الطبيعة، نجده عاجزاً إزاء القوى الطبيعية وعاجزاً عن أن يعقل مقولات موضوعية كـ"الله" و"القانون"... والتي من خلالها يدرك الإنسان وجوده كنوع لا كفرد فقط.
ثم يبني هيجل بعد ذلك على هذا المبدأ المعياري لتعريف الحضارة تفسيره لانطباعات خاطئة ومغلوطة عن المجتمعات الأفريقية، فإن كان الزنجي لا يدرك ذاته كنوع إنساني إزاء قوى الطبيعة ولم ينفصل عنها بعد ولم يدرك كنهها، فإنه من البديهي من وجهة نظر هيجل ومن غير المستغرب أن تكون ممارسة آكل لحوم البشر أمراً شائعاً وغير مستغرب، وكذلك الطغيان المرتكز إلى القوة (بينت الأبحاث اللاحقة أن آكل لحوم البشر كان منحصراً في بعض مناطق وسط أفريقيا ومقتصراً على الشعائر المحدودة جداً).
من الجهة الأخرى، سنجد أحد أهم الوجوه المرتبطة بتحليل مقولة "التخلف" وعلاقة التخلف بالوجود الاستعماري في المستعمرات السابقة هو والتر رودني الذي اجتهد في كتابه How Europe underdeveloped Africa (كيف عمدت أوروبا لتأخير أفريقيا) لدفع تهمة التخلف عن المجتمعات الأفريقية، وذلك بعرض تاريخ المجتمعات الأفريقية ما قبل الكولونيالية، فذهب إلى نقد المفهوم الأوروبي لمعايير الحضارة والتخلف بحكم كونهما مفاهيم إستعمارية. لكن القارئ لكتابه يمكنه أن يأخذ عليه تجاهله لحقيقة أن أي مقارنة بين مجتمعين، أيا كانا من حيث علاقة هذه الجماعات البشرية بالطبيعة وقدرة هذه الجماعات على إعادة إنتاج أنماط معيشتها وتطوير أنماط جديدة (وهو ما قام به والتر رودني نفسه)، ستقودنا لتفضيل أحد المجتمعين على الآخر، مما يعني أن ما رفضه والتر رودني من النظرة الأورومركزية للتاريخ الإنساني لا ينفي إمكانية وجود معيار واحد للتقييم والحكم، وعلى ذلك يجب الانتباه بأن القول بعدم وجود معيار شامل لتقييم تقدم أو تأخر مجتمع ما سيعود بنا للنظرة الاستعمارية نفسها لتفسير التفاوت بأن "للشرق قلب وللغرب عقل" أو "بينما أن العلم الحديث هو البنية الثقافية للمجتمعات الغربية التي ينتج الإنسان الأوروبي وجوده من خلالها، فإن الغيبيات أو السحر أو الخرافة هي البنى الثقافية لإعادة إنتاج ما سواها من المجتمعات"، وهو من ناحية يخالف مبدأ شمولية العلم، ومن ناحية أخرى يحكم بثبات مجتمع وديناميكية مجتمع آخر بشكل أبدي، وهو ما اعتمده الغرب في الدراسة الإنثروبولوجية للمجتمعات "البدائية"، بل وعلى صعيد السياسة الاستعمارية، فقد أنتجت هذه الرؤية حقيقة أن الحكم الاستعماري لم يهتم بنشر التعليم الأوروبي، كما يظن البعض، حتى في حالة الاستعمار الفرنسي نفسه، إذ لا خلاف أنه في كل دول العالم الثالث لم تحدث نهضة ملموسة في مجال التعليم إلا بعد الاستقلال.
وعلى ذلك فإن تخلف مجتمعاتنا العربية، أو لنقل ضعف قدرتها على استيعاب واقعها المادي بالمقارنة بالمجتمعات الأوروبية، وكذلك ضعف القدرة على إنتاج أنماط معيشية جديدة، هو ما أدى لتمكين الاستعمار من مجتمعاتنا. فنجد في أفريقيا أن وجود علاقات اجتماعية تسمح وتعتمد على الرق هو ما سمح للبرجوازية الأوروبية بإجراء عملية رسملة لتجارة العبيد في أفريقيا، حيث أدمج الرق في احتياجات السوق العالمية في أوروبا والعالم الجديد، فأصبح تداول السلع البشرية على نطاق واسع Large Scale سمة المجتمعات المتخلفة، لأنها تنظر إلى أي ظاهرة تجد نفسها إزاءها -سواء كانت هذه الظاهرة عاصفة رعدية أو بركاناً أو مرضاً أو سلطة اجتماعية أو الأسطول البرتغالي- كقوى لا يمكن تفسيرها، وبالتالي لا يمكن تخطيها أو التغلب عليها. وما قرأناه عن اجتياح مملكة الإنكا والأزتيك في المكسيك وبيرو يعطينا مثالاً واضحاً لهذه الذهنية، وليست هذه الحالات فقط، فعند الليبراليين العرب مثلاً، وأولهم رفاعة الطهطاوي الذي انتقل من التعليم الديني الغيبي رأساً إلى فرنسا ليتأثر بالتفوق الفرنسي كقوة متفوقة لا يمكن سوى محاكاتها وبأفضل الأحوال سيتم تشبيه تفوقها هذا بالصورة المثالية لتفوق المسلمين الأوائل حضارياً وأخلاقياً؛ إما صورة يوتوبية للماضي وإما صورة يوتوبية للآخر في ذهن الشيخ، "بالتالي لم يمنع انبهار الشيخ بفرنسا من أن يشتري جاريتين شركسيتين بعد عودته من فرنسا".
أيضا، سنجد من تبعه من الليبراليين العرب على هذا المنوال ينظرون للمركز في الشمال كما ينظر البدائي للعاصفة الرعدية والبركان والإله العائد في صورة رجل أبيض، حيث لا يمكن سوى الإعجاب Admiration والشعور بالرهبة Awe وتقديس كل مظاهر التفوق الأوروبي بما يشبه الفيتشية Fetishism، فسيادة المخيلة العاجزة عن استيعاب أي ظاهرة تقف إزاءها هي سمة البدائية، وهي عاجزة عن دراسة تاريخ هذه الظاهرة، مما ساهم في تمكين الاستعمار بالأساس، حيث وجد "السيد" الأوروبي نفسه إزاء "خادم" لا يملك وعياً بذاته، بل وعياً مشروطاً يربط بقاءه ومصلحته بخدمة "السيد".
من أقرب الأمثلة على غياب العقلية النقدية المرتبطة أساساً بإدراك الذات والقادرة على استيعاب أي ظاهرة إزاءها، سواء كانت واقعاً اجتماعياً محلياً أم تقسيم عمل دولي، هي عقلية الليبرالي العربي العاجز عن إنتاج مقولاته الخاصة، بل يقتات على التفسيرات الثقافوية الأوروبية التي ذكرناها سابقاً بأن المجتمعات العربية مجتمعات غيبية تؤمن بالخرافة بشكل يستعصي على التجاوز.
منذ مدة ليست بالبعيدة أطل علينا يوسف زيدان مثلاً برؤية هي ليست رؤيته في الواقع، بل كانت رؤية الرجعية المصرية (بُعيد جلبها للغزو البريطاني) للثورة العرابية. وانطلق جمهور زيدان من أطفال الليبراليين الجدد لترديد ما أتى به دون الرجوع لصفحة واحدة مما كُتب عن الثورة العرابية، سواء لمؤلفين مصريين أو حتى غير مصريين. فالسؤال هنا: هل من الممكن أن ينجح الاستعمار في استنعاج هذه الجموع إلا لفقدانها عقلية نقدية منطلقة من إدراك الذات؟ هل من الممكن نشر هكذا دعاية وإلحاق هكذا هزيمة نفسية إلا بحضور ثقافة الاقتباس والاقتيات على أفكار سطحية؟ الإجابة واضحة.
وأحدث الوقائع المثيرة للضحك أن تجد من يسخر من إيمان مجتمعه بالغيبيات وهيمنة التدين، ويدعي إيمانه بالـ"عقل"، ولكنه يردد الرؤية التوراتية للتاريخ لتأكيد عبرانية القدس، وأن اليهود الحاليين هم أحفاد العبرانيين، وما يحدث حالياً ليس سوى عودتهم من المنفى، في حين أن الفروع العلمية المعنية تجاوزت ذلك وعلى يد إنثروبولوجيين ومؤرخين ذوي منشأ يهودي، كرفاييل باتاي وشلومو صاند، حيث قُتلت هذه المسألة بحثاً ونفياً ودحضاً.
فمن غير الممكن ترسيخ السيطرة الاستعمارية ونجاحها في استنعاج الوعي الجمعي بهذا الشكل إلا بوجود أزمة في قدرة الوعي الجمعي على إدراك هويته بإزاء الواقع الموضوعي عوضاً عن الانبهار بمجتمعات أخرى، وفي هذا السياق "ليس غريباً هذا الانبهار الذي قد يكون مبالغاً فيه بصور يوتوبية عن الدول الاسكندنافية وحتى إسرائيل". 
ما نحاول إثباته هنا هو جدلية العلاقة بين التخلف والاستعمار من ناحية، ففي حين سيمكن التخلف من السيطرة الاستعمارية في البداية، فإن الاستعمار والتخلف سيعيد كلٌّ منهما إنتاج الآخر بصورة جدلية، ذلك لأن العلاقة بينهما انتقلت من السببية البسيطة للارتباط العضوي، لذلك قد نختلف مع الخطاب الدفاعي الذي يحاول في سياق نقده للنظرة الأورومركزية للتاريخ أن ينفي وجود هذا الرابط العضوي بين التخلف والاستعمار، ويقول إنه بمجرد خروج القواعد أو السفارات من بلادنا فإن كل أزمات الوعي الجمعي ستنحل من تلقاء ذاتها، وهذا ما لم يحدث ببساطة في فترة التحرر الوطني، ففي حين قطعت مجتمعاتنا شوطاً على صعيد التطور فإن عوامل النكوص الفكري قفزت للواجهة بسرعة مع أول تعثر للتحرر الوطني.
ليست ترفاً فكرياً إذن محاولة تشخيص الأزمات التي يعاني منها الوعي العربي من سيادة الوعي الاقتياتي الذاتي المغرق في الغيبية، والعاجز عن إدراك هويته على الصعيد الجمعي كعضو في جماعة وطنية، وربما على الصعيد الفردي كعضو في النوع الإنساني عليه الالتزام بالمنطق الاجتماعي (الأخلاق/ القانون)، وهذا ما حاولنا إثباته، كما حاولنا إثبات أنه يمكن الرجوع لمعايير شاملة لقياس تقدم وتطور مجتمع من المجتمعات.