البيت اليمني للموسيقى..معزوفة في قلب الدمار
المايسترو فؤاد الشرجبي:حرمان الطلاب من مواد الفنون أدى إلى نشوء جيل غير متزن، وما نجنيه اليوم جزء من ذلك الخلل

تولى البيت اليمني للموسيقى تدريب 1500 طالب وطالبة، على فنون العزف والغناء، وبمجرد أن يدخل الزائر الى مقر البيت بإمكانه أن يسمع أغاني من التراث اليمني وقد تحولت إلى معزوفات أوبرالية يؤديها مجموعة من الأطفال، بقيادة المايسترو فؤاد الشرجبي.. إنه شكل من أشكال مقاومة الألم اليومي تحت عبث العدوان، يظهر على شكل أنغام مرسلة من بلاد اليمن المنسية.
عندما زارت صحيفة (لا) البيت اليمني للموسيقى، كان أفراد الأوركسترا من طلاب البيت يجرون تمريناً جماعياً على عزف أغنية (ممشوق القوام) للفنان الراحل علي بن علي الآنسي، وقد أخذت المعزوفة شكلاً ساحراً، يجعل من يستمع لها يعتقد أنه يسمع معزوفة من المقطوعات العالمية، واللحن الذي أبدعه الراحل علي الآنسي من المقامات المحلية، انصهر بتوزيع موسيقي متقن، وتحول إلى سيمفونية يؤديها مجموعة من الأطفال بانتظام بديع باستخدام الكمنجات وآلات النفخ والآلات الوترية، بأسلوب يحلق بالروح خارج حدود الزمان والمكان، ويأخذها إلى فضاءات رحبة مفعمة بالعاطفة والسمو.
عودة الحياة
بعد إغلاق دام لمدة شهرين مع بداية العدوان، خوفاً من القصف الذي استهدف منشآت كائنة في محيطه، قرر القائمون على بيت الموسيقى معاودة فتح البيت لمقاومة الواقع المزري الذي فُرض على المجتمع تحت القصف، وقد تم نشر إعلان في موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) عن معاودة فتح البيت تحت عنوان (عودة الحياة)، يقول الأستاذ فؤاد الشرجبي، مدير ومؤسس البيت: (بعد نشر الإعلان تفاجأنا بحجم الإقبال الكبير للمتقدمين، والذين كانوا من أبناء الأسر المثقفة، وقد أحس أولياء الأمور بأن هناك تحسناً في حالة أبنائهم الذين أصبحوا أقل عدائية، بعد أن لاحظوا ارتفاع مستوى العنف في تصرفات أطفالهم نظراً لعدم قدرة الطفل على تصريف طاقته في أي نشاط خارج المنزل بسبب الخوف من مخاطر القصف في حال خروجه للعب في الخارج، إلى جانب أن الأطفال المجبرين على المكوث في المنزل لم يكونوا يجدون أية وسيلة تساعدهم على تمضية الوقت مثل مشاهدة التلفزيون أو التسلي بالألعاب الإلكترونية، نظراً لغياب الكهرباء، تلك الأجواء الكئيبة جعلت من الأطفال عدوانيين، وقد أدى التحسن الذي طرأ على سلوكيات الأطفال بعد انضمامهم إلى بيت الموسيقى، إلى انضمام الآباء والأمهات إلى صفوف الدراسة في بيت الموسيقى، وإحياء مواهبهم التي كانوا قد نسوها، ومشاركة أطفالهم التدرب على العزف.

التداوي بالموسيقى
التحاق أسر بكاملها لتلقي دروس الموسيقى، عزز من ثقة القائمين على بيت الموسيقى بأهمية الرسالة التي يمكن أن تمارسها الموسيقى في هذه الأوقات العصيبة التي يمر بها المجتمع، وحول هذه المسألة يقول الموسيقار فؤاد الشرجبي: (حماس المنضمين إلى بيت الموسيقى عزز ثقتنا لمواصلة فتح بيت الموسيقى رغم الظروف الصعبة التي نمر بها، محولين الهموم إلى ابتسامات، ولنجعل صوت الآلة الموسيقية، يطغى على صوت الانفجارات، فداخل كل إنسان قدرة على مقاومة الخوف والدمار، وسيعرف كل إنسان كيف يقاوم، المهم أن يجد من يساعده على عدم السقوط في دوامة الخراب. ونحن في البيت اليمني للموسيقى سنستمر في أداء رسالتنا لتعزيز قيم المحبة والجمال).

دروس في المقامات
يخضع الطالب في البيت اليمني للموسيقى لتدريب عملي دقيق يقوم على أسس تدريس الطالب الموسيقى بشكل علمي ممنهج، حيث يتلقى الطلاب الذين يشكل الأطفال 60% منهم، دروساً في العزف على الآلات الموسيقية، سواء كانت شرقية أو غربية، والتدريب الصوتي لكل من يحبون الغناء والإنشاد، ويقوم بيت الموسيقى بتدريب الطلاب تدريباً متقدماً بغناء المقامات المختلفة وتفرعاتها، والذي يعد جزءاً مهماً في تكوين المطرب من أجل الاستمرار، والمنافسة على المستويين المحلي والعربي، مثل المطرب فؤاد عبدالواحد الذي انطلق من البيت اليمني للموسيقى.

علم الموسيقى
كما يقوم البيت اليمني للموسيقى بتدريس النوتة الموسيقية للطلاب على أساس أنها علم، وهناك مناهج خاصة لكل آلة موسيقية، وبحسب الفنان فؤاد الشرجبي، فإن تعلم الموسيقى على أساس أنها علم، يكتسب من خلالها الطالب شيئين؛ الأول يتمثل في تعلم لغة الموسيقى، التي يفهمها الكثيرون في العالم، والأمر الثاني هو إجادة العزف والغناء، وكلما عرف الإنسان عمق وجمال المهنة التي يمارسها، ازداد تواضعاً وتركيزاً في عمله.

تنمية الثقة بالنفس
وإضافة إلى تدريس علوم الموسيقى، يتولى البيت مهمة تدريب الطلاب على الأداء في المسرح أمام الجمهور، التي تعتبر جزءاً محورياً في برنامج التدريب الذي يخضع له الطالب، عن كيفية مواجهة الجمهور، والعزف مع جماعة، وكيفية العزف منفرداً للجمهور، وهي أمور تعطي الطالب ثقة وحماساً.

دعماً لمعنويات النازحين والأطفال الخائفين
عندما توافدت أفواج النازحين إلى العاصمة صنعاء من مختلف المحافظات، وأخذت المدارس تزدحم بهم، شعر البيت اليمني للموسيقى بمسؤولية تجاه شريحة النازحين، واحتياج هذه الشريحة على وجه الخصوص للدعم النفسي، ومن أجل ذلك نفذ بيت الموسيقى نزولاً ميدانياً إلى بعض مراكز إيواء النازحين، بصحبة مجموعة من الفنانين الكوميديين، وإحياء حفلات فنية داخل مراكز إيواء النازحين. يقول الفنان فؤاد الشرجبي: (نزولنا إلى مراكز إيواء النازحين جاء من منطلق إحساسنا بمسؤولية ترميم معنويات النازحين، فلا يوجد ما هو أفضل من إدخال البهجة إلى نفس نازح يشعر بالعزلة وهو منكسر القلب، وقد لقينا الكثير من الترحيب والتفاعل من قبل النازحين، مما دفعنا إلى تنفيذ المزيد من عمليات النزول الميداني، والتي استهدفنا فيها المدارس والأطفال في الأحياء التي تعرضت للقصف أكثر من غيرها).

إنعاش عاطفة الانتماء للوطن
ويضيف الشرجبي: (وقد ركزنا في الاحتفالات الموسيقية التي أقمناها للنازحين ولطلاب المدارس، على أن تكون كل أغانينا أغاني وطنية، تعزز الولاء للوطن في هذه الظروف، وتقوي مشاعر الانتماء للوطن، وقد لاحظنا أثناء تلك الحفلات أن الجمهور حصل على جرعة أنعشت العاطفة الوطنية فيهم إلى درجة سالت معها الدموع من أعين الجميع).
يقول الشرجبي: لقد فقد الناس عاطفة الانتماء للوطن بسبب غياب الموسيقى ومواد الفنون عموماً عن المنهج الدراسي، والآن نحن نشعر أننا بحاجة إلى الفنون نظراً لقدرتها على تحريك العواطف، بما في ذلك عاطفة الانتماء للوطن، فالوطن غالٍ على نفس كل إنسان، لكن مع الأسف أساء السياسيون كثيراً للشعب والوطن، من خلال ربط البلاد بمصالح السياسيين بعيداً  عن المصالح الجماعية لكل الشعب، وقد تأثرت الموسيقى والفنون بهذا المناخ، خصوصاً منذ ألغيت مواد الفنون من المنهج الدراسي عقب حرب 1994، عندما تم تقاسم مؤسسات الدولة بين الأحزاب، وقامت الأحزاب الدينية بحذف الفنون من المنهج.

التطرف نتيجة لغياب الفنون
وتابع الأستاذ فؤاد الشرجبي حديثه بالقول: لقد أدى حرمان الطلاب من مواد الفنون إلى نشوء جيل غير متزن، وما نجنيه هذه الأيام جزء من ذلك الخلل، ومن الطبيعي أن يمارس الإنسان كافة أنشطة الحياة بدون كوابح، فالذهاب إلى المدرسة واللعب في الحديقة، والتدرب على الموسيقى، والذهاب إلى المسجد وتعلم القرآن، ولعب كرة القدم، وغير ذلك من الأنشطة، تعطي للطفل ثقة أكثر بالنفس، وتؤدي إلى اتزان الإنسان، بحيث لايستطيع أحد أن يستغل حالة الاضطراب التي قد يقع فيها الإنسان، ويجري له غسيل دماغ في اتجاهات مضرة بمصالح المجتمع، ولحماية الشباب من الوقوع في هذه الأفخاخ يتطلب الأمر أن يكون الشخص قد أفرغ طاقاته بشكل سليم يساعده على تنمية وعيه وذاته.

توثيق أكثر من 60 ألف أغنية
منذ قرابة 7 أعوام قام البيت اليمني للموسيقى بتوثيق 60 ألف (صوت) على حد تعبير الأستاذ فؤاد الشرجبي، والتي قام البيت بجمعها من مختلف محافظات اليمن.
ويشرح الشرجبي مسألة توثيق الأغاني في اليمن بالقول: (بتعريف دقيق قمنا برصد وجمع أكثر من 60 ألف تسجيل صوتي، مما تم غناؤه في اليمن، فهناك أعمال عمرها أكثر من 100 سنة، وهناك الغناء التراثي الذي يكاد يكون مجهول النسب ولا يُعرف صاحبه، وهناك أمهات الغناء اليمني، وهناك الغناء الكلاسيكي، والشعبي، والغناء الحديث، والمبتكر، وهذه كلها ألوان من الغناء في اليمن، وهناك أيضاً أغاني الزراعة التي تختلف من منطقة إلى أخرى، وهناك أغاني الصيادين في البحر الأحمر والبحر العربي، وهي تختلف على طول ساحل اليمن، وأغاني الصوفية، وأغاني البدو الرحل).

ألوان الغناء انعكاس لطبيعة المجتمع
أتاحت دراسة ألوان التراث الغنائي التي أجراها بيت الموسيقى، فرصة للتعرف على طبيعة كل منطقة على حدة، ويرى الأستاذ فؤاد الشرجبي أن ألوان الغناء تعكس إلى حد ما طبيعة الحالة الاجتماعية لكل منطقة على حدة، فأغاني الأعراس مثلاً تختلف في محافظة تعز عن مثيلاتها في محافظة لحج، حيث تأخذ في تعز طابعاً ممزوجاً بالحزن على فراق الأسرة لابنتها، بينما تبدو في لحج ذات طابع فرائحي، ابتهاجاً بزواج الأبناء.
لمواجهة السطو الفني
ورداً على سؤال لصحيفة (لا) حول ما إذا كان سيترتب على أعمال التوثيق التي يقوم بها البيت أثر قانوني في حفظ حقوق الفنانين، خصوصاً في ظل السطو الممنهج الذي تتعرض له الأغنية اليمنية في دول الخليج، قال الشرجبي: التوثيق في الأساس هو لحفظ الحقوق المهدرة في الداخل والخارج، فهناك أغنية تسمعها من أكثر من مطرب على مستوى الداخل، وكل منهم يدعي ملكيته لتلك الأغنية، وقد استغل الخليجيون الوضع المنفلت، فأخذوا الأغاني ونسبوها إليهم.

تفاصيل لتوثيق الأغنية
توضع الأغاني التي جمعها البيت اليمني للموسيقى في قاعدة بيانات، يتم فيها التركيز على حقوق المؤلف (الشاعر والملحن)، إلى جانب الحقوق المجاورة للمؤلف، والمتمثلة بالمغني والعازف والمنتج، كما تشمل قاعدة التوثيق تفاصيل أخرى تتعلق بالأغنية، مثل المنطقة التي ينتمي إليها العمل الفني، ونوع اللحن ومقام اللحن، والعمل الإيقاعي، والنوتة الموسيقية، ومناسبة الأغنية، وفي أي عام تم تسجيلها، إضافة إلى الوسيلة التي حصل البيت من خلالها على الأغنية، سواء كانت بواسطة شريط ريل، أو أسطوانة، أو مباشرة من الشخص.
ويضيف الأستاذ فؤاد الشرجبي أنه بعد استكمال وضع قاعدة بيانات الأغنية، يتم إيداع نسخة منها في منظمة (الواي بو)، وهي منظمة تعنى بحماية حقوق الملكية الفكرية في سويسرا، وإذا ما تم وضع النسخة لدى المنظمة، فإنها تصبح بدورها معنية بمتابعة حقوق الملكية الفكرية لأصحاب الأغنية الأصليين.
توقفت الكثير من مشاريع البيت اليمني للموسيقى منذ الأحداث التي مرت بها البلاد في العام 2011، ومنذ بداية العدوان لم يقم البيت بتوثيق أي أعمال غنائية جديدة، فبيت الموسيقى (يعيش صراعاً من أجل البقاء).
 
العصافير تغني رغماً عن العاصفة
بينما يشتد هبوب (العاصفة) تواصل عصافير اليمن إنشادها غير آبهة، فالبلاد التي (ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن، لم يمت في حشاها الرقص والطرب).