علي نعمان المقطري / لا ميديا -

خاض السوفييت أعظم ملاحم الصمود والحرب التحررية الحديثة في مواجهة جحافل غزو بملايين الجنود وعشرات الآلاف من المعدات والمدرعات والطائرات والدبابات والمدافع والآليات، بهدف استئصال السكان من الوجود والحلول محلهم والاستمتاع بخيراتهم وأراضيهم وثرواتهم.

قوة الشخصيات القيادية الألمانية السياسية والعسكرية وقدرتها على التأثير والتعبئة العقائدية المضللة لشعبها مكنها من إقناع ملايين الألمان المحاربين بالإيمان بمدى قوة ونجاح وقدرة المشروع الاستعماري الألماني، فانخرط الملايين منهم في الجيش النازي ليصبحوا وقودا لحربها المدمرة.
إن مشروعا امبرياليا بهذا الشمول والقوة والمنعة والتغول والسعة والانتشار ما كان يمكن إيقافه وتدميره إلا بوجود أمة قوية حية وعقيدة وقيادة وطنية تحررية شديدة القدرة والتأثير.
إننا، ونحن نواجه عدوانا همجيا لا يقل خطرا ووحشية عن العدوان الفاشي القديم الذي تبنته الامبريالية الغربية الجديدة وتجلياتها وأتباعها الإقليميون، يهمنا الاطلاع على دروس التاريخ التحرري المجيد للشعوب التي سبقتنا بثوراتها وتحررها واستقلالها وانتصاراتها ضد الاستعمار والعدوان والاحتلال.

القيادات الشريفة الشجاعة
تقدير القيادات حق قدرها، والاعتراف بالأخطاء والإقلاع عنها بشجاعة، سجية القادة السياسيين الكبار ورجال الدولة، وليست متوفرة لكل الناس. والخلافات بين السياسيين والعسكريين أمر وارد ومحتمل خلال الحروب الكبرى لاختلاف وجهات النظر بين الجانبين وطبيعة الاستنتاجات التي تتغلب في أذهان كل منهما، فحين يغلب أحدهما خيارات معينة يغلب الآخر خيارات أخرى يراها أكثر أهمية وخطورة وإلحاح. من هنا يتوجب توحيد القيادة العليا للدولة السياسية والعسكرية خلال الحرب في شخصيات واحدة تجمع مزايا الحرب والسياسة وتستطيع الموازنة بينهما وتدرك متى تغلب اعتبارات السياسة ومتى تغلب ضرورات الحرب ومصلحة القتال.

التباينات بين القيادات السياسية والعسكرية 
ظهور تباينات واختلافات بين القيادات السياسية والقيادات العسكرية أمر محتمل أثناء الحرب الوطنية؛ لقد حدث خلاف شديد بين الجنرال جوكوف، رئيس الأركان السوفيتية آنذاك، وبين جوزف ستالين الزعيم السوفيتي القائد العام الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع، حول الموقف المطلوب لمواجهة احتمال الهجوم الألماني الوشيك. وكان رأي جوكوف هو أن عدم الانتظار حتى يبدأ الهجوم الألماني، وإنما أن يتم استباقه بإجراءات إيجابية تعطل نتائج أي هجوم قادم وتقلل من آثاره وأخذ المعلومات المتوفرة عن نوايا ألمانيا بالهجوم الوشيك على روسيا على محمل الجد. وكانت المعلومات الاستخبارية العسكرية السوفيتية قد زودت القيادة بمعلومات من عدة مصادر تؤكد نية الهجوم الألماني الوشيك، إحداها كان مصدرها اليابان والقيادة اليابانية التي كان معها تنسيق في الهجوم المشترك على روسيا من الشرق والغرب، والثانية كان مصدرها القيادة الألمانية.
أما ستالين فقد كان متأثرا بالشك في صدقية المعلومات المسربة وما إذا كانت مقصودة من قبل الألمان أنفسهم بهدف خلق الذرائع للتنصل من معاهدة عدم الاعتداء الموقعة بين البلدين. ولذلك استنتج بعقلية القائد السياسي أن المعلومات قد تكون مسربة عن عمد، فلم يبادر إلى الاستعداد للحرب قبل أن يقع الهجوم، وكانت ألمانيا قد سبق أن سربت معلومات مضللة حول مدى إخلاص القيادة العسكرية السوفييتية بهدف خلق فتنة بين القيادات الوطنية، ونجحت مؤامرتها في إثارة الفتنة التي استدعت التنكيل بعدد كبير من ألمع القادة السوفييت الشرفاء. وقد تركت تلك المؤامرات أثرا في نفسية ستالين وجعلته حذرا في تفسير كل معلومة ترده من ألمانيا، ولو عبر مخابراته التي كان يشك في أنها مخترقة من قبل العدو الذي يعمل على تسريب معلومات مضللة إليه لدفعه إلى اتخاذ قرارات خاطئة ومهلكة. لذلك لم يستطع تبين الموقف بصفاء ووضوح فطالت حيرته، بينما كان الجنرال جوكوف أكثر صفاء في تقديره للموقف العسكري الذي كان يراه بوضوح في خطوطه الأساسية إيماناً منه بصدقية معلوماته ومصادرها المضمونة.
كانت الخطوة الأولى التي أراد جوكوف أن يتم اتخاذها تتمثل في إغراق الأسطول السوفييتي في الشمال الأقصى لكي لا يقع في أيدي الألمان حال هجومهم الوشيك على الاتحاد السوفيتي لكن ستالين رفض السماح بذلك. وهكذا فاجأ الهجوم الألماني السوفييت وهم مازالوا في حيرة من أمرهم، فكانت الكارثة الكبرى: 4 ملايين جندي سوفييتي يقعون في الأسر بعد أن دمرت القوات الجوية والبرية الألمانية أرتال الجيش وهي على الحدود غير جاهزة للمواجهة. كان جوكوف يريد القيام بعملية انسحاب تكتيكي إلى الداخل قليلا، إلى مناطق مناسبة للدفاع والالتفاف، لكن ستالين كان مصرا على الصمود في المواقع الحدودية مهما كانت التضحيات، ولذلك أقال جوكوف من منصب رئيس رئاسة الأركان العامة.

جوكوف على جبهة لينيجراد المحاصرة
وأكد مسار العدوان صحة تقديرات جوكوف بشأن فكرة ضرورة إغراق الأسطول السوفييتي البعيد في بحر البلطيق وفي أن لينينجراد ستكون هدفا أوليا للعدون بحكم موقعها الجغرافي؛ وهو ما حدث حيث تعرضت للحصار والعدوان لمدة عام كامل. وأمام ضعف القيادة السوفيتية في لينينجراد وطول فترة الحصار على المدينة، قرر ستالين استدعاء جوكوف وتوليته قيادة تحرير المدينة المحاصرة بالامكانات المتوفرة هناك.
كانت القيادة السوفييتية تقاتل الألمان المتفوقين في الإمكانيات والعدد بالطريقة الجبهية التقليدية وفقا لمفهوم الدفاع الساكن، لكن الجنرال جوكوف غير أسلوب القتال ووضع خطط جديدة مفاجئة للألمان، أهمها نصب الكمائن الكبيرة على طول وأجناب الطرق الكبرى المؤدية إلى المدينة أمام الزحف الألماني الكبير، حيث زرع المساحات الواسعة الممتدة بالألغام والمفخخات وقاذفات اللهب والمواد الحارقة والمدافع المضادة للدبابات بأعداد كبيرة لم تعرفها المعارك من قبل، وبشكل سري لم يتوقعه ولم يكتشفه الألمان إلا بعد أن نكبوا بنيرانه وجحيمه وغرقوا في قلب لهيبه وحممه.
وقد ترك جوكوف منافذ سرية بين الألغام وأجرى عليها طول الوقت حركة عربات روسية تذهب وتجيء بغرض إغراء الألمان الذين كانوا يرصدون حركة العربات الروسية على الطرق واستدراجهم للتقدم إلى الأمام حتى يوقعوا بدباباتهم في حقول الألغام الروسية. كما حضّر كميات كبيرة من خلطات المولوتوف الزجاجية النفطية الحارقة للدبابات ووزعها في كمائن على طول جنبات الطرق وفي الغابات المحاذية تخرج لها بغتة من الحفر والخنادق والأحراش المعدة سلفا لهذا الغرض، وأنزل بالألمان وقواتهم خسائر كبيرة وصد هجومهم وكسر الحصار المضروب حول المدينة.
كان جوكوف قد أعاد تنظيم وتوزيع القوى على محاور الجبهة حسب أهميتها وخطورتها بشكل غير متساو، مما أعاد التوازن الاستراتيجي للجبهة. وتمكن جوكوف من فك الحصار وتكبيد الألمان أول هزيمة كبرى قلبت موازين المعادلات العسكرية لصالح السوفييت. وبعد أن وصل الألمان في هجومهم الكبير إلى مشارف موسكو وحاصروها من الغرب على بعد 30 كيلومتراً، اتخذ ستالين قرارا بتولية الجنرال جوكوف قيادة جبهة موسكو الكبرى بعد أن أدرك مدى عبقرية وصلابة واستقلالية وانضباطية هذ القائد القوي وتميزه عن أقرانه ومواكبته المستمرة للعلم العسكري والتعلم الدائم من الحرب.

 جوكوف على جبهة موسكو
تولى جوكوف قيادة جبهة موسكو في أحلك الظروف وأشدها خطورة، واستطاع خلال أشهر تحقيق أهم الانتصارات السوفييتية بعد أن جرع الألمان هزيمة قاسية ودحرهم مئات الأميال عن محيط العاصمة رغم تفوقهم العتادي والعددي في الميدان. وكانت تلك أهم معركة وأكثرها خطورة، فقد دفع الألمان بنحو مليوني جندي وآلاف المدرعات والدبابات والطائرات والمدافع إلى معركة موسكو مصممين على اقتحامها، لكن جوكوف استطاع أن يرسم خطة للقتال وينفذها بنفسه وبإشرافه المباشر، حيث وضع المدافع والدبابات في الغابات موجهة على أجناب العدو حال تقدمه الاستدراجي إلى مساحات أُعدت لتطويقه والهجوم عليه سلفا على مرتفعات وأدغال الغابات المحيطة بالساحة المعدة للمعركة.
استخدم جوكوف الخنادق والمواقع التلالية العالية المشرفة والغابات الكثيفة التي يصعب على الدبابات المعادية الحركة فيها. وخلال أسابيع طويلة من المعارك الضارية حققت مدافع الروس المضادة للدبابات والمدرعات نتائج باهرة بتدميرها لكميات كبيرة من المدرعات الألمانية المهاجمة المتحركة وحرمان العدو من قوته الضاربة، وهو ما أدى إلى تراجع زخم الهجوم الألماني وتحوله إلى الدفاع عن مواقع كان يخطط لتخصيصها لاستقبال ما يصل إليه من تعزيزات جديدة ليعاود الهجوم. لكن جوكوف لم يمهله بل شن عليه هجوما كبيرا مضادا دحره من مواقعه وأبعده مسافة 300 كيلومتر بعيدا عن موسكو بعد أن خسر حوالي ربع قواته البشرية والمدرعة، أي ما يساوي نصف مليون قتيل تقريبا وآلاف الآليات العسكرية.