علي نعمان المقطري / لا ميديا -

الحضارة الإنسانية بدأت في اليمن جنوب الجزيرة العربية السامية، وهذا لأسباب كثيرة، أهمها أنها (أي الجزيرة العربية) كانت المكان الوحيد الصالح للحياة والعيش والتمدن والزراعة قبل بقية البلدان والأقطار الأخرى التي كانت بحكم موقعها مازالت غارقة في العصر الجليدي الرابع. وحتى عشرة آلاف عام قبل الميلاد كانت السلالات الإنسانية الأخرى التي خرجت من الجزيرة العربية قبل 50 ألف عام تقريباً دون مستوى التطور الحضاري الزراعي الحرفي المدني، فقد ظلت محكومة بالرعي والتقاط الثمار الغابية، وأدواتها حجرية متخلفة، أي في العصر الحجري.
ولم تعرف الحضارة والزراعة إلا حين حملت الهجرات اليمنية السامية إليهم الحضارة الجديدة جاهزة عبر الفينيقيين والسومريين والبابليين والفراعنة، فالأوروبيون مدينون بالحضارة لليونانيين والرومانيين الذين نقلوها عن الفينيقيين الساميين العرب خلال الألفي عام قبل الميلاد، فقد ظلت أوروبا غير صالحة للعيش ولا للزراعة ولا للحضارة، ومثلها المناطق الشرقية والشمالية من المعمورة.
كانت الجزيرة العربية صالحة للعيش والاستقرار منذ آماد بعيدة في القدم تصل إلى ملايين السنين، فقد وجدت آثار إنسانية في مناطق اليمن المختلفة، وفي الربع الخالي تصل إلى ما قبل مليون عام، ولا توجد مثل هذه الآثار في مناطق خارج الجزيرة العربية.
وحتى الألف الـ15 قبل الميلاد كان الإنسان في الجزيرة وخارجها مازال في العصر الحجري قبل التطور الطفري الذي حدث في الجزيرة السامية وحدها عبر اكتشاف الزراعة وصناعة الحديد والمعادن والأبجديات المكتوبة والفنون والبناء والتمدن والتجارة وصناعة السفن واستخراج المعادن الثمينة وتدفق الثروات وإقامة المدن الكبرى والإنشاءات الصناعية الضخمة لحفظ المياه وتحويل مجاري الأنهار وثقب الجبال لنقل المياه وإيصالها إلى مسافات بعيدة وشق الطرقات أمام العربات وترويض الخيل للركوب والحروب وترويض الأفيال والحيوانات الأخرى.
ولم يكن الأمر مقصوراً على الأسباب الجغرافية وحدها، فقد توفرت بعد زمن نفس الأسباب في المناطق الأخرى شمالاً وشرقاً وغرباً، إلا أن الجماعات البشرية لم تتجه إلى نفس النتائج ولم تكتشف أي منها طريقها الخاص بمفردها دون نقل للحضارة العربية اليمنية السامية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فقد ظلت الجماعات الجرمانية والهونية والساكسونية والسلتية والسنكريتية والتترية والمغولية والسلافية وشرق أوروبا وشمالها والفرس والهنود وغيرهم من الأمم في الحالة الرعوية المنعزلة، رعي القطعان وتربية المواشي والعيش في مستعمرات وخيام وأكواخ، بلا علوم أو معارف أو صناعات أو حرف أو أبجديات الكتابة، حتى الفترة التي اتصلوا فيها بالأمم السامية اليمنية العربية المهاجرة من خلال التبادل التجاري وجوب البحار والمحيطات، ونشر المعارف والخبرات بسخاء.
وقد تعرضت الكثير من الجماعات السامية للإفناء خلال تقدم الأوروبيين والفرس استنادا إلى أسرار المعارف الحضارية السامية وللحلول محلها بأحط الأساليب الحربية الوحشية، وهي التي أشار إليها السيد المسيح بالحكمة الشريرة حين تعطى للأشرار فهي تزيد الشر قوة وجبروتا.
وخلال عصور النهضة حاولت أوروبا وإلى الآن أن تزيف التاريخ لتلغي من الأحداث ما يشير إلى الدور الحضاري التقدمي للساميين واليمنيين والعرب في مسار الحضارة الإنسانية.

الحضارة والدولة والسلطة العامة
عرف الإنسان الحضارة منذ 12 ألف عام وأكثر، إذا أخذنا بعام الطوفان، وهو حقيقة علمية أثبتتها الدراسات الجيوتاريخية التي تقدر حدوثه منذ أكثر من 15 ألف عام، ومعنى ذلك أننا نتحدث عن الطور الثاني من الحضارة الإنسانية لما بعد الطوفان، والتي بدأت في الجزيرة العربية السامية.
لقد عاش الإنسان آلاف الأعوام دون حاجة لدولة تنظم حياته ومجتمعاته، مع وجود بقايا الشرائع والنظم القبلية القديمة القائمة على التعاون والتكافل والروح الجماعية والوحدة وإعلاء روح الجماعة القبلية الواحدة.
كان النشاط المتعدد الجوانب في الطور الأول من الحضارة عنوان تكامل الإنسان في فجر تطوره، فقد ظل الإنسان يجمع بين أنشطة الزراعة وتربية الماشية في نشاطات وتجمعات مشتركة تجمع الأسر والعشائر والقبائل، التي تعيش تحت قيادة الزعامات القبلية والأسرية الكبيرة في السهول وعلى ضفاف الأنهار. وكان الإنتاج محكوما بتخلف الوسائل والأدوات العملية الفنية، حيث كان عصر المعادن ما يزال في بداياته، فقد أخذ التطور الصناعي الحرفي والمعدني والزراعي والمدني في الارتقاء التدريجي لمدة طويلة تجاوزت بضعة آلاف عام حتى تمت عمليات الانقسام بين المدن والأرياف بالزارعة والرعي وتربية الماشية، وانقسام مجتمع المدينة إلى طبقات متصارعة استدعت قيام الدولة.
قامت الدولة كتنظيم اجتماعي دائم يملكه الأقوياء ضد الضعفاء، والأثرياء ضد المحرومين، بعد أن صار الأغنياء اقلية صغيرة العدد في المجتمع لا يمكنها اخضاع الغالبية الفقيرة المحرومة في خدمتها إلا بالإكراه، وقد أخذ مسارا طويلا في التشكل على صور عديدة.

دول المدن أو مدن الدول
وفقا للتاريخ المعروف هناك تلازم بين قيام المدن الكبيرة والدول، وهنا علاقه أشار إليها القرءان في آياته حول تحول المال إلى دولة بين الأغنياء، وهي لفظة تنطوي على معنى الدولة العادي كاحتكار، ومعنى التداول المالي كاحتكار أيضاً بين طبقة الأغنياء وحدهم في وقت واحد، ففي جميع الحضارات المدنية المعروفة في الشرق تقوم الدولة كتنظيم قوة بين يدي أغنياء وأثرياء المدن، فقد أصبح الثراء والحصول على الأموال يأتي من طريق الحروب كواحدة من مصادر الثروات الارستقراطية، وهي حروب كانت تنشب بين المدن والجماعات المتنافسة وتحصل نتيجة ذلك على آلاف الأسرى والسبايا ومعها تظهر وظائف الاسترقاق وتجارة الرقيق بأنواعه، ومعها تتنامى وظائف أجهزة القوة والقمع والسجون، وهي ما تشكل في مجموعها تنظيم الدولة.
قد تظهر الدولة بداية على شكل ملك محارب حاكم يرأس المدينة وينظمها ويصرف شؤونها يملك الجيوش الخاصة به كأكبر أغنيائها وأثريائها ومن حوله ترتص بقية الطبقة الارستقراطية المالية الثرية، فلم يعد يحكم باسمه وحده، بل صار الآن يحكم باسم الطبقة كلها التي تبايعه حاكما وقائدا عليها وعلى الشعب من خلفها، فصراع المصالح الاقتصادية والتجارية يصل إلى طور لا يمكن معه أن يحققه اعتمادا على جهوده الخاصة وقدراته وقواته وحدها مما يفرض على الطبقة بكاملها أن تتضامن وتتعاون معا لإقامة حكم مشترك وقوات مشتركة ودولة مشتركة أكبر تعم الإقليم كله وتنتخب الأسرة الأكثر قوة وثراء لتنحدر من أصلابها الملوك لتحقق نوعا من الاستقرار وقطعا للمنازعات حول السلطة، وهذ النوع من الدول والحكومات هو أساس الحكم الملكي المطلق القديم.
الدولة هنا تنظيم يخفي سيطرة الطبقة الأغنى والأكثر قوة وثراء وتملكا للثروات والأراضي والتجارة والجيوش والمعابد والمحاكم والسجون، حيث تضفي الدولة عليها طابعا عموميا زائفا مموها، وتنتظم الطبقة الأغنى المسيطرة ونخبها الطليعية حول الملك متوزعة في مراتب عديدة حسب القدرات والاختصاصات والخبرات، منها في الجانب القيادي العسكري، ومنها في الجانب السياسي الإداري، ومنها في الجانب الفكري الثقافي والديني والعقيدي، ومنها في الجانب الاقتصادي التجاري، ومنها في الجانب الزراعي، ومنها في الجانب الوظيفي والكتابة والحسابات والرصد والتنجيم والفلك، ومنها في جانب الإنشاءات والمساحات، وغيرها من الأغراض الثابتة للدولة الطبقية.
كما يمكن أن تظهر الدولة بشكل آخر وبصورة أخرى، كاتحاد عدد من القبائل المستهدفة بالحرب من قبل جماعات قبلية أخرى تهددها بالاجتياح والسيطرة على أراضيها ومجالها الحيوي،  فتنشأ بينها معاهده تولية قيادية وتأتمر لزعمائها وتلتزم بالطاعة والسمع ودفع ما يجب من تكاليف تجييش الجيوش وإقامة الدفاعات وشراء المعدات المطلوبة للحرب واستئجار الكثير من المماليك والمحاربين المسترزقين والعاطلين عن العمل الذين تقذف بهم المتغيرات البيئية والاجتماعية إلى حياة الحرمان والسعي لخدمة الغير لقاء الأجرة لدى الأغنياء والمترفين والطامحين الأقوياء.
الظاهرة الهامة في تاريخ الحضارة والدولة ونشوئها هي أن المجتمعات المدينية التجارية الثرية تصل في تطورها إلى حالة الاحتياج إلى الحماية من خارجها، الحماية الدائمة المستأجرة التي لا تستطيع الجماعات توفيرها تلقائيا كما كانت تفعل الجماعات القبلية البدوية التي مازالت دون الحاجة إلى استئجار جيوش من خارجها من خارج مكوناتها، فهي لم تعد تستطيع أن تجمع بحكم التخصص التجاري بين نشاطها التجاري وبين ممارستها الفروسية القديمة نتيجة ما توفره حياة الغنى والمدنية من رخاوة ترف ونعمة ورقة في العيش تجعلها أضعف في دفع الخصوم والأعداء، وكذلك احتكار الأغنياء لوسائل القوة والثروة يجعلها بحاجة إلى إقامة إمارات ودول من خارجها تضمن لها الحماية لقاء الخراج والضرائب والعطايا وهي أسهل لها من ممارسة القتال مباشرة بعد أن أصبح القتال فناً يتطلب التعليم والممارسة والتدريب.
إن تطور أدوات العمل والإنتاج والصناعة والصهر وإنتاج المعادن وخاصة الحديد على نطاق واسع جعل آلات القتال والسلاح متوفرة، حيث صنعت السيوف والخناجر والحراب والنصال وصارت الحروب أقرب إلى الصناعة والعلم ولم تعد عفوية كما كانت في غابر الزمن.
وقد حرصت الارستقراطية أن تحتكر صناعة السلاح والتدرب على الحرب واحتكار صناعة الفروسية والغزو، وبالتالي فإن كل هذه العوامل وغيرها قررت طبيعة دولة المدينة التي لم تكن شاملة على القطر ككل بل كل مدينة أنشأت دولتها الخاصة بها أولاً على قسم من الإقليم ثم حدثت حركات توحيد عبر حروب طويلة دامية بين الدول (المدن) كانت تنتهي عادة بتدمير دول (مدن) وحضارات وإفناء جماعات من السكان بكاملها لإفساح المجال أمام القوى الجديدة الصاعدة ماليا وأطماعا وجشعا للمزيد من الغنى والثروات والسيطرة، مع ظهور المزيد من المظالم البشرية.
لقد كان الوجه الآخر للتطور الحضاري الطبقي الصراعي داميا وبشعا وقاسيا، فقد كان الهدف من الإفناء المتبادل للسكان والجماعات السيطرة على ما كان تحت أيديها من أموال وأراض ومياه ومواش ونفوذ وحرف. وفي هذه المرحلة الدامية والمظلمة من تاريخ الحضارة الطبقية تأتي الأساطير الدينية في محاولة سعي الطبقات المسيطرة للتعويض المعنوي وتمويه ما فعلته بالتطور البشري من مآس لكي تغطي ذلك وتبرره وكأنه عقاب من الخالق وبأوامر منه لإنزال العقاب بالجماعات التي عصت إرادته هو وليس إرادة الجماعة الطامعة الجشعة.
في الماضي قبل الانقسام الاجتماعي والصراع الطبقي كان الدين يعبر عن تصورات الجماعات بشكل عام وعن وعيها وأحاسيسها وطبيعتها الأخلاقية وينميها ويرسخ فيها القيم الجماعية والإنسانية العامة والتعاون والرحمة والإخاء والوحدة ومحاربة الشرور والبحث عن الخير وتنميته. أما الآن فقد احتكرت الأديان لصالح الأغنى والأقوى وصارت خادمة للأقوياء والملاك والمحتكرين والغزاة والمغتصبين، ويسير الدين ليتوحد بوعي الأرستقراطية المسيطرة ورغباتها وأغراضها إلى حد أن يجعل الملوك آلهة واجبة العبادة وممثلين لله الأعلى على الأرض.

غربة أديان السماء في مواجهة أديان الأرض
مطامع الطبقة الأرستقراطية أفسدت كل المعاني الجميلة للأديان السماوية وشوهتها وتمردت عليها، زورتها بما يخدم أغراضها ومصالحها، ولذلك تصدت لجميع الأنبياء السماويين المرسلين وعاندتهم، تمردت عليهم وتجبرت وتكبرت عليهم وحاربتهم بكل الطرق والأساليب، منذ النبي نوح عليه السلام عرفت البلاد أنبياء آخرين جميعهم تم إنكارهم وأوذوا وحوربوا ولم يستجب لأي منهم، ولذلك كانت العقوبة من جنس العمل، وكثير من تلك الأقوام قد أهلكوا وتصحرت بلدانهم متحولة إلى رمال بعد أن نضبت الأنهار وغارت.