عفاف محمد / لا ميديا -

عندما ينضج الوعي ويرتبط رأساً بالله فإنه يضخ في الروح سمات جليلة، ولعل الجانب الأدبي كان قد اتصل بهذه الروحانية فأنتج إبداعاً، حيث الثقة بالله مستمدة من ثقافة قرآنية عظيمة أنتجت عملا صادقا يترجم حالة شعورية تصاغ وفق ما يليق بها من أفكار وخواطر.
وقد تفاعل المثقفون مع الأحداث المتسارعة التي كانت عصارة 5 سنوات منذ أن شن التحالف الشرس غاراته في الليلة الأولى، ومن بعدها أتى على الأخضر واليابس، وقد أكد رواد الثقافة اليوم تفاعل الروح الجهادية المتشبعة بالهدي القرآني، وكذلك أكدوا يمانية الإيمان، وكان هدفهم التثقيف القرآني وتعزيز الهوية اليمنية واستقلال القلم اليمني.

وكانت القدرة الإلهية مكنت المجاهدين الأشاوس من اجتياز كل الصعاب، وكذلك الشعب الصامد بانتصارات ساحقة وصمود أسطوري، فما كان من رواد الفن الأدبي لغة وشعرا وزاملا وإنشادا إلا أن صاغوا ذلك بأبدع اللوحات الفنية والأدبية. 
وفي عمليتي "نصر من الله" و"البنيان المرصوص" انسابت روائع الشعراء لتصف عظمة هذا النصر، مفاخرين بالشجاعة والإقدام لرجال الله وممرغين أنوف الأعداء، منكسين كبرياءهم، ومذكرين بهزائمهم النكراء، واليوم نحن وإياكم نطوف في ربوع قصيدة بركانية عن عملية "البنيان المرصوص"، ومع شاعر يعد من الأصوات والأقلام النبيهة بالكلمة، شارك في صنع البيئة الثقافية، وممن أذكوا جذوة المنطلق الفكري وأشعلوه.

أبدع الشاعر حميد الشليف في قصيدته التي هي بعنوان "مفاخر النصر"، فاخر فيها بالنصر الأسطوري الذي تحقق على أيدي أسود الله في الميدان، وسحقهم للعدو، واسترجاع مساحات شاسعة من أيدي العدو ومرتزقته، ونجد أن لهذه القصيدة أثراً فنياً يكمن في التبصير والانتشاء بالانتصارات. شاعرنا هو ممن واكبوا أحداث العدوان بقصائد ملتهبة تعكس حبه وولاءه للوطن ووعيه الكامل ورأيه السديد، ولا تخلو قصائده من الوعي الاجتماعي، والثورية السياسية والعسكرية التي هي حقله، حيث هو خريج كلية الشرطة، وفي قصائده ينتج هذا الشاعر مضامين عصرية في سياق التاريخ الفكري والاجتماعي، وقد استحدث في قصيدة "مفاخر النصر" أفكاراً لا تخلو من جدة الرؤية الثابتة، والتصنيع اللفظي المعاصر، وقد زوملت هذه القصيدة بصوت المنشد عبدالملك المؤذن الذي عرف الجميع جمال صوته ودقة أدائه من خلال مسابقة الرسول الأعظم للعام الفائت، وهنا اجتمع جمال الصوت مع قوة الكلمة في عمل فني بديع.
وهنا نطل عليكم من نافذة هذه القصيدة، ونحلق مع معانيها المتقدة بالحرارة الوطنية والمتشبعة بالروح الإيمانية طويلة النفس:

مفاخر النصر في التاريخ تتلخص
في قاب قوسين نصرك يا يمن منصوص
أنصار ربي بنوره والهدى تختص
من ناصر الله يلقى وعده المخصوص
كمّن مجاهد سميدع صيرمي يرهص
يلقي الأعادي تغوّص في دماها غوص
يحمل مبادي عظيمة فالجهاد اخلص
وكل غازي يسوقه للثرى مهصوص
فتيان باعوا من الله للوطن تحرص
وترتوي عز من ثدي الوطن مخلوص
رصوا العتاد والغنايم واسلحتها رص
من سبعتعشر لواء ذي صبحت مرهوص
أرواحهم في سبيله والدماء ترخص
في صف واحد كما بنيانه المرصوص
في ظل قايد علم هص التحالف هص
واتساقطوا مثلما أوراقه المقصوص
الحق حصحص من أصحاب الضلال اقتص
وابصار حلف المهانة والردى مشخوص
ومن تربص لشعبه في دماه اغتص
وساقها للخيانة يصبح المنقوص
المرتزق للهزايم سار متخصص
حد منهم فر وحد أسرى وحد مقنوص
في رهقة الذل حلف الشر يتنغص
من عقب ما شاف مختم جيشه المنغوص
وما نلحظه بداية هو القافية الصادية المتميزة، والتي تمتلك جرساً موسيقياً متناغماً يشد المتلقي.

استوحى الشاعر كلماته من مخزونه اللغوي الخصب، وقد أجاد إيصال الكلمة والفكرة بأسلوب بليغ وبديع، انسابت كلماته واصفة المشهد بسلاسة واقتدار، وسهل على الشاعر إيصال رسائله القوية من خلالها، وبطريقة فنية أوصل الفكرة بشكل أعمق مما هو ظاهرها، فباتت رسالته تحكي عمق صدقها وعنفوانها.
زخرت هذه القصيدة بصور شعرية جميلة مثل "تغوص في دماها، يسوقه للثرى، يرتوي عز، من ثدي الوطن، تساقطوا مثل الورق" وغير ذلك، مما أكد براعة وبلاغة وفصاحة هذا الشاعر ابن نهم العصية، التي تعد بيئة خصبة للشعراء الأفذاذ، والرجال النشامى، من تنبض قصائدهم بالبلاغة، وتعتبر قصائدهم لجاما للعدو ولكل من رام اقتحام حصونهم المنيعة. 
وهكذا ارتفعت هذه القصيدة لمستوى آخر مع زوملتها، وهو ما جعل الجمهور يتذوقها بشكل خاص، وذلك نقل القصيدة من نسق إلى آخر، وتحت ضوء جديد وساطع، بصوت صافي النبرات وقوي الذبذبات، يلخص لواعج نفس الشاعر ويبثها بشكل مرغوب.