فؤاد علي عبدالعزيز الزريقي
إعداد/ طاهر علوان الزريقي/ لا ميديا-

الفن، كأرقى شكل من أشكال الوعي الإنساني، ليس سجلاً وثائقياً للحوادث ووقائع الحياة، ولكنه إلى حد ما سجل جمالي للأحداث، إذا ما ارتقى من خلال عملية الخلق الإبداعي إلى مستوى الحدث فنياً، وعبر عنه جمالياً، بالاستناد إلى استيعاب الفنان وتمثله للقوانين والشروط المادية للأحداث التاريخية. فالاستجابة التلقائية المرتكزة على مجرد ردود فعل الانفعالية نحو الأحداث التاريخية لا تكفي للتعبير الجمالي والفني بمقدرة إبداعية عن هذه الأحداث.
وإذا استرجعنا ذهنياً القصائد التي عبرت عن الفرحة الفورية لشعرائنا عند قيام ثورة 26 سبتمبر، لظهر لنا بوضوح ضعفها الفني شكلاً ومضموناً، فهذه القصائد التي نظمها شعراء كبار، مثل: المقالح والبردوني، لا ترقى إلى مستوى الحدث السبتمبري الجليل، فتاريخية العمل الفني ليست معياراً -على أي حال- للتقييم النقدي.
والحقيقة أن هذه القصائد تتصف بالنبرة الخطابية والمباشرة والتقريرية، والمنحى الإنشائي المرتكز على معالم زخرفية باهتة مؤطرة بمستلزمات الموروث الذوقي القديم. كما أنها تتسم باجترارها العقيم لتقاليد الشعر العربي في الاحتفاء الاحتفالي بالمناسبات، في حدود الوصف الظاهري للمناسبة أو الحدث، كما يظهر من النفس الحماسي الأجوف لهذه القصائد.
كما نلاحظ في هذه القصائد العاطفة الساذجة الخالية من حضور عنصر الوعي. والحقيقة أن أصالة الفن ليست تجسيداً حيا للعواطف، ولكنها تنبع من التفاعل التشابكي والجدلي بين المعطى الحسي والذهني، بين العقل والشعور، بين الخاص والعام.
فالفن هو الصياغة الجمالية المعقلنة للعواطف، وليس مجرد إسقاط حماسي للاحتفاء المناسباتي الجياش والمتقد بالأحداث التاريخية. وهذا الضعف الفني لهذه القصائد يرجع إلى عدم تمكن هؤلاء الشعراء آنذاك -لفرحتهم وذهولهم- من الامتلاك الجمالي للحدث السبتمبري العظيم، هذا الامتلاك الذي يعكس تموضع الذات عبر الاستيعاب التمثيلي للذات -للموضوع- المدرك.
لقد استحوذ الحدث السبتمبري العظيم على مشاعر الشعراء بهيمنة قاهرة، بدلاً من استيعابهم الواعي للحدث. ومن ثمة، كانت قصائدهم تعبيراً فورياً مسطحاً، ووصفاً باهتاً لامتلائهم الآني بالحدث، لأنهم عبروا بسرعة انفعالية عن ثورة سبتمبر قبل استيعابهم لدلالتها وعمقها وآفاقها، وقبل امتصاصهم للتجربة، والمعايشة الداخلية معها وانضاجها عبر التفاعل العميق معها.
ومن هنا، كانت صياغتهم الجمالية للحدث خالية من المعادل الموضوعي، ولا ترقى فنيا إلى الحدث..
والحقيقة، إذا لم تشكل محاكاة الحدث المعاش -كما يقول هارولد بنتر- ضرورة أساسية للتفوق الجمالي والفني فإنها تستلب وتسطح الحدث.
كما يلاحظ أن هذه القصائد لم توفق في تعميق دلالة سبتمبر بشموليته وأبعاده، ونقلها بوسائطها الجمالية إلى الجماهير، لأن هذه القصائد، بنفَسها الهتافي، كانت تستهدف مجرد الإشارة الحماسية للانفعال المختزن في الضمير الجمعي للمواطن، وبالتالي فإن مهامها لا تتعدى إفراغ الشحنة الانفعالية. 
والحقيقة، أن الشاعر الذي يكتفي بوصف عظمة الحدث وصفاً إنشائياً حماسياً لجماهير متحمسة مسبقاً للحدث، لا يضيف شيئاً إلى وعيها ووجدانها الجمالي، بل هو هنا، يعبر فقط عن انفعاله غير الواعي بالحدث.
فمهمة الفن لا تقتصر على الصياغة الجمالية للوجدان الجماعي واستثارة مشاعر المتلقي، بل إن المهام الأدائية للفن -وأخص وظائفه الاجتماعية التي تبرز مشروعية وضرورة الفن- تتلخص في إيصال التجربة الإنسانية من خلال أدوات التشكيل الجمالي للمتلقي، والدفع بوعي الناس إلى الأمام.
والخلاصة، أن هذه القصائد لتعبيرها الفوري عن فرحة الشعراء بقيام سبتمبر لحظة ولادته، قبل الالتقاط الواعي للحدث والتعايش معه، واستبطان أعماقه، واستقراء أبعاده، كانت بالضرورة عاجزة عن التعمق الجمالي المبدع للحدث.
فالإنسان الشاعر لن يعبر جمالياً بتفوق عن موضوع لم يستوعبه بعد. وإليك قارئي العزيز نماذج من هذه القصائد التي نظمت فور قيام سبتمبر.
من قصيدة (عاش الشعب)، لعبدالعزيز المقالح:
سلمت أياديهم بناة الفجر 
عشاق الكرامة 
الباذلين نفوسهم لله
في ليل القيامة 
وضعوا الرؤوس على الأكف 
ومزقوا وجه الإمامة
صنعوا ضحى سبتمبر
الغالي لنهضتنا علامة
خرجوا فلم تيبس على 
أفواههم شمس ابتسامة
يتمردون على الظلام 
ويبصقون هنا نظامه
ومن قصيدة (الحكم للشعب)، لعبدالله البردوني:
يا صرعة الظلم شق الشعب مرقده
وأشعلت دمه الثارات والضغن
ها نحن ثرنا على إذعاننا وعلى
 نفوسنا واستثارت أمننا اليمن 
لا البدر لا الحسن السجان يحكمنا 
الحكم للشعب لا بدر ولا حسن
نحن البلاد وسكان البلاد وما فيها 
لنا إننا السكان والسكن
اليوم للشعب والأمس المجيد له
له غد وله التاريخ والزمن
فليخسأ الظلم ولتذهب حكومته 
ملعونة وليولي عهدها النتن
ومن قصيدة (اليوم الأغر)، لمحمد سعيد جرادة:
اليوم يا شعب نحصي فيك من صنعوا
لنا الحياة ومن صاغوا لنا الشجبا 
وتذكر الظلم فيما أجرمت يده
لو أن ذكراه مما يبعث الطربا
مضى الألى حسبوا الدنيا لهم خلقت 
وأصبحوا عظة الآتي بمن ذهبا
والنفي والموت قتلا بعض ما كسبوا 
وإنما يجتني الإنسان ما كسبا
حققت يا شعب نصرا لا ينال بلا
سعي يشق وجهد يوجب النصبا 
ومن قصيدة (أنا الشعب)، لمحمد الشرفي:
أنا الشعب لم أستكن للطغاة
ولم يطفئ الظلم مني وقودي
ولن أقف اليوم بين الدموع 
أقبل لصي وأهوى مبيدي
فمعنى وقوفي تجاه اللصوص
جحود لحقي وأي جحود
أنا إن هدأت فخلف الضلوع 
جراح تضج بنار الوعيد