علي نعمان المقطري / لا ميديا -

الحرب إما أن تُخاض بكل جوانبها ووفقا لقواعدها ومقتضياتها وشمولها، وإلا تعرضنا لخسارتها، ولن تنفعنا أخلاقنا ولن تشفع لنا هزيمتنا النبيلة أمام من لا يعرف الخلق والمروءة، فسماحة الإمام علي فهمها العدو بأنها ضعف يحسن استغلاله والنفاذ منه، مطمئناً إلى رحمته ومروءته. وقد قال الأشتر النخعي: «علي سيقتله عدله».

دروس من معارك الرسول
في غزوة الأحزاب كانت الغلبة العددية في صف العدو الذي حاصر المدينة بجيش كبير هو الأكبر من نوعه في جزيرة العرب منذ عقود طويلة، لولا التكتيك العسكري الدفاعي الذي اقترحه الصحابي الجليل سلمان الفارسي، منقولا عن تجارب فارس الحربية التاريخية، فقد سورت المدينة بحاجز يتمثل في خندق طويل يمنع هجوم العدو من اقتحام المدينة ويحول دون استغلاله لمزاياه الاستراتيجية الوافرة عدديا وماديا وسياسيا.
وكان الرسول الكريم (عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم) قد تصرف كقائد داهية، وعبقري فذ، ومحارب وسياسي في وقت واحد، واسع الرؤية والحيلة بشمولية، حيث قرر أن يحدث متغيرات في توازن القوى في صفوف العدو قبل الاشتباك المباشر، ويعيد التوازن مجدداً إلى ما كان عليه قبل تحزيب الأحزاب واليهود في كتلة واحدة ضد الرسول والمدينة.
وبالتالي فقد كان تفكيك الوحدة بين الطرفين الحليفين الكبيرين للعدو، يعد أهم هدف استراتيجي لا بد أن يسبق الاشتباك العسكري المباشر، ولذلك تجنب الرسول الكريم المواجهة الهجومية غير المتكافئة عسكريا، واتخذ تكتيكا دفاعيا أولاً، أي أنه قرر خوض حرب سياسية وعسكرية مشتركة محدودة لتعديل التوازنات وترجيحها لصالح المسلمين عبر تحريك مسارات تسللية هدفها تدمير وحدة العدو واستهداف حلقة الضعف في سلسلة تحالفاته الجديدة، أي اليهودية العربية المشركة. 
لذلك اتبع خطة التفريق بين اليهود وبين حلفائهم قريش، بإثارة الشك فيما بينهم عبر عدد من كوادره السياسية والأمنية لخلخلة صفوف العدو حسب تكليف الرسول لهم.
كانت ضربة الإمام علي قد هزت كيان العدو وأحبطت معنوياته، وهي الضربة التي شطرت أعظم فرسانهم وأقوى محاربيهم، وهو عمرو بن ود العامري الذي استطاع اجتياز الخندق وبجرأة بالغة مع عدد من نخبة فرسانهم الكبار يطلبون المبارزة في تحدٍّ واستهتار ولا مبالاة بالخطر.
وما إن ضرب الإمام علي ضربته تلك التي شطرت فارس العدوان وأردته صريعا، صُعق الباقون وفروا مذعورين من الميدان يلتمسون السلامة، واقتنعوا بمواصلة الحصار حول المدينة بدلاً من الاقتحام والمغامرة، مما وفر للمسلمين فرصة ذهبية ليشنوا حربا سياسية مضادة، باردة وخاصة وسرية داخل صفوف العدو وخلف خطوطه الداخلية وإثارة الخلاف والانقسام والشك بين قواه المختلفة واستغلال تناقضاته ومصالحه المتباينة.
سار النبي الكريم على مسارين للضغط على العدو، المسار الأول هو ضربات ذي الفقار القاطعة والماحقة والتي تسببت بإثارة الذعر في نفوس القادة الميدانيين لجيش العدو.
والمسار الثاني تمثل في التسلل والتوغل إلى مؤخرة العدو من قبل عناصر مسلمة، تخفي إسلامها عن العدو، متظاهرة بأنها معه وفي صفه، مهمتها إثارة الشكوك بين أطراف العدو بعضهم على بعض، وتفجير الخلافات الكامنة والدفع نحو تفكيك جبهتهم وضعضعتها وانقسامها على نفسها، فقد كان لا بد من الحرب السياسية لاستثمار ما هو ممكن لتحقيقه في جبهة العدو، الأمر الذي أثمر إيجابياً وأدى في النهاية إلى تراجع المحاصرين وفشل الحصار دون أن تحدث معركة عسكرية مباشرة، أبعد من المبارزة الشهيرة.
وقد تفجر الخلاف بين الأحزاب (الحلفاء) في صفوف العدو ليؤدي إلى يأس المحاصرين وعجزهم عن الاقتحام، وقد ولد معادلات جديدة بين الطرفين أهمها الشعور بالتوازن الحرج، وبدأت العديد من القوى تتسلل من معسكر العدو.
كانت قوى الأحزاب (الحلفاء) تتكون من العرب المشركين ومن اليهود المجاورين ليثرب وما حولها، وكان اليهود هم الذين رجحوا كفة العدو وشجعوه ومولوه ودعموه، ولذلك كان الانقسام بين الحلفاء العرب واليهود وحده كافيا لاختلال تفوق الأحزاب المشركة وفقدانهم أرجحيتهم السابقة، وبالتالي انهارت وحدة تلك القوى التي كانت في ذروتها بداية الحصار على المدينة، وسقط الحصار وعادت قريش إلى معاقلها، وقد أفلت من يديها قرار مواصلة الهجوم على يثرب والقضاء على الدين الجديد في معقله وفي مهده.
وقادت هذه المناورة إلى ولادة فرصة استراتيجية للمسلمين ليبادروا إلى تصفية الوجود اليهودي العسكري في منطقة المدينة وما حولها ومعاقبته على خيانته للمسلمين ونكثه بالمعاهدة الموقعة بينهم بداية الهجرة، وتصفية القوى العسكرية اليهودية. تم ذلك للمسلمين دون أن يواجهوا اصطفاف المشركين العرب مع اليهود حلفائهم. وهذا من نتائج الحرب السرية السياسية الظافرة التي شنها المسلمون بنجاح.

توسيع التحالف الإسلامي
في مطلع هجرته إلى يثرب أقام الرسول تحالفات مع جميع سكان المدينة من عرب ويهود ومسلمين وغير مؤمنين، وصاغ معاهدة ألزمت الجميع أن يقفوا جميعا جبهة واحدة ضد أي شر قد يتهدد المدينة. وكانت هذه المعاهدة التي خرقها اليهود هي أساس السياسة الدولية التي أسسها الرسول في المدينة المنورة. وبهذا حقق أهم شروط نجاح الحرب القادمة مع العدو الرئيسي، فقد كان هناك عدد من القوى المحيطة بالمدينة كان من الممكن أن تتحالف مع العدو في المستقبل. ولكي لا يحصل هذ التحول عمل الرسول الكريم على أن يحيد ويصالح ويهادن هذه القوى، من أجل أن يبقى العدو الرئيسي وحده معزولا عن حلفائه الطبيعيين فيسهل تدميره.
ما قام به الرسول الكريم يعد نموذجاً فذاً للحرب السياسية الظافرة التي تخلق الظروف لحشد الحلفاء، لما من شأنه منع العدو من الوصول إلى حلفائه، وتعزلهم عنه بحلقات من المناورات والتكتيكات غير المرئية وتضمن الأرضية الملائمة لنجاح الحملات الحربية القادمة.

نابليون سقط بخسارته السياسية
تمكن نابليون بونابرت من اجتياح أوروبا كلها عسكريا بنجاح تام مذهل وقهر جميع الجيوش وخضع له الملوك والأمراء خلال فتره قصيرة، وفرض هيبته على جميع حكام وشعوب القارة، وهو ما لم يحدث من قبل لأي قائد منذ الإمبراطورية الرومانية. غير أن مشكلة تلك العبقرية العسكرية الفذة التي لم يعرف التاريخ لها نظيراً منذ الإسكندر الأكبر وهانيبال هي أنها نمت عسكريا وحربيا إلى المستوى الذي لا يبارى، لكنها سياسيا كانت فقيرة في تكوينها الفكري الاستراتيجي.
نابليون كان يمتلك عقلية عسكرية فذة، ويحتكر معرفة وإدارة جميع الأجهزة العسكرية الرئيسية بين يديه وكل القرارات والخطط والعمليات، إلا أنه لم يكن يمتلك جهازاً سياسياً موازياً، فقد تصور نفسه إمبراطوراً رومانياً أو إغريقياً تقليدياً يدير كل السلطات بين يديه، ولكنه أسقط أهمية الحرب السياسية الاستراتيجية التي تسبق الحرب العسكرية وتحميها وتؤمنها.
لقد كان نابليون، من بين كل الفرقاء المتصارعين في أوروبا، أكثرهم حاجة للسياسة، لم يدرك أهميتها خلال نجاحاته الحربية الأولى، قبل أن يتعلم الأوروبيون من فشلهم أمامه كيف يواجهونه بالجمع الخلاق بين السياسة والحرب العسكرية والاستراتيجية. وكان الألمان والإنجليز هم رواد هذا التقدم السياسي الاستراتيجي في العصر الحديث، وأبرز ما كان يتميز به قادتهم أنهم مستعدون للتعلم من أعدائهم ومن هزائمهم، فقد أدركت النخب السياسية العسكرية الواعية في البلدان الأوروبية أن نابليون يحقق نجاحاته باعتماده على قدراته العسكرية والقيادية وحدها دون توظيف ناجح للسياسة، وفهموا أنها نقطة ضعفه القاتلة التي استخدمت جيداً ضده، وهذا ما استغلته بريطانيا وألمانيا جيداً، فقد عملتا على عقد تحالفات مع جميع القوى الأوروبية التي هزمها نابوليون، كما استغلت بريطانيا قدرتها البحرية المتفوقة في التصدي للسفن الفرنسية وتجارتها بهدف حصار نابليون. وفي ألمانيا البروسية كان لافتا ذلك الالتفاف بين النخب القومية الوطنية الألمانية حول الملك المهزوم عسكريا أمام نابليون وتظاهره بالاستسلام، بينما كان في السر يواصل مع النخب بناء استراتيجية عسكرية جديدة أساسها الإعداد الذاتي عسكريا وسياسيا وانتظار الفرصة لمواجهة نابليون بعد ضعفه وخسارته أمام خصوم كبار قادمين، خاصة روسيا والنمسا وبريطانيا، وهي حروب لا بد أن تتيح فرصاً استراتيجية لصالح انتفاض الألمان ضد الوجود الفرنسي المسيطر. وكان هذا نموذجاً للحرب السرية السياسية التي تشنها قوة مقهورة فتمهد الظروف والشروط الأساسية وتخلق الاستعدادات الضرورية دون أن تثير انتباه العدو. 
وقد جاءت تلك الفرصة فعلا بعد هزيمة نايليون في موسكو وعودته مخذولا، حيث بادر الألمان بقيادة ملكهم للانتفاض ضد الفرنسيين وتحرير البلاد التي كانت مقدمة لتحرير كامل أوروبا وملاحقة نابليون إلى عاصمته باريس وإجباره على التنحي عن الحكم وإعادة الحكومة السابقة إلى فرنسا مطلع القرن التاسع عشر.

تصديع جبهة العدو هدف سياسي استعداداً للحرب
لا تستطيع أية قوة عسكرية القيام بواجبها الحربي في ميدان المعركة إذا لم يسبقها قيام القيادة السياسية العليا بإنجاز خطتها السياسية الاستراتيجية العليا الممهدة للحرب العسكرية، والتي تؤمن سلفا للجيش المحارب تقليص صفوف قوى العدو المستهدف، وتحطيم تحالفاته الداخلية والخارجية، وتشتيت صفوفه وإثارة صراعاته ومفاقمة تناقضاته وإضعاف سيطرته الجيوسياسية والاجتماعية والإقليمية، وتأزيم أوضاعه الاقتصادية والتموينية والأمنية، وتفجير أزماته الأمنية والمالية والطائفية والمذهبية، وإثارة الحروب الأهلية والمناطقية والبينية داخله.
إن التقدم على هذا الصعيد وحده هو الذي يظهر لنا ما إذا كان البلد أو القوة المستهدفة قد أصبحت جاهزة ومهيئة موضوعيا لخسارة الحرب والضغط الموجه ضدها، أم أنها ما زالت صلبة ومتماسكة وقادرة على تعبئة احتياطاتها البشرية والمعنوية والمالية والاجتماعية والحربية والقيادية والسياسية والالتفاف حول قضيتها الدفاعية، وبدون هذ التغير الحاسم في البلد المستهدف تصبح جميع الحروب العدوانية الموجهة ضده مغامرات استنزافية خاسرة. وفي نهاية المطاف فإن تصديع التحالفات أو تقويتها وتمتينها هو محور الحرب المركزي الاستراتيجي والسياسي.

14/2/2020