علي نعمان المقطري / #لا_ميديا - 

لا يمكن النظر إلى الأحداث في المنطقة من زاويتها المحلية المباشرة الضيقة كأنها فقط منازلة إقليمية بين محور المقاومة العربية والوجود الأمريكي الإسرائيلي للسيطرة على المنطقة وخيراتها، بمعزل عن حقيقة ومعارك الصراع القطبي الكوني العالمي الكبير والحاسم الذي يحكم جميع المنازلات والصراعات الأخرى، لأنه أهم الصراعات على الإطلاق، فهو يشمل الكون كله، وليس منطقة أو بلدا بحد ذاته، بل هو استقطاب عالمي يشمل القوتين الرئيسيتين الكبريين المنتشرتين بقواهما ونفوذهما على مستوى عدد من القارات.
هو صراع وجود ومصير المنطقة وشعوبها واستقلالها ومصير الاستعمار والاستكبار والاستيطان الأجنبي والاغتصاب الهمجي والصليبي الصهيوني والوكيلي. هو صراع حتمي قائم ومستمر تحاول القوى الأجنبية الغربية المستعمرة والعدوانية بقوتها وعملائها وجيوشها ومرتزقتها أن تؤبد احتلال واستعباد بلادنا ومناطقنا وقهر شعوبنا وأممنا الشرقية والعربية الإسلامية وغير الإسلامية من ضحايا النهب الاستعماري لقرون خلت، وأن تبيد أربعة أخماس سكان العالم المضطهد المستغل لكي يبقى مليار إنسان أوروبي أمريكي يانكي ونخبها المالية التابعة، وليذهب الباقون إلى الجحيم، وتكشف أوراق ووثائق نادي روما للمليارديرات الغربيين وأهم تجمع خاص لأغنى الاحتكاريين الغربيين صناع السياسات والقرارات الاستراتيجية العالمية والسيناريوهات الدولية للتطور والتنمية، وبعبارات صريحة،  تؤكد أن الحروب والأوبئة والأسلحة النووية التكتيكية المحدودة قد تكون ضرورية لإحداث توزان مختل بين كثرة السكان والموارد الأقل، وكان مشروع كهذا قد أقرته القيادة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، تضمن توجيه الضربات النووية ضد روسيا السوفييتية في العام 1949م، واستهداف 50 مدينة ومركزا صناعيا وسكانيا وعسكريا سوفييتيا، قبل أن تعرف أن السوفييت قد امتلكوا القنبلة النووية الذرية، وهو ما أجبرها على التراجع واستخدام استراتيجية جديدة، وهي ما سميت الحرب الباردة بدلا عن المواجهة النووية التي عدلت معادلاتها بالسلاح السوفييتي النووي ثم بالسلاح النووي الصيني، وكانت الصين مستهدفة بهذا السلاح الرهيب قبل أن تبادر إلى امتلاكه، وتوكد المؤرخات لتلك الفترة أن القيادات الأمريكية الفاشية قد حاولت إغراء السوفييت بالسكوت عن توجيه ضربه نووية ضد الصين، محاولة استغلال الخلافات الناشئة بينهما مطلع الخمسينيات، لكن السوفييت منعوا مثل هذا العمل البشع الذي أرادت واشنطن الإقدام عليه.
إن الصراع بين أقطاب الإمبريالية الغربية برئاسة أمريكا وحلف الناتو وحلفائهما من جهة وبين الكتلة الروسية الصينية الإيرانية العربية التحررية واللاتينية والمستضعفين في العالم من الجهة المقابلة، هو صراع لم يدع مجالا لأحد في الحياد واللامبالاة بما يجري حوله، وخلف هذا الصراع الرغبة الأمريكية الغربية المحمومة والجشعة لاستمرار وتوسيع السيطرة على المنطقة وعلى مراكز الثروات الوطنية الوافرة من النفط والغاز والمواد الأولية الرخيصة الثمن والممرات والمواقع الحاكمة، وفي المقدمة تأتي كتلة آسيا المركزية وقلبها وجناحاها الشرقي والغربي، حيث يتركز أكبر تجمع للقوات الأمريكية العدوانية، وعلى رقعة جغرافية واسعة متخمة بالثروات الطبيعية والمواقع الاستراتيجية الحاكمة.

صعود القوة الصينية الجبارة الجديدة
ويشكل الآن صعود ونهوض العملاق الصيني الصناعي والاقتصادي والعسكري استفزازا مرعبا إضافيا للولايات المتحدة الأمريكية والغرب، فخلال السنوات الـ20 الأخيرة تمكنت الصين من الانتقال من الدولة النامية الفقيرة إلى مستوى الدولة رقم 2 في مستوى نموها ودخلها القومي الوطني ومستوى حجم اقتصادها، بعد تجاوزها اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، عمالقة النمو الرأسمالي العالمي خلال العقود الـ5 الماضية.
وتكشف الإحصائيات الصادرة نهاية العام 2019م، عن المراكز الدولية للاقتصاد العالمي أن الصين قد بلغ دخلها القومي الصافي هذ العام مبلغ وقدره 12,5 تريليون دولار تقريبا محققة الدرجة رقم 2 في مستوى الاقتصادات العالمية ومستوى الدخل القومي الوطني ولا يسبقها حتى الآن سوى الولايات المتحدة وحدها وهي تتراجع أمامها، بينما تواصل النهوض والنمو كما ونوعيا.
وقد ظلت تشغل هذا الموقع التافسي كل من ألمانيا واليابان وروسيا وبريطانيا وفرنسا ودول أخرى لعقود قبل أن تجترح الصين معجزتها التصاعدية الاقتصادية ومسارها المرعب للغرب متخطية جميع الدول والاقتصادات الأخرى في العالم شرقا وغربا دون توقف محققة نسبة نمو سنوي لم تبلغها أي دولة في العالم من قبل، وتقدر بـ12٪ سنويا.

 خسارة الرهانات الأمريكية الاستراتيجية
كان كسينجر هو المهندس الأول للسيطرة على الصين وعزلها عن السوفييت، وكانت فكرته الشريرة الشيطانية تقوم على التخلص وتدمير الاتحاد السوفييتي وكتلته الجيواستراتيجية والسياسية والجغرافية أولاً، ثم الالتفات إلى الصين والتفرغ التام لها بعد أن تكون مرحلة المراضاة والتقرب التكتيكية لها قد أنتجت مفاعيلها المخططة من الإضعاف الممنهج والهيمنة غير المباشرة عليها وإغراقها بالديون وإثقالها بالأكلاف ونقل موبقات الرأسمالية الغربية المتوحشة إلى المجتمع الصيني وشراء ولاءات وتجنيد أعداد كبيرة من القيادات الداخلية الصينية وإحداث تصدعات في البنية العميقة للمجتمع وتقسيمه تمهيدا لتصفيته من الوجود وإنهاء محاولات التحرر والاستقلال والنهوض الوطني ويقايا الأحلام.
إن الرهانات الأمريكية الخاسرة كانت كثيرة، ومنها التبعية الربوية المالية للغرب وإغراقها بالديون والنمو الاستهلاكي الطفيلي والانحلال الثقافي الأخلاقي وخلق الطبقات والنخب المافوية الكولونيالية واختراق المجتمع الصيني اختراقا شاملا يقود إلى إعادة استعمارها مجددا بأشكال جديدة، لعل الليبرالية المتوحشة أحدها، وانفلات حركة الاقتصاد السوقي العشوائي ووقوعه تحت هيمنة الاحتكارات الدولية الغربية، وتحويل الصين إلى أكبر سوق استهلاكية في العالم تستهلك ما تنتجه الاقتصادات الغربية، وجعل هونج كونج وتايوان مثالا يعبد ويتبع.

فشل المنافسة الغربية الأمريكية وإحباط مؤامراتها
خلال الأعوام الـ40 السابقة راهنت أمريكا والغرب على ربط الاقتصاد الصيني بالاقتصادات الغربية الرأسمالية، ظنا منها أنها تستطيع إحكام السيطرة على الدولة الصينية وتحييدها وإضعافها وإخراجها عن معادلة وميدان الصراع ضد السوفييت مقابل الحصول على تسهيلات ونقل التقنيات الصناعية الغربية إلى الصين وتسكين التقنيات فيها وفتح الصين أمام الاستثمارات والسلع الغربية والاستفادة من رخص أسعار العمالة الصينية كثيرة العدد ونقل الصناعات الأمريكية والغربية من قبل الغرب، حيث مطالب العمال بزيادة الأجور تحرمه من نسبة كبيرة من الأرباح التي تحلم بتحقيقها الاحتكارات الكبرى هناك، بينما تبدو السوق الصينية متخمة بالعمالة الرخيصة الأجر وتوفر المواد الخام المطلوبة بالقرب من الأسواق ومن المراكز الإنتاجية، وشكلت الصين مخرجا أمام أزمة الركود والتخمة الإنتاجية الغربية كثيرة التكاليف متقادمة الماكينات، وكانت أمريكا تعتقد أنه يمكنها أن تطوي الدولة والقيادة الصينية تحت إبطيها كما فعلت مع القيادة السوفييتية، أو تحول الصين إلى مجرد مستعمرة كبرى أو كيان تابع للأمريكيين والغرب، وبهذا تكون أكملت دورة سيطرتها على العالم، لكن ما جرى ويجري على الأرض كان يشير إلى أن الصينيين كانوا ومازالوا يجيدون اللعب على كل الحبال، ويتراقصون فوقها برشاقة وخفة ومهارة دون أن يقعوا أو يغادروا حصافتهم وهدوءهم وتواضعهم، لكن الرياح سارت على غير هوى الأمريكي والغربي ومخططاتهما الشريرة الشيطانية.
فلم تستطع السلع الغربية أن تنافس السلع الصينية المصنعة سواء في الجودة أو رخص أسعارها وتناسبها مع مطالب أغلب المستهلكين الفقراء والمتوسطين عبر العالم بما فيها مجتمعات الغرب نفسها، لأن الدولة الوطنية الصينية ظلت ترعاها وتحميها وتخطط لها وتدرس تحدياتها ومشكلاتها سلفا، وتطرح الخطط البديلة، وتهيئ وتربي الكوادر والقيادات الواعية، عكس ما هي عليه المنافسة الغربية والعشوائية والاضطرابات والاحتكارية الغابية وانعدام عقلانية السوق العشوائية وقدم الماكينات وسيطرة الفوضى الخلاقة المدمرة والمافيات والاحتكارات والفساد. والنتيجة هي أن الاقتصاد الصيني الوطني ظل ينهض صعودا، بينما الاقتصاد الأمريكي الغربي يتراجع أمام المنافسة الجديدة، حيث كانت أولوياتهم هي إسقاط الاتحاد السوفييتي أولاً وتحييد قوى الصين وعدم استفزازها في الصراع لكي لا ترجح كفة الصراع القائم لغير صالحها قطعا.
وكانت الصين تعلم حقيقة نوايا الغرب ومخططاته واستراتيجياته تجاهها، فواصلت التخطيط لمواصلة بناء ذاتها وقواها في جميع المجالات بصمت وإصرار وإرادة، وهي تؤمن أنها كانت دولة عظمى في العالم القديم ما قبل الاستعمار الغربي، وقد غشاها طموح زاخم في استعادة قواها وحقوقها ومكانتها وثقتها ودورها الحضاري العالمي.

الأمريكي يشحذ سكاكينه شرقا
بعد أن انتهت أمريكا من السوفييت ومن حلفائهم، التفتت إلى استهداف إيران وأفغانستان والعراق وسوريا لتطويق الصين وروسيا وكوريا كآخر المراكز الآسيوية الشرقية المستقلة الخارجة عن الهيمنة الغربية.
كان أوباما قد صرح بوضوح نهاية دورته الرئاسية الثانية أنه بتوقيعه على الاتفاق النووي مع إيران، فإنه يعمل على نقل قواته واهتماماته من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا وبحرها الجنوبي حول الصين بهدف وقف ومحاصرة الصعود الصيني هناك، حيث يتعرض النفوذ الغربي للتآكل منذ سنوات طويلة، وحيث تنمي الصين قوة حربية واستراتيجية هائلة وحديثة وتمد سيطرتها على المناطق العائدة للصين الواقعة تحت الهيمنة الغربية والأمريكية من أيام الاستعمار، وبالأخص حول تايوان وبحر الصين الجنوبي وغرب اليابان وغيرها من مناطق الهيمنة العسكرية الأمريكية الطاغية بقواعدها وجيوشها منذ الخمسينيات.

خنق الصين بالطاقة النفطية
إن صعود الصين وقوتها قائمان على ركيزتين هما القوى المحركة والمنتجة والأموال والقدرات. والصين تملك القدرات والمال وغيرها ماعدا الطاقة النفطية فهي فقيرة فيها وتشتريها من منطقتنا العربية والإسلامية، من إيران والخليج والجزيرة كأقرب المصادر إليها، وهي أكبر مستهلك ومشترٍ للنفط والغاز في العالم، ومركزها يقع في المنطقة المركزية في غرب آسيا، ومن هنا فإن حرب الأمريكي لخنق الصين تنطلق من الاستباق للسيطرة عليها والهيمنة على المنطقة وإعادة احتلالها وإعادة تقسيمها وشرذمتها، وللسيطرة على طريق النقل البحرية بين المنطقة والصين عبر المحيط الهندي وبحر العرب والخليج العربي والفارسي بالسيطرة على الجزر الفاصلة بين المناطق الحاكمة، من هنا أرد الأمريكي دوما ومايزال يريد احتلال سقطرى وبقية الجزر اليمنية.

الخوف الصيني من الحصار وليس من الحرب
تخاف الصين أن تجد نفسها وقد حوصرت من البحر ومن انقطاع توريد الطاقة النفطية إليها، فتنهار صناعاتها واقتصادها، وتضطر لأن تخضع للإرادة الغربية الأمريكية قبل استخدام السلاح الحربي الذي تجد الصين نفسها متفوقة وقادرة على هزيمة الأمريكيين وعملائهم على الأرض الصينية وبحارها وفي شرق آسيا.
وقد نشر عن البنتاجون الأمريكي قبل عامين تقرير ووثيقة تقييمية للقوة في شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، حيث ترشحها أن تكون ميدانا للمواجهات الكبرى بين العملاقين المتزاحمين المتنافسين بقوة واحتدام وتصاعد، حيث الصين ستصبح الدولة الأقوى في العالم اقتصاديا خلال السنوات الـ5 المقبلة، كأمر محتم لا نقاش فيه.