علي نعمان المقطري / لا ميديا -

يتجلى البؤس السياسي الاستراتيجي الأمريكي أول ما يتجلى في ضعف سياسات واشنطن وتناقضها مع مصالحها العليا وقلة عقل رؤسائها ورجالها، وافتقارها إلى الرجال الحكماء الذي كانوا موجودين بداية عهود الإمبراطوريات، والذين إليهم تعود أسباب النجاحات التي تحققت لها في البداية.
كما يتجلى البؤس الأمريكي الاستراتيجي في افتقارها إلى الاستراتيجية السياسية والحربية الناجعة قبل دخولها في مغامرات حربية عدوانية، مما يجعلها عرضة للفشل والإخفاق، وعلى العكس منها السياسة الحربية الروسية التي تسير دوما في حروبها الاستراتيجية بمسارين وتحقق النجاح على المستويين العسكري والسياسي بشكل مطرد، ومثلها السياسة الإيرانية والصينية والسورية والكورية والفنزويلية والكوبية والعراقية.

ويتضخم مفهوم البؤس الاستراتيجي الأمريكي أكثر فأكثر كلما اقتربنا من الميدان والتاريخ وتوقفنا عند الوقائع والأحداث. وسوف نستعرض عبر مقاربتنا هذه بعض سجلات الممارسة الجنونية الأمريكية من زاوية معينة، وهي افتقارها دوما إلى الحكمة السياسية والاستراتيجية، واتباعها سياسات مجنونة لا تؤدي إلا إلى الفشل والإخفاقات البعيدة الاستراتيجية، وإن حققت نجاحات مؤقتة عسكريا فهي نجاحات محدودة لا يمكن الحفاظ عليها وتأمينها وضمان استمراريتها.

لماذا هذا الجنون الأمريكي؟
في البداية هناك سؤال هو: ما هو الفرق بين الجنون الأمريكي والجنون الألماني والياباني الفاشي؟
والجواب هو: إن الجنون الألماني الياباني كان أقل في نسبته في المجال السياسي الاستراتيجي من الجنون الأمريكي، كما أنه كان مبررا وواعيا من وجهة نظر أصحابه. لكن الشيء المستغرب في مسارات الممارسة الاستراتيجية الأمريكية العدوانية هو خلوها من الحكمة السياسية الاستراتيجية، وأيضاً خلوها من العقلانية، وهو ما يتعارض مع كونها دولة عظمى، إن لم تكن الأعظم في العالم في الماضي على الأقل. جميع الذين غلبوا أمريكا ويغلبونها في الصراع الدولي والتحرري الدائر الآن عبر العالم لا يتميزون عليها عسكريا، بل هي الأقوى عسكريا، من حيث قوة التدمير ووسائلها وأدواتها وقدراتها، ومع ذلك ينتصرون عليها في النهاية، ولذلك أسباب أهمها يكمن في كون أمريكا قوة عدوانية هجومية دولية استراتيجيتها قائمة دوما على الهجوم العدواني ضد الآخرين شعوباً وأمماً، وبالتالي فإن وضعيتها العدوانية هذه تقودها حتما إلى الإخفاق والفشل الاستراتيجي والعسكري عبر العالم، لأنها تضعها في مواجهة ضد العالم المقهور كله في وقت واحد، ولا توجد قوة في العالم يمكنها أنها تسلك هذ السلوك الجنوني، باعتباره منافياً لكل لقواعد والنظريات الموضوعية والعلمية العسكرية، ومتناقضاً مع كل منطق عملي، وهذا غير معقول من قبل دولة تدعي أنها أكثر الدول علمية وموضوعية، وأرض العقل والمنطق والفكر الحر ومنارة التقدم.
إن أول ما تستهدفه الحروب هو وحدة العدو والخصم. وهذا الهدف لا يتحقق بالبنادق والمدافع والطائرات والأسلحة الجافة، وإنما تحققه المناورات والخدع والحيل والمؤامرات السرية التي تحيكها الأجهزة السرية وتتبناها السياسات والتكتيكات الباردة، فالقوة التي لا بد أن تهزمها السياسات الاستراتيجية هي البنى الإرادية والنفسية والعقلية والعلاقاتية والروابط البينية والنسيجية والاجتماعية والرغبة في المواجهة والأمل في النصر، وخلق اليأس والإحباط وبذر الشكوك والنزاع وإثارة الأطماع والرغبات والشهوات المتطرفة والجشع والمنافسات.

مخطط هدم دولة عظمى بالسياسة الاستراتيجية
إن إسقاط الاتحاد السوفييتي من الداخل كدولة عظمى كان أهم إنجاز استراتيجي للسياسة الأمريكية والغربية. وقد وضعت أمريكا ودول الغرب كل قدراتها المالية والسياسية والمخابراتية والتآمرية ـولفترة 80 عاماًـ لتحقيق هذا الهدف المركزي دون توقف حتى تحقق هدفها الكبير في النهاية.
فلماذا حققت أمريكا والغرب هذ الهدف بنجاح دوناً عن بقية المناطق الأخرى التي استهدفتها بحروبها؟ وما هو السر في النجاح الذي تحقق؟
1ـ لأن الاتحاد السوفييتي كان يعاني جملة من أسباب وعوامل صراعية داخلية موروثة عن الحقبة القيصرية.
2ـ لأن بريطانيا العجوز الداهية الاستعمارية الكبرى كانت هي التي أدارت التخريب والحرب ضد الاتحاد السوفييتي وروسيا الجديدة، وتزعمت أكثر من 30 دولة تدخلية استعمارية ضد روسيا السوفييتية خلال العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، وعمدت إلى تفجير الحرب الأهلية الداخلية التي راح ضحيتها أكثر من 10 ملايين شخص واستمرت مشتعلة 4 سنوات، ثم فجرت الصراعات العرقية والقومية ومولتها ودعمت جميع أطرافها، ثم نظمت حملات اختراقية كبيرة شملت المؤسسات والقيادات والشخصيات العامة، أي خلال ربع قرن وأكثر قبل أن تشاركها أمريكا وألمانيا وتركيا والشاهنشاهية وباكستان وفرنسا في الجهد التخريبي الحربي ضد روسيا السوفييتية ومحاصرتها بالأحلاف العدوانية العسكرية، وأدارت بريطانيا حرباً طويلة المدى من الداخل والخارج استمرت ممسكة بزمامها الرئيس حتى الخمسينيات، ثم بعدها تشاركت مع أمريكا وغيرها المخطط، ولكنهم ساروا على ما أسسته بريطانيا وأجهزتها من عملاء وقوى وفئات أنشأتها بريطانيا واستثمرتها بدهاء منقطع النظير.
في مطلع الخمسينيات باعت بريطانيا إمبراطوريتها ومفاتيحها وبرامجها ومخططاتها لأمريكا، مقابل تنازلها عن ديونها لها في الحرب العالمية الثانية، وأصبحت أمريكا القائد الأول والأعلى للغرب. لكن بريطانيا واصلت دورها السياسي الاستراتيجي في إدارة الملفات الحربية السرية ضد السوفييت والشرق باسم الأمريكيين والغربيين كوكيل عملياتي متخصص وبيت خبرة وصاحب قاعدة كبرى من فرق الميدان.
واصلت بريطانيا إدارتهم باسم الناتو كنائب لأمريكا، لكن بعهدتها هي. كانت أمريكا ما تزال حينها تتدرب على الإمساك بشيكات التخريب العالمية البريطانية والألمانية (أجهزتها وكوادرها وشخصياتها وعملائها السريين).
وليس صدفة أن أكبر عمليات التخريب السياسية الاستراتيجية الشاملة في الاتحاد للسوفييتي كانت وما زالت تعتمد على كوادر بريطانيا وعملائها بشكل رئيس. وأهم الأمثلة على ذلك أن أهم الجواسيس الغربيين في الاتحاد السوفييتي كانوا بريطانيين، وأبرزهم المجرم الشهير «لافرنتي بيريا»، وزير أمن الاتحاد السوفييتي خلال عهد جوزيف ستالين، وهو قائد المؤامرة التي انتهت باغتيال زعيم الدولة السوفييتية والصعود إلى موقع قيادة الدولة السوفييتية قبل انكشافه ومحاكمته وإعدامه في عهد خروتشوف. وكان المجرم الكبير الآخر هو الجاسوس البريطاني ميخائيل جورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن المنصرم، الذي كان يتبع الجهاز البريطاني للمخابرات، وقد تمت إزاحته بعد انكشافه عقب إنجازه إسقاط الاتحاد السوفييتي. وقد كان جورباتشوف يعمل وفق توجيهات من السيدة البريطانية مارجريت تاتشر منذ أن كان طالبا في الجامعة البريطانية.
كان الجهد الأمريكي بارزا وقويا في مجال إدارة التخريب الأخلاقي والجنسي والرشوة وتوزيع الأموال المزورة وتمويل قوى المعارضة. ومن الأمثلة على ذلك:
1ـ أطلقت أمريكا أكثر من 3000 قناة إباحية على الاتحاد السوفييتي والشرق تعمل ليل نهار دون توقف، موجهة لجيل الشباب والمراهقين. وهذا ثابت في مؤرخات مراكز الأبحاث الأمريكية نفسها.
2ـ ضخت أمريكا كميات هائلة من الدولارات المزورة (المكررة الأرقام لما هو في السوق الغربي الأمريكي)، وصلت سنويا إلى 150 مليار دولار توزع للعملاء في الداخل لشراء النفوذ والمؤيدين والخونة والمغفلين والمتعصبين والمخربين.
ويمكن استخلاص النتيجة القائلة بأن النجاح في تخريب المجتمع السوفييتي يعود أساساً للجهود البريطانية الاحترافية أكثر مما هي للأمريكيين.
في كل حرب هناك تلازمية ثابتة تجمع بين عناصر الانتصار وبين تلاحم الأرض والشعب والقوة المقاتلة في الميدان، ولذلك تعطى الأرجحية في النتائج لمن له هذ الارتباط أو الالتحام بالأرض والشعب، لأن جميع الموازين والكفاءات تتعدل بموجب هذه القواعد الموضوعية ولو بعد حين.
إن القوة الدخيلة، أياً كانت، لا يمكنها أن تفرض قواعد حربها على الوضع الاستراتيجي المحلي بعيداً عن قواعدها ووطنها ومراكز قوتها. والسبب الأساسي لهذا العجز هو أن القوة الدخيلة تكون محرومة سلفاً من ميزاني القوة الاستراتيجية قبل المعركة اللذين يتمثلان في التفوق العددي والسكاني الشعبي والأرض والمعنويات، فلا يبقى معها سوى ميزان قوة الأسلحة، وهو ميزان واحد من بين ثلاثة موازين وقوى تشكل موازين أي حرب وشروط كسبها، ولا تستطيع وحدها قوة الأسلحة أن تعوض أياً من الميزانين الحاسمين المفقودين.
أمريكا، ومنذ حروب فيتنام وكوريا وحتى العراق وأفغانستان، تتكبد خسائر مدوية وهزائم حاسمة على الأرض نتيجة معاكستها هذه الحقيقة البسيطة الموضوعية ومناقضتها، ولم تتعلم الكثير من دروسها ولا من معانيها، وهي خسائر تتوالى وتقودها إلى انهيارات كبرى في جميع مجالاتها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية. وما تقوم به الآن هو في الواقع انتحار ذاتي وسباحة متعنتة ضد اتجاه التيار التاريخي والموضوعي العام، مدفوعة بأمراض الغطرسة والغرور الفارغ وتقديم مصالح الشركات الاحتكارية الصناعية العسكرية الكبرى على مصالح البلاد والشعب.
الشركات الاحتكارية الصناعية العسكرية لا شك أنها تستفيد وحدها من تلك المغامرات المجنونة، لكنها ليست معنية بالنتائج ما دامت تعمل وتقبض الفوائد والأرباح، ولا أحد يهتم بالنتائج العامة للهزائم، فطبيعة النظام السياسي الأمريكي مصنوعة ومصممة بحيث يتم إلهاء الشعب ومغالطته عن الواقع واختلاق المبررات والأساطير في وقت واحد حول عظمة أمريكا وقوتها وسطوتها وصلابتها، وتتولى الأجهزة الإعلامية والثقافية والفكرية المرهونة بالشركات العملاقة نفسها، تتولى تليين وتكوين المواقف والآراء وفقاً لما تريد إيصاله إلى الرأي العام، ولا وجود لرأي عام مستقل حقيقي في أمريكا يمكن أن يؤثر بشكل حاسم على السياسة.
إن كل محاولات تشكيل رأي عام مستقل ولو نسبي يجري السيطرة عليها بإغراقه المتواصل بالمحيط المهاجر والعنصري والصهيوني والمحافظ والتوراتي المسيحي وببحر المطالب الغريزية الإلهائية والترفيهية. وهناك تفاهم غير مكتوب بين قوى الرأي العام وبين الحكومة القائمة أساسه أن الرأي العام يريد توفير ضروراته الاقتصادية المعيشية، ولا يهمه المصادر والوسائل والأساليب التي تمارسها الحكومة في الخارج ما دامت تحت السيطرة، فأي عدوان أمريكي يتم التمهيد له سلفاً بوعي زائف، قوامه العديد من المبرارات، مثل: العداء للغرب، أعداء أمريكا وقيمها الليبرالية، البلاد المارقة، إمبراطورية الشر، الأنظمة التوليتارية والاستبدادية والثيوقراطية، معاداة السامية، معاداة الحرية الأمريكية...