علي نعمان المقطري / #لا_ميديا -

في ضوء النتائج المتوفرة الآن بعد ربع قرن من العدوان، وبعد خمس سنوات من المعركة العدوانية الجديدة، يمكن القول بأن ما أنجزته القيادة الثورية اليمنية طول تلك المدة يتم تقييمه وتحديده من خلال ما تحقق على الأرض، أرض الميادين ومجالات الإنجازات الكبرى التي جعلت الانتصارات ممكنة وواقعية، ونلمسها في التوازنات التي تحققت بين القوى وعلاقات القوى فيما بينها ومآلاتها وفي المساحات والمواقع الاستراتيجية، وفي حجم التمددات والانحسارات التي حققتها قوانا على الأرض وما زالت تحققها كل يوم، وفي التحول من الدفاع إلى الهجوم، وفي التمدد على مستوى الجو والفضاء والبحار والسواحل، وفي تعزيز السيطرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية والعسكرية والشعبية والتموينية والصحية والثقافية والفكرية والنفسية والإدارية والدستورية والقانونية.

بنية الصمود الوطني
كانت القيادة اليمنية الثورية تدرك طبيعة الحرب العدوانية الجارية، وتدرك جميع أبعادها السياسية والاستراتيجية العسكرية، وتفهم مخططاتها وأهدافها البعيدة والقريبة، وتفهم بشكل واضح طبيعة التحديات التي تواجهها منذ وقت مبكر، فلم تفاجأ بالعدوان حين انطلاقه، ولم تفاجأ بالمخاطر التي واجهتها، لأنها كانت تتوقعها بوعي شامل، تتوقع القادم بعقلية ثورية علمية تقدمية مبنية على حسابات دقيقة، فلم تضع القيادة الثورية أقدامها على خطى النهضة الوطنية الجديدة منذ العام 2011 إلا بعد إجراء حسابات استراتيجية مستقبلية دقيقة وواضحة تستوعب التحديات المحتملة والمؤكدة، وتستوعب مخططات العدوان التي كان يتم التحضير لها منذ وقت مبكر، كما أوضح العميل هادي نفسه حين أكد أنهم كانوا قد استعدوا للعدوان الصاروخي الخارجي الإمبريالي منذ أن صعد إلى الرئاسة، ومن قبل أيضاً، أي منذ أن خسر النظام السابق الحرب على صعدة وتراجعت قواه نحو عمران والعاصمة، بل إن التدخل الأجنبي كان واضحا خلال الحرب على صعدة وفي أيامها الأولى، وأصبح قيد التخطيط منذ ذلك الوقت. 
فقد أصبحت الإمبريالية العالمية والرجعية السعودية أمام مهمة القضاء على الحركة الثورية الأنصارية، وهي ما تزال في عقر دارها وفي مهدها، قبل أن تنتشر إلى بقية مناطق اليمن. وكانت العمليات الاستفزازية والتخريبية والاحترابية التي سبقت الأحداث الكبيرة كلها تمهيدات للعدوان وخلق المبررات له على صعد مختلفة، عسكريا وسياسيا وقانونيا. وكانت جميع إجراءات وتحركات الدول الإمبريالية الراعية للمؤامرة الخليجية كلها تستهدف التمهيد والتحضير للعدوان، وأن تضمن له الفوز والنجاح في مختلف مراحله، ومنها مواصلة تفكيك الجيش اليمني وتدمير الصواريخ والطائرات الحربية اليمنية ونقل الصواريخ الثقيلة من العاصمة بعيدا نحو مناطق الجنوب. كل تلك التحركات تأتي ضمن تمهيدات ومقدمات العدوان وخلق الشروط الملائمة لنجاحه وتعطيل كل احتمالات مقاومته وإعاقته بأي شكل من الأشكال.
إذا كانت مخططات العدوان قد ظهرت منذ وقت مبكر سبقت انطلاقه بعدة سنوات، فإن القيادة الثورية تُضع الوقت هباءً، بل شمرت عن سواعدها وجهدها واستغلت كل لحظة في الإعداد والاستعداد للحرب القادمة وللحصار الطويل القادم وهو الأطول في العالم، وربما يمتد لعشرات من السنين قبل حسم الحرب لصالح الوطن المعتدى عليه.

القيادة تخطط للفوز في المواجهة الاستراتيجية
لقد خططت القيادة الثورية ـوبنجاح قل نظيره- لصمود سنوات طويلة، ولكسب الحرب الوطنية في النهاية، وإعداد كامل العدة وفقا لحسابات استراتيجية وتكتيكية دقيقة لم تكن في متناول أو طاقة أجهزة وقيادات دول كبرى، وقد أظهرت صدقها وقوتها ودقتها التطورات والمعارك اللاحقة والتحديات الكبرى التي لم تتكشف معلوماتها مباشرة، ولكنها ظلت تظهر تباعا مع تطور الأحداث ومرور السنوات، خاصة أن العدوان قد كشف الآن -على لسان هادي نفسه- أنه أعد للعدوان الكبير على اليمن منذ العام 2012، مع أول زيارة قام بها هادي إلى الرياض والتقى هناك مع الملك عبدالله والسفير الأمريكي فايرستاين الذي كان باستمرار كأنه ظل هادي ومستشاره ومرجعيته، وحينها شكلوا قيادة عمليات عليا مشتركة برئاسة الجانب الأمريكي في الرياض.
والأهم والأخطر في ما جاء على لسان العميل هادي هو ما أورده في مقابلته مع صحيفه "عكاظ" السعودية قبل عامين، حيث ذكر أن الملك عبدالله قال له بحضور عدد من إخوته، كبار الأمراء ووزراء الحكومة السعودية، إنه ظل يطلب من أمرائه وإخوته ويشير عليهم طوال العشرين السنة الماضية أن يقصفوا تلك القوات اليمنية المناهضة للسعودية، نظراً لنفوذها ودورها في صعدة وصنعاء واليمن عموماً.
منذ عشرين سنة والملك عبدالله يطالب بقصف القوات اليمنية من الجو والبحر بالصواريخ، ولكنهم -كما يقول الملك عبدالله- كانوا مترددين قبل البدء والإقدام على العمل، يخططون وينتظرون الإشارة والطلب الواضح من السيد الدولي وخلق الأسباب والمقدمات والشرعنة للعدوان وتبنيه في سياق مشروع احتلال متكامل وشامل، ولذلك جرى التمهيد له سياسيا وشعبويا وأمنيا، وهو ما حدث فيما بعد، مع مجيء هادي إلى الحكم، بل إن مجيء هادي إلى الحكم كان خطوة في سياق ذلك المخطط العدواني القديم وهدفا قد حدد لأجل إنجاز شروط التدخل الأجنبي وتبريره وشرعنته والقبول به من قبل قسم من الشعب.
وليس في هذا تبرير لمواقف من سبقوه أبدا، لأنهم أصلاً كانوا قد أصبحوا كروتاً محروقة، ولم يعودوا قادرين على إقناع الشعب بالقبول بالمؤامرة وإخراجها بشكل مناسب، نظراً لانعدام مصداقيتهم في نظر الشعب، وهو ما تطلب الإتيان بأدوات جديدة تنفذ بقية المخطط الكبير الذي يعود إلى مطلع التسعينيات. وهذا التأكيد للملك عبدالله بأن العدوان قد خطط له منذ عشرين عاما قبل هادي، كما قال هو نفسه، وهو يشهد على حقيقة قدم مخطط العدوان الشامل وعلى نوايا الإمبريالية الأمريكية والرجعية السعودية التي كانت تطمح دوما إلى وضع اليمن كله تحت إبطيها تدريجيا عبر مخطط طويل المدى يشمل مراحل وأطواراً زمنية عديدة، كانت المرحلة الأخيرة فيه هي مرحلة هادي والمناورة السعودية الخليجية والربيع العبري القطري. هذا المخطط جوهره ابتلاع اليمن تدريجيا وسلخ أجزائه على مراحل. وهذا يكشف لنا مدى ضخامة وخطورة العدوان ومشاريعه الجارية على الأرض التي تتوسل أدواته من الداخل والخارج من كل لون وطراز وشكل مستندة إلى الانقسامات والاحترابات التي أعدتها سلفا حتى يبدو التدخل مطلوبا وضرورة لحفظ السلم والأمن الدوليين وحقوق الإنسان.
ومن هنا فإن القيادة أعدت لمواجهة العدوان، ولم تدع الأمر للمصادفات، ولم تقدم على أمر إلا استعدت له بشكل كاف، وهيأت الأسباب الضرورية التي تضمن لها الفوز بإذن الله، وإلى الآن لم نر بلادا محاصرة حصارا شاملا واستطاعت التكيف والصمود والنجاح كما هي اليمن اليوم، وهذه قصة إعجازية بذاتها، وفي المستقبل سيتم كشف أسرارها للناس ليعلموا حجم التحديات التي واجهتها القيادة والوطن وأبناؤه المكافحون والمدافعون الغيورون على أرضها.
تمكنت القيادة الثورية -سلفاً- من حل ومعالجة أخطر القضايا المتصلة بالصمود والبقاء والدفاع الوطني، من أبسط الأشياء إلى أكثرها تعقيدا، وفقا لرؤية تنبؤية علمية تخطيطية تستند إلى أكثر التجارب والخبرات العالمية والوطنية نجاحا، ومن ثم كسبت المعركة الخارجية والداخلية في وقت واحد وتمكنت من تجاوز الفجوات والأزمات والانكشافات المحتملة استراتيجيا.
تجاوزت القيادة الثورية نوعيا قدرات العديد من الدول الكبيرة القوية التي تعرضت لمثل هكذا عدوان، فهذه الدول الكبيرة والقوية عانت الكثير من المصاعب والاضطرابات، ولم تتمكن من الثبات إلا بصعوبة بالغة وبأثمان هائلة من التكاليف والتضحيات، تضحيات الشعب والجيش والدولة، ومنها معاناة الجوع المخيفة والتشرد والبؤس الفظيع والفقر إلى الحد الذي وصل فيه الناس إلى أكل أوراق الأشجار والأخشاب، كما حدث خلال حصار الألمان لبعض المدن السوفييتية مثلا. كما ألغيت النقود في سياق انهيار مالي اقتصادي شامل خلال الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية والتدخلية، وتم التعامل بالمقايضة السلعية المحدودة. وكان التموين المنتظم في أبسط أشكاله مشكلة كبرى. وكان الأمن الداخلي كارثة أيضا. وكانت المدن -المحررة منها والمحتلة- تعيش وتنام وتصحو على المصائب من كل نوع. وكانت الوحدة الاجتماعية والوطنية والشعبية مشكلة تتفجر على كل شكل وطراز. وكانت هناك الخدمات العامة والإدارة الاجتماعية والطبابة والتعليم والتصنيع والفلاحة والزراعة وغيرها تسير وتتقطع وتتوقف عبر سيل من المشاكل والأزمات والنكبات.
والمهم هنا القول بأن تلك الدول لم تواجه حصارا مطلقا شاملا كما نواجهه نحن في اليمن الحر، فقد كانت الدول لا تسطيع الصمود طويلا إذا أُغلقت عليها جميع المنافذ، إلا النادر منها التي تملك قاعدة اقتصادية إنتاجية ضخمة ومستعدة سلفا لمواجهة الحرب والصمود والحصار. بينما اليمن لم تكن مستعدة لهذا التحدي الهائل، فقد كانت مكشوفة وضعيفة ومهترئة ومنكوبة في كل شيء. وكان الأمر يتطلب قدراً هائلاً من الشجاعة والثقة بالذات وبالله، وبصلابة غير متناهية، وفوق ذلك أن تكون قادرة على كسب ثقة الشعب والأمة خلفها، وهي أمة ممزقة الولاءات والاتجاهات والتوجهات والأيديولوجيات والعصبيات والحساسيات والمطامح، مخترقة في قياداتها وفي أجهزتها ونخبها وزعمائها وأحزابها ووجهائها. كانت الحاجة لقيادة بإرادة فولاذية واعية غير مسبوقة، وبقوة تنظيمية هائلة لشعب ثوري مستعد وجاهز، ولدولة قوية مستعدة لتحديات كبرى، فكيف استطاعت الصمود في مواجهة كل هذا الحصار العدواني الشامل لخمس سنوات؟!
ليس هناك سوى إجابة واحدة، وهي أن سر هذا الصمود يكمن في وجود القيادة القوية والعبقرية والمتميزة والاسثنائية التي فكرت وخططت وأعدت وصممت وأصرت وأنجزت وجمعت القوى المبعثرة المتناثرة واستطاعت توحيدها حول أهداف ثورية وطنية إيمانية مشتركة، فتحولت القوى الضعيفة السابقة إلى قوى صلبة متماسكة، مؤمنة ومتفائلة بالنصر.