علي نعمان المقطري / لا ميديا -

لم تكن خدع الربيع العربي ظاهرة جديدة أو لعبة تفتقت عنها عبقرية الغرب الاستعماري، بل هي تكرار لما أسس عليه في بلادنا العربية منذ قرون من الاحتلال والهيمنة؛ فتارة يأتي الاستعمار بوجوهه الكالحة وقد ألبسها أثواب الدعاة القديسين الأتقياء الأنقياء المتعبدين، محاكاة للعرب المسلمين ولأوهامهم ونواياهم الساذجة المبهمة، وإذا بعملائه ووكلائه قد أصبحوا في صورة الرهبان المتهجدين الواعظين يوزعون الخيرات يسارا ويمينا للناس الفقراء والمساكين ويكسبون عواطفهم ومشاعرهم وحبهم.

وتارة يأتي بهم وقد ألبسهم أثواب السياسيين الأحرار والدعاة المصلحين وأصحاب دعاوى العدالة والتقدم والزهد والإخاء والمساواة، فإذا بهم خطباء مصلحون ينتقدون الأوضاع القائمة ويطالبون بالتغيير والاصلاح من أقرب طريق وينددون بالفساد والاختلال والتأخر عن الرقي العام، يخطبون في المنابر ويكتبون في الصحف والمراكز البحثية وينشرون الأفكار التقدمية ويدعون إلى تحرير العقل من الخرافات والأوهام والأفكار المتعصبة بين بني البشر، وارتياد ذرى التطور بين الأمم ونبذ التطرف والشطط والانفعال في رؤية الأحداث والتطورات وتقييمها تقييما معتدلا ومخاطبة العقل الأوربي المتحضر الإنساني النزعة.
وتارة أخرى يأتي بوكلائه ورجاله بصورة الثوار المتحمسين الأحرار المتشددين والمناضلين المتطرفين... وقد شهدنا في تاريخنا العربي الحديث أبلغ عمليات الاختراق للعقل والوعي وللسياسات والحركات الوطنية والمعارضة.
لقد كان المستعمر قادرا على الخداع دوما، لأنه يسيطر على البلاد وعلى العباد والرجال والزعماء والقادة ورجال التوجيه والإرشاد وذوي القدرات. فقد وجد فيها من يساعده علينا مقابل الأموال والجوائز والجاه والسلطان من أهل المطامع والطغيان والفساد ومن بقايا الأغراب ممن لا يؤمنون بدين أو ملة، يؤمنون فقط بفكرة (الأرباح والمبيعات والأملاك وحجم العطايا والهبات).
فما بالكم وهو الاستعمار الذي يوحي اسمه بالعمارة والإصلاح للأرض ونشر الحضارة بين الهمج والرعاع والمتأخرين من الأمم الآسيوية والأفريقية واللاتينية "المتخلفين"، كما يردد أتباعه ودعاته؟!

إعادة تشكيل الانسان المُستعمَر وتزييف وعيه
على مدى قرون متواصلة، أنشأ المستعمر طبقة وكيلة له ضمن مخطط طويل المدى للسيطرة على العقول والقلوب والنفوس والأفكار والقيم، لدرجة أنه حول قسماً كبيراً من الناس إلى خدم مطيعين له ولأفكاره ولمشروعاته وأهدافه الاستعمارية التوسعية، ومنحهم الوظائف والمواقع الإدارية والمالية، وزودهم بما يجعلهم تجارا وأثرياء يسيطرون على مفاتح الاقتصاد الداخلي لبلادهم ويتشاركون معه في أرباح التجارة المشتركة بين البلاد المستعمرة وشبه المستعمرة والمركز الاستعماري، ومنحهم القروض والسلف والهبات والهدايا والمكرمات المالية الضخمة، وسهل لهم السبل لإقامة العقارات والقصور والشركات التجارية، وعلمهم فنون جمع الأموال بكل الطرق (التحايل والخداع والغش والتدليس والتزوير والتملك بالقوة والاختلاس والسرقة والاستيلاء والنهب).
تم إنشاء شريحة طبقية من هؤلاء الناس المطابقين لمطالب المستعمر ومشروعاته، وشركائه في المصالح والأهداف. هو يستعمر من الخارج، وهم يستعمرون من الداخل نيابة عنه. هم يمسكون له بقرون البقرة، وهو يحلبها بأمان. هو ينجز لهم ما لا يستطيعون إنجازه بقواهم الخاصة والجماعية، وهم يؤدون له الخدمات التي لا يستطيع مباشرة القيام بها بقواته وأشخاصه. وبذلك تتطابق المصالح والأهداف والوجود بين الجانبين.

صناعة الصنائع
ثم من هؤلاء يستخلص أذكاهم وأقدرهم على الفهم والتطور السريع والتعلم والتدرب واكتساب الخبرات والقدرات، ويبعث بهم إلى أفضل الجامعات التابعة له المعدة لغرض إنتاج العبيد، ويفشي بينهم الأخلاق الدنيئة المنحلة والسلوكيات الهابطة والعادات البوهيمية؛ فإذا بهم لا يحلون حلالا ولا يحرمون حراما ويتعلمون ممارسة جميع الفواحش والمحرمات... ليعودوا بعدها لنشر ما تعلموه بطرق عدة ويفتتحون المشاريع والمراكز المختلفة لذلك، ويشجعون عليها الشباب الغاوي، المحروم من العقائد الصحيحة، المشبع بأفكار وغرائز الاستهلاك والحرمان والكبت المتوهم والترف والمجون، فيصير خير عون للاستعمار و"الاستحمار"، وهؤلاء من يصيرون الولاة على الناس في المستقبل.

سياسة المستعمر
من هؤلاء يصنع أحزابا للمعارضة من كل نوع وشكل وطراز ترضي جميع الأذواق: معارضة ليبرالية حرة، ومعارضة دينية معتدلة، ومعارضة عقيدية متطرفة، ومعارضة وطنية معتدلة، ومعارضة وطنية متطرفة، ومعارضة يسارية معتدلة ويمينية معتدلة... 
ينشئ لكل معارضة حزبها ومنظماتها وجمعياتها وخزينتها ومصادرها المالية ومكاتبها ومعاهدها ومعلميها، ويضع على رأس كل هيئة جاسوسا محنكا ومدربا ذكيا قادرا على المزايدة والتلبيس والتدليس والخداع والتضليل والإقناع، فإذا سمعته خلته ملاكا من السماء أو نبيا يمشي على الأرض، وقد يسكرك خطابه ويبكيك عتابه وهو ينفعل كأنه قشة عبثت بها الأنواء أو ريشة في مهب الريح أو حمامة بريئة ذبحت بغير رحمة ولا ذنب.
كما يسيطر المستعمر على التعليم والتوجيه والمساجد والعبادات والتأهيل والقضاء والتشريع، فيضع من هؤلاء الذين صنعهم على رأسها، لينسحب هو بدوره من الواجهة ويدع المشهد لهم يديرونه بالإنابة عنه، بينما يصير هو في موقع الحكم بين القوى والجهات المختلفة، تماماً كما حدث في "المبادرة الخليجية".

حرب الجميع ضد الجميع
يعمد المستعمر لصناعة عدو لكل جماعة من جنسها وأهلها، ويسلط الجميع على الجميع، فينهك الجميع بالجميع، ويصير هو حاجة ضرورية للجميع لا غنى عنه، فيسبح الجميع بحمده وحكمته وصنيعه، ومع الزمن ينسى الكثير من الناس المشغولين بأنفسهم مشكلته، فلا يذكرون إلا مشاكلهم وصراعاتهم القبلية والسياسية والمناطقية والشطرية التي خلقها لهم.
وفي بلاد عظيمة التاريخ كمصر العربية، رأينا كيف استطاع المستعمر أن يسيطر على القيادة الاجتماعية الدينية والفكرية وحوَّل رجال الدين إلى تجار يشاركون في أرباح استيراد السلع الأوروبية والفرنسية، بينما الذين أبوا عفة وتأففا من خدمة الأجنبي دحرهم وطاردهم بعيداً عن مجتمعاتهم وأوطانهم وأفقرهم، وجعلهم غارقين في مطاردة رواتبهم وضرورات معيشتهم فلا يجدونها.
وفي النهاية رأينا كيف أصبح الغازي–الحاج بونابرت– مرحباً به، يمنحه "الأزهر الشريف" شهادة على الإيمان ويشهد له بالإسلام والتصوف والصلاح والعدالة وحسن الخلق والسلوك. وقد حدث هذا في جميع البلاد المستعمرة. راجعوا تاريخ الجبرتي وما كتبه ورصده من وقائع حول المستعمر الفرنسي.
وفي الجنوب اليمني المحتل، واصل المستعمر السيطرة على المساجد ووسائل التوجيه والتربية وهو يقتلع أئمة المساجد السابقين ويستبدلهم بآخرين جدد تم تهيئتهم على يديه وأيدي عملائه المقربين مثل بن بريك –المتهم اليوم باغتيال أكثر من مائتي إمام جامع في مدينة عدن وحدها– والعديد منهم تم اغتياله وتصويره خلال إتمام العملية الإجرامية لتزداد مكانته لدى اسياده ومشغليه.
الحال ذاته في عهد الاستعمار البريطاني القديم، إذ كان رجل الدين السيد الصوفي العيدروس هو الذي قاد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال البريطاني وقاتل على رأس المجاهدين اليمنيين دفاعا عن عدن، في وقت كان فيه السلطان العبدلي اليافعي العميل، سلطان لحج التي تتبعها عدن، قد تسلم قيمة المدينة من "الكابتن هنس” مبلغ ثلاثة آلاف فرنك فرانسي، فخان المقاومة الوطنية وشارك في هزيمتها، كما سيفعل أبناؤه وأحفاده، ثم باع مجددا مناطق الشيخ عثمان والبريقة ودار سعد للاستعمار البريطاني ليتوسع المستعمر ويصبح مالكا شرعيا لمناطق عدن الكبرى بموجب عقد البيع والشراء بينه وبين السلطان اللحجي الذي قاد أسلافه حملات الانفصال عن سيطرة الإمام الزيدي في صنعاء واليمن، ولم تكن اليمن قد عرفت من قبل في تاريخها من باع الأرض رسميا للأجنبي.
لقد كانت المبادئ الأخلاقية والدينية والوطنية تمنعه، ومع ذلك وجد من يبرر له ما فعله ويفعله، والغريب أن من أهم مبرراته هو أنه تحالف مع الانجليز لدعمه ضد ما اعتبرها (أطماع الزيود اليمنيين) الذي يحاولون ضم سلطنته كما كانت سابقا إلى اليمن، ومن أجل إبقاء سلطنته الخاصة مستقلة فلا بد أن يبيع منها قسما للاستعمار...