غازي المفلحي / #لا_ميديا -

«ذهب ولم يعد أبداً». هكذا تقول أم محمد في القصة التي ترويها عن ابنها محمد فائد البدوي اليوسفي، وهي قصة أطول جملها وأبلغها «التنهدات». لم يكن محمد مسنا يجري عملية قلب مفتوح، بل شاباً في الـ19 من عمره، يجري عملية لجبر كسر في الحوض، لكنه وبخطأ ما وهو تحت يد الطبيب -الذي رفض إجراء العملية قبل أن تقبض يده 2 مليون ريال حسب أسرة محمد- أصيب بضمور حاد في الدماغ، جعله بلا سمع أو بصر أو فهم، وبقليل من الإدراك المذعور التائه، حبيس غرفة من المغذيات والقسطرات والعلاجات، وجعل أسرته -وخاصة والدته- حبيسة هم محمد، الذي يبدو بلا حدود.

على بوابة المأساة
حسب تقريرين من الهند وتقريرين من اليمن فدماغ محمد تعرض لضمور نتيجة انقطاع التروية عنه، بسبب عدم وصول الدم والأوكسجين إليه، فمات محمد لمدة 7 دقائق، وعندما تم إنعاشه عاد للحياة، ولكن كإنسان ميت لا يفعل شيئاً مما يفعله الأحياء، ولا يدرك إدراكهم، ولا يخالجه إحساس غير إحساس الألم الذي يعبر عنه بصراخ تحاول والدته تخمين سببه وهي لا تفهم شيئاً من ابنها (طالب السنة أولى هندسة سابقا).
البداية كما تسرد أم محمد القصة كانت عندما انزلق محمد على الرصيف وهو عائد من الجامعة بمحافظة تعز، فأصيب بكسر صغير في الحوض كان مفتاحاً إلى مأساة كبيرة غير متوقعة. أسعف محمد إلى مستشفى خليفة في منطقة التربة بتعز إثر تلك الحادثة. فاقترح المستشفى على الأسرة أن يبقى محمد لمدة شهر في راحة تامة دون أن يحرك منطقة الحوض والجزء السفلي من جسمه عموما، وسيلتئم الكسر من تلقاء نفسه، لأنه لا يزال شاباً صغيراً ولاتزال عظامه قابلة للنمو والشفاء التلقائي.
لكن والده كان حريصاً عليه وفضل أن يسرع ويضمن عملية علاجه بإجراء عملية جراحية لتثبيت العظام بالمسامير، وقد كان يعتزم تسفيره إلى مصر، لكنه تراجع بعد أن قيل له إنها عملية لا تحتاج سفر خارج اليمن، باعتبارها بسيطة، وليس فيها مخاطر ومضاعفات وسوف يعود محمد للمشي خلال أيام كما كانت الأسرة ترجو.

قبل أن يذهب بلا عودة
قدمت أسرة محمد إلى صنعاء من تعز، وكان محمد -كما تحكي الأم- سعيداً بالرحلة وهو يصور المناطق والمدن في الطريق دون أن يعرف ما ينتظره في الأيام القليلة القادمة. ذهبت الأسرة بابنها إلى مستشفى شملان، الذي فضل عدم إجراء العملية، لأنه مستشفى صغير وإمكانياته بسيطة، وقام بتحويلهم إلى مستشفى النخبة، لكونه أفضل مستشفى متخصص بمشاكل العظام، حسب ما قيل لأسرة محمد.
ذهبت الأم بابنها إلى مستشفى النخبة معتقدة أن الأمر برمته لن يستغرق سوى خمسة أيام قبل أن تستعيد ابنها أفضل وأقوى. لكنه لم يخرج من ذلك المستشفى إلا بعد سنة و6 أشهر، وخرج شبه ميت. لم يعد إلى أسرته كما عرفته قبل العملية، بل لم يعد إلى نفسه كما كان يعرفها، هذا إن كان يدرك شيئاً الآن.

ملائكة الرحمة لا تتحرك إلا بملايين الريالات
تم وضع محمد في غرفة الرقود، وتم استدعاء الطبيب (مطهر علي العريقي)، لكنه حسب ما تروي الأم رفض رؤية محمد قبل أن يستلم 6 آلاف ريال، وأضاف: «جاء الطبيب يبايعنا مبايعة!»، وطلب مليوني ريال، أجرة العملية الجراحية فقط، دون رسوم المسامير والرقود والعلاج وبقية الاحتياجات. «إذا كان ابنكم يسوى الـ2 مليون ادفعوا أو اذهبوا وادفنوه حياً»! قال الطبيب هذه العبارة مخاطباً والد محمد وجده، ولم تعرف الأم حينها أكان ذلك سخرية أم مزاحاً أم ابتزازاً لمشاعرهم!
دخل محمد غرفة العمليات وأسلم هو وأسرته جسمه وروحه للأطباء كما يفعل جميع الناس. رهنوا أنفسهم لأمانة وإنسانية وحرفية الأطباء ومسؤوليتهم، بل إن مخاوف محمد وأسرته كانت أقل من غيرهم، كون العملية بسيطة، فليست عملية زراعة كلى أو كبد أو قلب مفتوح.

من غرفة موت إلى أخرى
بدأ الفريق الطبي إجراء العملية الساعة الثامنة ليلا في 7 سبتمبر 2016، واستمرت العملية خمس ساعات كاملة. وقبل العملية طلب المستشفى من أسرة محمد توفير قربتي دم كاحتياط في حالة حصل نزيف، لكن الطبيب طلب بعدها 5 قرب إضافية في ذلك اليوم نفسه، يوم العملية.
خرج محمد من غرفة العمليات ولكنه لم يفق بعد، ونقل إلى غرفة العناية المركزة حيث كان في حالة غيبوبة.
الحيرة والقلق يبتلعان أم محمد مع مرور الأيام، حيث ظلت تنتظر هي وأسرتها اليوم الأول ثم الثاني أن يفيق محمد، لكن بلا جدوى! بدأت الأسرة تسأل الطبيب والذين أجروا العملية كيف حاله ولماذا لم يفق حتى الآن، لكنهم لم يحصلوا على جواب. توجهوا إلى غرفة العناية المركزة ليستفسروا الأطباء هناك، لكنهم ردوا عليهم: «اسألوا الذين أجروا العملية».
تقول أم محمد: «طلبنا من الطبيب استدعاء أطباء لمحمد وإعطاءه أي علاجات والقيام بأي إجراءات علاجية وسندفع ثمنها، المهم أن يفيق ويتم إنقاذه إن كان في خطر، لكن لم يأت طبيب دماغ أو أي طبيب آخر، وكنا حينها في العشر الأوائل من ذي الحجة، قبل عيد الأضحى».

إهمال لا عذر فيه
حوالي شهرين بقي محمد في غيبوبة، في غرفة العناية المركزة لكن دون عناية. تقول أم محمد: «كنت قلقة وأنا أرى آثار جراح على يديه ورجليه ووجهه، لا أعرف ما سببها، وجسمه متصلب، ولم يسمحوا لي بلمسه أو الجلوس بجواره، لأني كنت أحياناً أقوم بالتفتيش عن آثار العملية أو مضاعفاتها في جسمه». وحينها كانت تتساءل أم محمد: هل كان محمد في مستشفى بين أيدي أطباء أم في سجن لا يفقه القائمون عليه شيئاً في الطب وإجراءات رقود المرضى؟! فقد ألقوا به فوق سرير وهو شبه ميت دون أن يتم تحريكه، حتى تقرح جسمه، وتآكل ظهره، فأجريت له عمليتان لعلاج آثار التقرح الذي أصابه بسبب الرقود المتواصل على الفراش. كذلك تيبس وتخشب جسمه والتوت أطرافه. تتهم أم محمد الطبيب بأنه فاقد الضمير والأمانة والأخلاق، فقد كان يهددها بأنه قد يفصل الأجهزة عن محمد ويدعه يموت. «كان يقول لنا: أنا الغلطان الذي أنعشته ولم أتركه يموت! لقد كان يمن علينا بأنه أنعش قلبه، وهو الذي جعله يتوقف أساسا»، تقول أم محمد.
وإلى ذلك الإهمال كله تقول أم محمد: «كنا ندفع كل يوم 150 ألف ريال قيمة العلاج فقط، دون قيمة الرقود والسرير والأجهزة والمبالغ التي ندفعها للمرضين لكي يهتموا به».

((قتلني وبكى))
تقول أم محمد: «طلب منا الطبيب إخراج محمد هكذا ببساطة! من غرفة العناية المركزة إلى المنزل دون عناية أو أجهزة طبية! وبعد أن دخل محمد للعملية بخير إلا من كسر في الحوض طلب منا الطبيب أن نأخذه أو أنه سيرميه في الشارع بعد أن قتله عمليا»!
ذهب الطبيب بعدها ليشتكي بالأسرة في قسم الشرطة، لأنها ترفض إخراج مريضها. ومن هنا بدأت القصة مسيرتها نحو القضاء. شرح والد محمد القصة لقسم الشرطة، وأظهر لهم صور ابنه قبل العملية وبعدها وأوضح أن ابنه في العناية المركزة ومن غير المنطقي أن يخرجه، وكيف أنهم لم يقصروا في الجانب المالي وأنهم عرضوا على الطبيب توفير كل ما يريده من تكاليف مالية، المهم أن يعالج ابنهم ويعود لوضعه الطبيعي. «موقف السلطات الأمنية تغير تماماً بعد أن رأت حالة ابني»، تقول أم محمد، وتم تحويل القضية للنيابة، ثم المحكمة.
بعد أكثر من أربعة شهور من الغيبوبة تحركت قدم محمد قليلا. واستيقظ بالتدريج بعد سنة وستة شهور في الهند، بعد أن داومت والدته على رعايته، لكن وهو لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يدرك، ولا يقوى على الحركة، لا يقف ولا يسير، وجسمه كأنه قطعة من الخشب اليابس، ولا شيء فيه يشير إلى التعافي وإلى محمد القديم، ووالدته هي الوحيدة التي تفهم تمتماته وصراخه.

سلب حياة أسرة كاملة
لم تعرف الأسرة ماذا حدث في غرفة العمليات حتى خطف محمد من بين أيديهم هكذا، إلا بعد سنة وسته شهور، عندما أخرج محمد من المستشفى وتم تسفيره إلى الهند وبقي مع أسرته سنة هناك، حيث تم تشخيص ما حدث له. لقد تبين أن دماغه تعرض لضمور نتيجة نزيف حاد.
تقول أم محمد، التي تتحمل النصيب الأكبر من مأساة ابنها: «سلبت حياتنا مع حياة محمد، فلا شيء قد يسعدنا أو يريحنا وهو مريض وبهذه الطريقة، فهو حبيس السرير وفاقد السمع والبصر والحركة وجميع حواس الإدراك، لا يتكلم ولا يأكل، ويتغذى عن طريق قسطرة على جانب بطنه». تضيف أم محمد: «أصبح مرضه شغلنا الشاغل في الليل والنهار طوال الشهر والسنة». فمحمد يحتاج رعاية 24 ساعة في غرفته التي أصبحت مستشفى صغيراً، «ونحن نتناوب على رعايته طيلة اليوم، وإخوانه تركوا الدراسة وتفرغوا لرعايته. وأكبر معاناتنا هي أن نراه مريضاً ويتألم بهذه الحالة. نحن لا ندري بآلامه الجسدية والنفسية في كثير من الأحيان، وهو يعبر عنها بالصراخ». تضيف أم محمد: «وقبل أيام كان يتقيأ ويعاني ولم نعرف السبب، ورفضت عدة مستشفيات استقباله».
أما الجانب المادي فهو قصة أخرى لأسرة محمد، حيث يحتاج أدوات مجارحة وشرنقات وقسطرات بول وأنابيب تغذية وكثير من العلاجات. تقول أم محمد: «نشتري قسطرات البول وأنبوب المعدة من الهند، ونصرف على علاجه في الشهر حوالي 500 إلى 600 ألف».
وحسب كلام الأطباء فعلاج محمد يحتاج وقتاً طويلاً، وعودة الدماغ للعمل بشكل طبيعي بعد الضمور غير ممكن.

العدالة تكسب معركة وتخسر حرباً
قضية محمد تم فتحها بعد شهرين من العملية الفاشلة التي أجريت له، وقد انتصر القضاء لمحمد وأسرته وأدان المستشفى، حيث أصدرت محكمة جنوب شرق الأمانة حكماً بإدانة الطبيب ومن قام بالعملية إلى جواره وحرمانهم من إجراء العمليات الجراحية أو الاستمرار فيها أو منحهم التراخيص لمدة سنة، وتم تغريمهم غرامات مالية والحكم عليهم بالسجن لمدة عام. وحسب محامي محمد فجميع التقارير الطبية تشير إلى أن المشكلة كانت حدوث خطأ أثناء العملية أدى لعدم حصول الدماغ على التروية، وكذلك الإهمال، وذلك بموجب تقريرين من مستشفيي ماكس وأبوللو الهنديين، وتقرير لجنة التحكيم الطبي، والتقرير الشرعي من مكتب النائب العام ومن المجلس الطبي كذلك.
يضيف المحامي نقلاً عن أسرة محمد أن ابنهم دخل المستشفى ودمه حوالي 15 ونصف، وبعد العملية وبعد إعطائه 7 قرب كان دمه 9. وهذا يجعل المحامي يستنتج أن النزيف كان حاداً، وأن الطبيب لم يستطع السيطرة عليه، ولم يكن بجواره فريق متأهب لأي طارئ، حيث كان يجب أن يكون بجواره طبيب قلب وشرايين تحسبا لحصول نزيف ومساعد طبيب مختص ليساعده عندما يتعب، وفني تخدير كذلك. لكن حسب المحامي (فهد هائل اليوسفي) اتضح أن الطبيب دخل ومعه مساعده فقط وممرضة ليس لديها مؤهل ولا ترخيص.
لكن أم محمد لا ترى أن أي تعويض يمكن أن يكون قادراً على رفع المعاناة عن ابنها أو إعادته إليها وإلى سابق أيامه.
ويبقــــــى محمد ضحية، وليس هناك أي مؤشرات إلى أنه سيكون آخر الضحايا، فأيدي كثير من الأطباء تكون متعبة من عد الملايين قبل أن تمسك مشارط العمليات الجراحية، كما أنها أصبحت تعمل مستعجلة حتى تنهي العمليات الجراحية لتعد ملايين أخرى رسوم عمليات جراحية جديدة.