علي نعمان المقطري / لا ميديا -

أوضحنا سابقاً أن أمريكا فشلت مرات ومرات في أن تجعل مزاياها التقنية والمالية والتسليحية روافع لإسقاط وإلجام فاعلية القوانين الموضوعية الحربية والاستراتيجية، بل حتى وإن عطلتها لبعض لوقت فإن تلك القواعد سرعان ما تعود إلى العمل والتأثير وفرض منطقها الصلب في النهاية.


بأي العوامل نكسب الحروب؟
هل هناك حاجة إلى الحكمة لكسب الحرب؟
بالتأكيد؛ لأن من لا يمتلك الحكمة لا يمكنه كسب الحرب. فها هي أمريكا، التي تتعاطى بجهل وطيش كبيرين مع الحروب وفي السياسة مع الشعوب والأمم الأخرى والمستضعفة، وتتحدى كافة القواعد والأصول، فشلت في كل الحروب التي خاضتها، ولم تستطع تحقيق النجاح في أي منها.
السياسة هي التي تقود الحروب، وليس العكس. والمقصود هنا قيادة الدولة العليا ونخبتها الفكرية والسياسية والعسكرية التي ترسم الأهداف وتهيئ الأجواء والعوامل وتوفر الأسباب وتضع الخطط وتمارس المناورات والتكتيكات والعلاقات والتحالفات الكبرى التي تخلق أسباب الفوز في المواجهات والحروب القادمة، وأهمها اختراق الجبهات السياسية الدولية والوطنية التي يقف عليها الخصم والعدو الرئيسي المباشر.
تقوم استراتيجية الحرب العليا على تفكيك جبهة قوى الخصم وتمتين جبهة قوى الأصدقاء والحلفاء، ويعتبر تفكيك قوى الخصم المستهدف، متمثلة بالقوى الموحدة بين الشعب والجيش والحلفاء والأصدقاء في الداخل والخارج، أهم الأهداف لكل استراتيجية حربية عدوانية وهجومية.
وإذا كانت أمريكا تملك الأسلحة والقوات والقدرات المادية العسكرية، فإنها قد أثبتت فشلاً ذريعاً في جميع ساحاتها التدخلية خلال العقد الأخير الذي أطلقت خلاله حروبا من نوع جديد سمّتها حروب الجيل الرابع والخامس أو الحروب بالوكالة، وبتعبير أدق حروب المرتزقة الإرهابيين المحليين والأجانب الذين يتم تجنيدهم لإسقاط الدول والحكومات الرافضة لهيمنة أمريكا والغرب الإمبريالي. وقد وصل هذا النوع من الحروب إلى فشل استراتيجي في البلاد التي استهدفتها كما حدث في سوريا والعراق واليمن وإيران وفنزويلا وروسيا والصين وأوكرانيا وليبيا ومصر.
ففي سوريا الشقيقة وصل عدد المجندين من المرتزقة الأجانب والمحليين إلى حوالي نصف مليون مقاتل إرهابي جرى نقلهم إلى المنطقة عبر الجو من معسكرات وقواعد كونتها المخابرات ووزارة الدفاع الأمريكيتان عبر العالم. وفي إيران يلفظ المخطط الاستهدافي التخريبي الأمريكي أنفاسه الأخيرة. وفي العراق فشل المخطط التدميري بخلق داعش والتحجج بمطاردته لاحتلال العراق مجدداً. وفي اليمن ها هو العدوان يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد خمس سنوات من الحرب الإجرامية. وفي لبنان يتعثر المشرع التدميري أمام تلاحم القوى الوطنية وقوى المقاومة والجيش اللبناني في وجه المشروع العدواني التخريبي. وفي فلسطين يتعزز محور المقاومة الثورية المسلحة في وجه صفقة ترامب ومؤامراته المدعومة من «إسرائيل» وبعض الأنظمة الخليجية والعربية العميلة والمنبطحة.
كما أن الجزائر بدأت تعود إلى دورها القومي التحرري الاستقلالي بعد أن عبرت مرحلة المؤامرة الداخلية التي امتطت مشاريع الربيع العبري المتأخرة. وفي تونس يتصاعد الموقف العروبي القومي في الحكومة التونسية ورئاستها. وفي الساحة الإسلامية التي راهن عليها العدو الأمريكي طويلاً عبر توظيف أموال البترودولار السعودية لخدمة المشاريع الاستعمارية الأمريكية الصهيونية والسيطرة على الوعي العالمي الإسلامي، ها هي الساحة الإسلامية تنقسم في وجه بني سعود الصهاينة وتنشئ مراكز قوة جديدة خارج السيطرة السعودية الصهيونية القديمة، وهو ما يشير إلى أن الوعي الإسلامي التقليدي يتعرض لهزة جديدة سيكون لها أبعادها وآثارها الاستراتيجية على المكانة القديمة لمملكة بني سعود الشريرة التي كانت تسيطر على الرأي العام الإسلامي بقوة المال والرشاوى وشراء الضمائر وإفساد المجتمعات واستغلال فقرها ومعاناتها الاقتصادية والتحكم بإرادتها وسيادتها. والنتيجة هي أن فشل السياسات الأمريكية في المنطقة والعالم يؤدي حتما إلى فشلها العسكري في المنطقة والعالم، لأن الفوز العسكري مستحيل دون الفوز السياسي الذي يسبقه ويمهد له، فحرب المؤامرات الاستراتيجية الشاملة تسبق الحرب العسكرية الميدانية، وتهيئ لها الفوز والنجاح، وإذا فشلت تلك المؤامرات والمناورات في تحقيق أهدافها المرجوة فإن الحرب العسكرية تصبح مجرد مغامرات مصيرها الفشل والمأساة.

السياسة الاستراتيجية تحدد مصير الحرب
لا شك أن السياسة الاستراتيجية تحدد مصير الحرب، فهذا مبدأ لا جدال فيه، فالجيوش والدول لا تحقق أهدافها العسكرية إلا بالسياسة الذكية الناجحة أولاً، ثم بالعمليات والاشتباكات والمواجهات العسكرية. وما لم تحقق السياسة الاستراتيجية أهدافها وواجباتها الحربية التأسيسية التمهيدية فلا أمل في أي نجاح عسكري. ذلك أن القوى المحاربة لا تواجه الجيوش وحدها في الميادين، وإنما هي تواجه قوى الأمة بأكملها؛ بكل تكويناتها واحتياطاتها وقدراتها البشرية والمادية والمعنوية.
إن هدف الاستراتيجية العليا الذي لا بد أن يحقق قبل الإقدام على تفجير الحرب العسكرية هو مهاجمة باردة للبنية الداخلية التحتية الحربية وتفكيكها وتخريبها وإضعافها وتمزيقها وعزلها عن قوى الجيش المستهدف بالحرب العسكرية. وهذه الاستراتيجية التي يسميها كل من الجنرال الصيني صن ووتزو، والجنرال الألماني والمنظر الأكبر للحرب كارل كلاوفيتش «تحقيق النصر بغير الحاجة للمعركة العسكرية»، وذلك بعد أن أدت الحملة السياسية الاستراتيجية دورها من خلال تمكنها من تفكيك وحدة قوى العدو وفك تحالفاته وإثارة التمرد بين صفوفه والانقسامات بين جماهيره وقواعده وتخريب منظوماته وتشتيت قياداته وإثارة الفتن الداخلية وإيقاظ الصراعات الفئوية القديمة وتوظيفها لصالحه وتغذيتها لتستمر وتتوسع، والتحالف مع أطراف منها ضد أطراف أخرى، وكل هذا يؤدي إلى استنزاف البلد المستهدف وإضعاف قواته وجيشه، فيكون من السهل تحطيم مقاومته وتدميره والسيطرة عليه في النهاية. وتعرف الجيوش مصيرها سلفا قبل المعركة عندما تقوم بقياس مدى التأييد الشعبي لها، ومدى ما يحظى به العدو من تأييد من قبل شعبه وأمته، فمن الشعب والأمة تتكون القوى الاستراتيجية الحقيقية التي تخلق الجيوش وتهيئها للحرب وتتحمل أكلافها.

التاريخ خير معلم
إذا عدنا إلى التاريخ، سنجد أن الدول والقوى التي خسرت حروبها رغم تفوق قوتها المادية والعسكرية على خصومها، كان ذلك بسبب سوء سياستها، وفشل تلك السياسة وعجزها عن تحقيق أهدافها ومهامها ووظائفها الاستراتيجية والقيادية الخلاقة. فالحرب يفوز فيها ذوي العقول الذكية الخلاقة، والإرادات الحديدية، والنفوس النبيلة الكبيرة الهمم، والقلوب الشماء ذات العزم والصبر، والحيل والخدع الكبرى، فالحرب خدعة، أي أنها أولاً حرب نفسية وعقلية وروحية، غير مرئية وغير مسموعة، وتستطيع أن تعرف نتائجها من مقدماتها.

دروس «صفين))
من المهم العودة قليلاً إلى بعض صفحات التاريخ القديم لاستخلاص الدروس منها، فمثلاً لنراجع ما حدث لجيش الإمام علي يوم صفين.
في يوم معركة صفين وصل الجهد العسكري إلى غايته وإلى ذروته محققا انكسارا في جيش العدو الأموي الذي تضعضعت صفوفه حتى شارف على الهزيمة المحتمة، فقد كانت قوى الإمام علي (رضوان الله عليه) على أعلى مستوى عسكري وعددي ومعنوي لتحقيق النصر عسكريا، لكن فجأة انقلبت المعادلة السياسية بالمناورة التي فجرها المعسكر الأموي استعدادا لتلك اللحظة الحاسمة، وعندما سأل معاوية عمرو بن العاص عن جدوى رفع المصاحف في مواجهة ذي الفقار وجيش الأشتر وهو على بعد أمتار من الفسطاط، أجاب ابن العاص بما معناه أنها دعوة إلى الحوار فتنقسم آراء الصف الآخر، ويتأخر الحسم، من باب الحصول على الوقت وإثارة الفتنة في أوساط الخصم القوي وخلق الفرقة، فيكف السيف عن معاوية، ويعود ليوجه السيف إلى جيش الإمام علي، أي إلى رقاب ونحور بعضهم البعض من قبل المنقسمين والمخدوعين والمفتونين.
وهذا ما حصل في النهاية، فجيش الإمام علي لم يهزمه الأمويون، لكنه تعرض لحرب السياسة التي قسمته وفتت وحدته. وبالمقابل لم يكن جيش الإمام علي يحسن السياسة والخدعة ضد عدوه، لأن أمراً كهذا لم يكن مقبولاً في أخلاقه، فالوصول إلى قادة وشخصيات في جيش الإمام علي والتأثير السياسي عليهم وتصفيتهم في الطريق بالسم وغيره واختلاق خلافات بينهم وبين قيادتهم كلها كانت من الحرب السياسية البارعة التي عوضت الأمويين ضعف جيشهم، بعدها تم اغتيال الإمام علي، القائد الأعلى للجيش، ثم مخادعة الإمام الحسن وجعله يتنازل عن الخلافة لمعاوية حقناً للدماء وإلزامه بالعودة إلى المسلمين، ليتم بعد ذلك تدبير اغتياله بالسم سراً واستقطاب شخصيات اجتماعية إلى صفوفهم. كل ما حصل كانت حرباً سياسية أدت إلى تحقيق معاوية انتصاراً دون اشتباك عسكري كبير ومباشر.
كان معاوية ومعه عمرو بن العاص يعرفان أهمية الحرب السياسية ومكائدها، وكيف أن بإمكانهما أن يعوضا ضعفهما العسكري باللجوء إلى الحيل السياسية والمكيدة والخداع.
الخطأ الآخر تمثل في عدم استغلال الفرص للتخلص من العدو في المعركة، ففي معركة صفين كما في معركة الجمل لاحت الفرصة لتصفية عمرو بن العاص ومعاوية بالسيف خلال الاشتباك، ولكن أخلاق الإمام علي أبت عليه أن يستغلها فتركهما.
مثل هذه السياسة في المعركة لم تكن تصلح مع هذ النوع من البشر الأشرار الذين يلعبون على مساحة أخلاق العدو، فماذا لو كان الإمام علي أغمض عينيه وهو يضرب عمرو بن العاص في معركة صفين، ليشقه إلى نصفين، وينفذ الفعل ذاته مع معاوية، وأمثالهما؟! فهي الحرب، حرب بادر إليها العدو نفسه.
في الحقيقة يمكن القول بأن هذا التسامح الأخلاقي العالي النبل هو ما ساعد العدو على نجاحه في تنفيذ حيله وخداعه على جيش الإمام علي.