سلّمت 4 من فلذاتِ كبدها في سبيلِ الوطن الذي تؤمن أنه سينتصر لا محالة... وتحث بقية أبنائها وأقاربها على مواجهةِ العدوان الذي يتعرّض له للعام الثالث على التوالي.. أمٌّ شجاعة، قل نظيرها في زمنِ التخاذل والانكسار، تلقَّت نبأ استشهاد أبنائها الـ4 بصبرٍ وثباتٍ حيّر من حولها، لدرجةِ أن البعض وصفوها بـ(قاسيةِ القلب)، وأخرين بـ(المجنونة)... قالت إنها لا تبالي بالآخرين، لأن سر قوة صبرها وتحملها (وبشر الصابرين).. (عادل ومجد) وقفا للشهادة في ساحةِ الوغى بتحدٍّ كبير، رغم وصول رسائل تحذير لهما قبل الانفجار بلحظات.. وبين استشهاد الـ4 فترات متقاربة جداً... (لا) زارت خنساء اليمن (سيدة اللاحجي) التي روت تفاصيل استشهاد أبنائها..  
البدايةُ من المعتقل
3 كانوا بالمعتقل، لمدة 3 سنين، منذُ الحرب الرابعة حتى بعد نهاية الحرب السادسة، (أيمن، عادل، ومحمد الذي مايزال على قيد الحياة) كانوا ضمن مجموعة من السجناء... تحكي أم الشهداء بصبرٍ، وتحاول مقاومة دمعة سقطت من عينيها: (سُجنوا بسبب أنشطتهم السياسية، وكذلك بتهمة أدائهم للصرخة، ومن شدةِ تمسكهم بالمسيرةِ القرآنية، وحبهم للجهاد، كانوا يؤدون الصرخة وسط المحكمة أمام من يقومون بمحاكمتهم، لا يخشون أحداً في التمسك بالمبادئ التي آمنوا بها منذ وقتٍ مبكر)، هكذا قالت أم الشهداء عن شجاعتهم المنقطعةِ النظير.

مغادرة العاصمة
ولأنشطة الشهداء الشجاعة، ومجاهرتهم بمواقفهم الصريحة والواضحة، كان مكوثهم بالعاصمة يعرض حياتهم للخطر، مما جعلهم ينتقلون إلى صعدة، رغم أنهم من سكان العاصمة منذ 40 عاما، وقد مكثوا في صعدة 3 سنين بعد مفارقةِ منزلهم الخاص بالعاصمة... ومع دخولِ أنصار الله العاصمة عادوا للاستقرار بها.
رغم أنهم أصبحوا طلقاء بخروجهم من السجن، إلاّ أنهم لم يستكينوا لذلك الاستقرار، فرأوا أن أمامهم قضية الجهاد في سبيل الوطن، وفضلوا حياة الكفاح والنضال على أن يقفوا مكتوفي الأيدي.. ومن هنا بدأت رحلة استشهاد الأبطال الـ4.

رسالة تحذيرية
من جُبل على الشجاعة لا يهاب الموت، ذلك هو حال أبناء خنساء اليمن، فمع بدايةِ التفجيرات والاغتيالات التي كانت تستهدف نشطاء أنصار الله، استشهد أول اثنين من أبناء الأم المكلومة، في تفجير إرهابي في محافظة البيضاء.
(عادل ثاني الأبناء في الترتيب العائلي) ومجد الدين (آخر العنقود)، بالإضافة إلى ابن عمهما الذي كان معهما في نفس مكان التفجير، رغم وصول رسالة تحذيرية من الاستخبارات قبل لحظات من التفجير: أن انتبهوا ولا تسمحوا بدخول أية سيارة إلى المكان إلاّ بعد تفتيشها!

طُعم..!
عقب الرسالة التحذيرية التي لم يتم أخذها في الحسبان بلحظات، دخلت السيارة (المفخخة)، والتي كانت عبارة عن طعم ومموهة، حيث كان شعار (الصرخة) منقوشاً عليها، وطفل تمت سرقته من قريةٍ مجاورة للحادث، تبيّن لاحقاً عقب الانفجار أن أم ذلك الطفل اكتشفت أن طفلها كان أداة تم استخدامه من قبل جماعات الإرهاب لتنفيذ هذه العملية الإجرامية، وكانوا قد بحثوا عنه في كل مكان، ولم يجدوه..
كل تلك التمويهات قام بها مدبرو الهجوم الانتحاري على مقر الشهداء (عادل ومجد الدين) وابن عمهما (فؤاد) الذي كان معهما بنفسِ المكان، وآخرين.. كوجود شعار الصرخة حتى لا يشكوا في أمرِ السيارة المفخخة، وكذلك الطفل لكي يأمنوا ويسمحوا لها بالدخول... فخرج إلى باحةِ المكان (عادل) قائلاً: لا تسمحوا بدخولِ هذه السيارة أو غيرها حتى يتم تفتيشها... فكان الانتحاري أسرع من كلماتِ التحذير التي كانت آخر ما نطق به الشهيد (عادل).
استشهد عادل وشقيقه مجد الدين في الانفجار، وابن عمهما فؤاد، فيما نجا أيمن الذي كان بداخلِ (المقر)... (كنتُ أتصل على جوالاتهم فكانت ترد مغلقة، أردتُ أن أطمئن عليهم بعد أن شاهدتُ خبراً في التلفزيون بأن انفجاراً إرهابياً وقع في البيضاء) حسبما روت أم الشهداء (فجاءني خبر بعد ساعاتِ انتظار: اشكري الله واحتسبي أن عادل استشهد، ولم يخبروني أن مجد الدين أيضاً استشهد بنفس اللحظة... ثم أكدوا لي أن الاثنين استشهدا لأن مجد لم يكن يفارق عادل أبداً)، قالتها بغصةٍ ووجع: (آخر العنقود كان يُحب مرافقة شقيقه عادل أينما ذهب، ومن حبه له فارقا الحياة معاً).

استشهاد بطل
ضُرب بشجاعته المثل (أيمن) ثالث الشهداء الأشقاء.. بينه وبين استشهاد شقيقيه عادل ومجد، 100 يوم فقط، أما استشهاده فقد كان أثناء مواجهةٍ مع الطرف الآخر في ميدانِ المعركة بالبيضاء، وكان حينها قائد تلك المواجهة، حيث صُرع الكثيرون من الطرفِ الآخر على يديه.
تصف أم الشهداء حال وصول خبر استشهاد ابنها الثالث (أيمن): (كنتُ على يقينٍ أنه سيلاقي الله بأيةِ لحظة، لأنه كان يقول: لا يمكن أن أموتَ ميتةً عادية في بيتي، وأترك ما دعاني الله إليه، ميتة الأبطال المجاهدين هي التي تليقُ بي).. ترسل تنهيدةً حرّى من أعماقها: رحمهم الله جميعاً.
في جبهة الصمود
مناظر السحل التي شاهدها، والتنكيل بالجثث بعد إزهاقِ الأرواح، استفزت (هاشم) رابع شهداء خنساء اليمن، فاتصل لأمه قائلاً لها: (سأتقدم إلى جبهةِ الصمود، ادعي لي، لن أبالي بأي تحذيرٍ أو توجيه..).. تحكي سيدة بمرارةٍ وتضيف: (قلت له لا توجع قلبي يا ابني، خليك حسب التوجيهات.. قال سأحكي معكِ في المساء، وأغلق السماعة)..
غير أن إرادة الله كانت أسرع من وعده لأمه بالاتصال بها مساءً، فلم تمهله سوى لحظات قليلة ليعانق (هاشم) الشهادة، وتصعد روحه إلى بارئها.. (حمدت الله واحتسبت له وفوضت أمري إليه)..

تعودي على فراقنا
(تعودي على فراقنا، فنحن مغادرون)؛ تلك الجملة التي كان يردُّ بها مجد الدين على أمه حين تُرسل أخاه الأكبر لإحضاره ليكون تحت عنايتها كونه آخر العنقود... وتضيف: (كنتُ متولعة به جداً، ولا أستطيع مفارقته، كان يدرس المرحلة المتوسطة، يهتم بجلسات العلم، والاطلاع على كل ما جاءت به المسيرة القرآنية، واهتماماته المبكرة جعلتني أطمئن أن ولدي يسيرُ في الاتجاه الذي اختاره الله له).

مع ربي جهادي
الشهيد (عادل) شاعر أيضاً شدا بكلماته أشهر المنشدين مثل (عيسى الليث) وغيره، فهو مؤلف كلمات الزامل الشهير (مع ربي جهادي) و(شمّروا يالنشامى) وغيرهما الكثير... ومما كتبه في والدته أثناء زيارتها له في السجن، قصيدة تنفردُ بنشرها (لا)، وهي تحت عنوان: (روضة الأجيال).

لا أقفُ بطريقهم
قوة صبرٍ وتحملٍ لهذه المنجبةِ العظيمة التي أنجبت خيرة الرجال في الدفاعِ عن كرامةِ وطنٍ يحاول العدوان إذلاله وتركيعه... تقول أم الشهداء: (كيف أصدهم عن التضحيةِ في سبيل الله والوطن، وأنا واثقة وثوق الجبال أنهم على نهجِ الحقِ منطلقون؟ كيف أخذلهم، وأخذل الحق الذي مضوا باتجاهه محبين لذلك...؟).
تقفُ برهةً ريثما تستجمع شريط ذكرياتها: (أحبهم واحداً واحداً... لا أهتم بمن يصفونني بقاسيةِ القلب، ومن ينعتونني بالمجنونة كوني أقدم أبنائي لجبهاتِ الصمود... ما يدري أولئك أن كل شعرة منهم تسوى الكون عندي، ولكن الوطن والحق يحتاجهم، كما أنني أحث بقيةِ أبنائي وأقاربي على الوقوفِ مع الوطن وصد العدوان، فمن باع أرضه باع عرضه... وسرُّ صبري ما جاء في قوله تعالى: [وبشرِ الصابرين]).

لمحة..
(عادل ومجد الدين) أول من استشهدا... فعادل هو الابن الثاني بعد البكر الذي يعيش خارج الوطن، أما مجد الدين فهو آخر العنقود، وكان ما يزال في المرحلة المتوسطة.. الشهيد الثالث (أيمن) الذي يتوسط أشقاءه ببنتين، بينما (هاشم) رابع الشهداء، هو الأوسط من الذكور والإناث، كان ما يزال خاطباً... وأما عادل وأيمن فقد كانا متزوجين، ولديهما أطفال.

أشكر (لا)
في ختام حديثها لصحيفة (لا)، وجهت سيدة اللاحجي رسالة إلى كل أفراد المجتمع آباء وأمهات: ألا يتخاذلوا في قضيةِ وطن يواجه أشرس عدوانٍ براً، وبحراً وجواً، لأن العدوان يريد إذلالنا وتركيعنا، ونحن لن نستسلم حتى لو تطايرنا ذراتٍ في الهواء.
وأضافت: أشدُّ على أيدي رئيس تحرير صحيفة (لا)، وطاقم الصحيفة الصامدين في جبهةِ الحرف ونقل الحقيقة بإخلاص إلى الرأي العام، لتفضلهم بزيارتي إلى بيتي.


روضة الأجيال

قصيدة كتبها ولدها الشهيد لها أثناء اعتقاله إبان الحروب الست.

هلا وحیا ألف ملیون معشرْ
بالغالية أمي سراج اللیالي
خفي من المسعى دجى الكون نوَّرْ
خطوة عزيزة في سبیل الجلالي
بعد اسمحي لي من الشوق مضطرْ
أقبّل الركبة وقاع النعالي
یا غالیة حبِّش مع الوقت یكبرْ
هواش لایوصف وفوق الخیالي
الله لش حارس وحافظ من الشرْ
طیفش معي دایم وذكرش ببالي
أنتِ عظیمة بش أنا أعتز وأفخرْ
یا من إلى الرحمن شدت رحالي
نذرتي لدین الله من أجل یظهرْ
روحش وأولادش نذرتی بغالي
یا روضة الأجيال زرعش قد أثمرْ
خیر الحصاد مضمون یوم السؤالي
مثلش لها التاریخ دوّن وسطَّرْ
بالتضحية یضرب بها أكبر مثالي
أماه یا حبة العين قد فرْ
نومي وقمت أسجد وكان ابتهالي
قلبي عليش مجروح دمه تقطَّرْ
شاشكي إلى الرحمن حالش وحالي
مرت سنة من حبس لا حبس وأكثرْ
كم جهد جهدش كم يشيل الثقالي
واه.. واحري على النعل الأبترْ
كم كل كم عدَّى مراحل طوالي
يا ليت صدري أرض بالعشب الأخضرْ
تدوسها أقدامش مواطئ حلالي
حذاتش اليمنى تدوس فوق الأبهرْ
أما على خدي تدوس الشمالي
قد ربما يجبر خطاش ما تكسرْ
ويجبر الخاطر طبيق النعالي
يماه اطلقي صرخاتش: الله أكبرْ
هزي عروش الظلم وأهل الضلالي
والموت لأمريكا حقاً ستقهرْ
والموت لإسرائيل حان الزوالي
واللعنة اللعنة على أحفاد خيبرْ
والنصر للإسلام سابق وتالي
هذا شعار الحق لابد يظهرْ
ويلوح في الآفاق فوق العلالي
يا غالية محد مع الله يخسرْ
ولا يبالي موت أو بطش والي
ما يخسر إلا من أعرض وأدبرْ
وأنكر واستكبر ورام التعالي
لاتنهمر عينش علينا وتسهرْ
لاتأسفي مما جرى أو تبالي
من باع نفسه للمهيمن وناصَرْ
أهل الهدى والحق أنَّى يبالي
السجن والتعذيب والفر والكرْ
من أجل دين الله كالشهد حالي
ما هزنا سجن طاغي تكبَّرْ
ما زادنا إلا يقيناً وامتثالي
وزادنا إيمان أكبر وأكثرْ
وصمود في الأعماق مثل الجبالي
من يوم عرفنا الحق ما صابنا شرْ
ولا عرفنا خوف يوم النزالي