منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتوقيع ميثاق الأمم المتحدة الذي يجرم تدخل الدول في شؤون الدول الأخرى، ابتكرت قوى الرأسمالية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، حيلاً كثيرة للتدخل في شؤون الدول والعبث في أمنها واستقرارها وثرواتها دون أن تتعرض للمساءلة الدولية، فعمدت إلى سن قوانين خاصة تمنحها الحرية الكاملة لادارة أطماعها ومخططاتها وتمريرها في كل بقاع الأرض.. وبالرغم من أن هذه القوانين أصدرت لمحاربة أعداء أمريكا في الخارج كما تقول الادارة الامريكية، إلا أن الاخيرة وظفت تلك القوانين لفرض سلطة مطلقة على مواطنيها والتضييق على حياتهم وسلب حريتهم.. صحيفة (لا) تأخذ القارئ العربي في جولة سريعة على سلسلة من الاحداث والوقائع التي توضح بشكل أو بآخر السياسة القذرة التي تديرها قوى الشر العالمية لتمرير مشاريعها الاستعمارية خارج وداخل بلدانها، وكيف تصادر هذه القوى حريات الشعوب.
قاعدة ثابتة
بنفس الطريقة الوهمية التي تستخدمها شركات الادوية الغربية بصناعة الداء والدواء للحصول على مليارات الدولارات، تنتهج السلطات الامريكية لتوسيع نفوذها العالمي قاعدة ثابتة تشمل العديد من الخطوات، فهي بحاجة لصناعة العدو أولاً، ومن ثم التهويل منه كخطر يتهدد شعبها، وبالتالي خلق المبررات لصياغة القوانين المراد سنها، والتي تحقق أهداف اللعبة الكبيرة.

قانون الأمن الوطني
أشهر تلك القوانين التي شرعتها إدارة البيت الأبيض لتحقيق أجندتها التوسعية في بلدان العالم، هو قانون الامن الوطني الذي شرعته الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب الباردة، بالتحديد في مطلع ستينيات القرن الماضي.. مفهوم القانون الذي أخذ بالتطور لاحقاً وعرف بأسماء مختلفة بحسب ظروف اللحظات الزمنية التي تتطلب إدارتها بشكل مختلف، يعرف بأنه قانون يمنح سلطات الأمن الامريكية الحق في استهداف أية دولة أو جماعة خارج بلادها دون الرجوع لاي قوانين أو أعراف دولية أو محلية، تحت ذريعة الدفاع عن أمنها القومي حتى وإن لم يكن هناك أي تهديد أو تحرك صريح من قبل من اعتبرته عدواً.
أول تفعيل لهذا القانون كان سنة 1962م عندما شنت السلطات الامريكية حرباً دموية واسعة على شمال فيتنام، الحرب التي كانت قد اشتعلت قبل 6 سنوات من هذا التاريخ بين جنوب فيتنام وشمالها، والتي استمرت لمدة 19 عاماً، ولاغراض اقتصادية وسياسية توسعية ادعى الامريكيون بأن الجيش الفيتنامي يشكل خطراً حقيقياً على الامن القومي الامريكي، وبدون أي أدلة أقدمت السلطات الامريكية على غزو شمال فيتنام في حرب دموية عبثية تسببت بمقتل نحو مليوني إنسان.

تطور ونضوج
أخذ قانون الأمن الوطني بالتطور مع الحاجة الامريكية التوسعية، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبحت أمريكا نظرياً دولة العالم الاولى، إلا أن هذا الاستحقاق لم يمكنها من السيطرة المباشرة على ثروات البلدان وقمع أنظمتها، فتمسكت بدعمها للجماعات الارهابية التي لعبت في ما بعد دوراً مهماً في خدمة أجندتها التوسعية ونضوج قانون الامن الوطني بشكل مختلف هذه المرة.

باتريوت آكت
أحدثت هجمات 11 سبتمبر 2001، حالة من الهلع والخوف لدى الأمريكيين، وهذا ما أرادته السلطة الامريكية، فقد استغلت هذا الخوف لتمرر من خلاله أبشع قانون استبدادي عرفته البشرية، والذي تسبب في مقتل ملايين الابرياء في أفغانستان والعراق والشيشان، الامر الذي جعل الشكوك حول تورط عسكريين أمريكيين وراء التفجيرات مؤكدة لاحقاً، وهو ما أكده الكاتب الامريكي تيري ميسان في كتابه (الخدعة الرهيبة)، مشيراً بالادلة إلى أن التفجيرات تمت بتواطؤ مع مسؤولين في الجهاز العسكري الصناعي الامريكي، بغية إيجاد نظام عسكري توسعي. وقد فر ميسان من بلده، وعاش متنقلاً بين بريطانيا وفرنسا.
ففي 26 أكتوبر من نفس العام، وقع الرئيس الأمريكي جورج بوش على نسخة جديدة من قانون الامن الوطني، سمي قانون باتريوت آكت (Patriot Act)، أو ما عرف لاحقاً بقانون مكافحة الإرهاب، والذي تمكنت بموجبه الولايات المتحدة من فرض الهيمنة على العالم.

توسيع النفوذ
(باتريوت) أعطى الهيئات التنفيذية المتمثلة في أجهزة الشرطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) صلاحيات واسعة في مجال مراقبة الافراد والتنصت على اتصالاتهم وتفتيش المواطنين دون أن يكون لديهم أدلة ملموسة تدينهم بشكل مباشر، ودون فرض رقابة كافية على تلك الصلاحيات.
وإذا ما نظرنا للأهداف التي تقف وراء إصدار مثل هذه القوانين، سنجد أن الهدف الرئيسي منها هو استنزاف ثروات الشعوب، وتوسيع النفوذ الامريكي في دول العالم، كما أن التخلص من الانظمة والشعوب والحركات المناهضة للسياسة الامريكية يعد من أهم الاجندات التي يسعى لتحقيقها الامريكيون من خلال تلك القوانين التي تقدم تلك الشعوب والبلدان المناهضة كأعداء يشكلون خطراً على الشعب الامريكي يجب محاربته.

حصار الشعب الأمريكي
وبالرغم من ذلك، فإن عمل قانون الأمن الوطني الامريكي لا يقتصر على منح القوات الأمريكية حق مهاجمة خصومها خارج حدودها، وغزو الدول البعيدة، وقتل ملايين الناس في آسيا وأفريقيا، بل إن القانون أعطى السلطات الامريكية سلطة مطلقة على الشعب الأمريكي وحصاره داخل مجموعة قوانين وأحكام تقيد حركته وحريته.. إذ إن ما تمارسه أجهزة الأمن القومي الامريكي بموجب قانون (باتريوت آكت) من ممارسات شعواء بحق مواطنيها، يعد خرقاً فاضحاً للقوانين والاعراف الحقوقية والانسانية، بل ينسف تماماً أغطية الحرية والعدالة التي تتمترس خلفها الامبريالية الامريكية. كما أن تلك الممارسات التي تصل إلى التجسس على المواطنين داخل غرف النوم، تعد أكبر نموذج للاستبداد عبر التاريخ.

خنق الحرية
القانون فرض حصاراً خانقاً على كل أشكال الحرية والديمقراطية في أمريكا، وبصورة فجة، ويقمع القانون أي مواطن أمريكي يعبر عن رأيه في أمور تتعلق بسياسة الدولة، وعلى وجه الخصوص السياسة الخارجية لها، وهو ما حدث إبان حرب فيتنام، حيث خرج آلاف الامريكيين في تظاهرات كبيرة تطالب بوقف الحرب، إلا أنها تعرضت للقمع الشديد من قبل الامن القومي الذي باشر باعتقال المئات من المواطنين، من بينهم كبار الإعلاميين والناشطين الحقوقيين، موجهاً إليهم تهمة الخيانة العظمى. ومن أشهر تلك المظاهر الوحشية إبادة الملازم الأميركي وليام كالي للمدنيين العزل في قرية لاي، عام 1968.

إجراءات تعسفية
علاوة على ذلك، فإن القانون سمح بتقوية وكالة الاستخبارات الامريكية التي أخذت مساحة واسعة للتحرك دون قيود، والعبث في خصوصيات الافراد ومراقبة المحادثات الهاتفية، والملفات الطبية والرسائل الإلكترونية والصفقات البنكية، وحتى تفتيش البيوت في غياب أصحابها، وغيرها من الإجراءات التعسفية التي تم الاعتراف لاحقاً بأنها غير دستورية، وتعارض القوانين والتشريعات الحقوقية.
فييت دين، أستاذ قانون في جامعة جورج تاون، ومهندس قانون (باتريوت أكت) نفسه، أكد قائلاً: إن القانون يجيز التنصت على المكالمات الهاتفية، الذي تم سنه لأول مرة في العام 1968، معترفاً أن ذلك يعد انحرافاً عن المسار القانوني والديمقراطي.

أنشطة تجسسية
في 2013م سرب العميل السابق إدوارد سنودن وثائق سرية تثبت أن الحكومة الأمريكية تمارس أنشطة تجسسية على مواطنيها.
التسجيلات التي أفادت قناة (روسيا اليوم) بناءً على معلومات استخباراتية، بأنها تصل إلى مئات الملايين، تم تسجيلها عن طريق أجهزة التلفزيون وكاميرا الحاسوب، وقد أظهرت الوثائق تسجيلات من مواقف الباصات.
حسب الوثائق التي نشرها سنودن، فإن الأمن القومي الأمريكي يتتبع 5 ملايين هاتف ذكي بشكل يومي لمعرفة موقعه عن طريق التعرف على الجهاز من خلال إشارات (GPS)، وهو ما يعد أمراً جنونياً وانتهاكاً صارخاً لحقوق الأفراد في أمريكا لا مثيل له على الإطلاق.
بالرغم من ذلك لم تتحرج الولايات المتحدة من هذه المعلومة التي كشفها عميلها السابق إدوارد سنودن، رغم ما أحدثته من ضجة حينئذ عرفت بأزمة التسجيلات أثارت غضب مؤسسات المجتمع المدني التي تقدمت برفع قضايا ضد المنفذين للقانون، إلا أن تلك الدعاوى قوبلت بالرفض الشديد.

اعتقالات
بموجب القانون، قامت أجهزة المخابرات باعتقال آلاف المواطنين بتهمة الارهاب، وإيداعهم في أماكن مجهولة، قبل أن تنفذ بحقهم العقوبات بدون محاكمة، حتى إنه لم يسمح للمعتقلين باتخاذ محامي دفاع.
مايكل جارمان، عميل سابق في (FBI)، أشار إلى هذا الامر قائلاً: إن قانون باتريوت أوجد وضعية المقاتل العدو والمقاتل غير الشرعي، وهذا ما سمح للسلطات بالقبض بدون حدود ولا محاكمة على المتهمين بالإرهاب، مشيراً إلى أن معظم من تم القبض عليهم أناس أبرياء.
وقد ذكرت صحيفة (الواشنطن بوست) الامريكية، في تقرير نشرته نهاية العام 2011م، عن الانتهاكات التي ارتكبتها أجهزة الاستخبارات الامريكية بحق المواطنين، أن الامريكيين لا يتمتعون بالحرية كما يتوهم اA269;خرون، وأشارت إلى أن قانون باتريوت تطاول على حريات الشعوب، من ضمنها الشعب الامريكي الذي وجد نفسه وسط سلسلة من القوانين التعسفية التي تم استنساخها من قانون باتريوت، أبرزها قانون يسمح بقتل أي مواطن أمريكي أو غير أمريكي لمجرد الاشتباه بكونه إرهابياً.

قانون ملهم
بالرغم من إصرار الأمريكيين على أن القانون ممثل لإرادتهم، إلا أنه كان ملهماً للعديد من الدول الأوروبية التي أيضاً تتغنى بديمقراطيتها، والتي استلهمت نصوصه في صياغة قوانين مماثلة لمحاربة الإرهاب، من بينها فرنسا التي تبنت القانون مبكراً بعد أحداث سبتمبر، وبريطانيا أقرت نص القانون بحذافيره عام 2014، وبعض الدول الديمقراطية التي حكمتها حكومات يمينية محافظة مثل أستراليا. وتشهد تقارير دولية صادرة عن منظمة هيومان رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، وتقرير مراقبة الحريات الصادر عن المكتب الفيدرالي السويسري للشؤون الخارجية، في مايو 2013، باستخدام تلك الدول ذريعة محاربة الإرهاب في التضييق على حريات مواطنيها، كما ترصد دراسة (ديفيد لوبان) الصادرة عن كلية القانون بجامعة جروج تاون الأمريكية، في 2002، بعد عام واحد من هجمات سبتمبر 2011، تحت عنوان (الحرب على الإرهاب ونهاية حقوق الإنسان).
في دراسته يرصد (لوبان) أهم الخطوط المشتركة بين قوانين مكافحة الإرهاب الأمريكية والأوروبية الصادرة عقب هجمات سبتمبر، والتي تشكل مخالفة صريحة للحقوق المستقر عليها في العهد الدولي لحقوق الإنسان، ومن أبرزها إلقاء القبض الاحترازي على المشتبه بكونهم إرهابيين قبل وقوع الجريمة، وبدون إذن قضائي.

مفارقة سخيفة
يذكر أن هذا القانون يمر في شتى المؤسسات الأمريكية دون معارضة تذكر، ودونما أي نوع من الضجيج الذي تتفنن أمريكا في توزيع بكائياتها على حقوق الأفراد وحرياتهم الشخصية في دول المنطقة العربية والإسلامية على وجه الخصوص، بل تضغط وتطالب الدول باحترام تلك الحقوق وضرورة مراعاتها، ليس ذلك فحسب، بل تطالب الانظمة بالسماح للعملاء بأن يمارسوا عمالاتهم كنوع من حرية التعبير بالعلن، وإذا ما نظرنا لهذا الأمر، وعلى سبيل المثال، يطالب الامريكيون القوى الوطنية اليمنية بعدم مضايقة بعض الاصوات النشاز، مع العلم أنهم عملاء، وما يفعلونه يضر بمصلحة الوطن والمواطنين، وهو ما يراه الكثير من المراقبين أمرأً يدعو إلى السخرية من دولة تعتبر الخروج في مظاهرات خيانة عظمى للوطن، بينما تنظر للخونة والعملاء الحقيقيين في بلدان الشرق الأوسط كأحرار لا يجب مضايقتهم.

انقلاب تركيا
علاوة على ذلك، وعلى سبيل المقارنة وحسب، ماذا يمكن أن تسمى التعسفات الجنونية التي ترتكبها السلطة التركية بحق شعبها، ففي أكبر حادثة اعتقال في التاريخ أقدمت السلطات التركية عقب الانقلاب الفاشل العام الماضي، على اعتقال أكثر من 100 ألف مواطن تركي، معظمهم أكاديميون وصحفيون وأساتذة ورياضيون.
وفرضت السلطة التركية حينها قانون الطوارئ، وهو أشبه بقانون باتريوت آكت الأمريكي، وبموجبه استباحت السلطة حرمات الشعب التركي، ووجهت تهماً بالخيانة العظمى لكل من شاهد بيان الانقلاب على التلفاز.

صورة مخزية
وبين هذا وذاك، وبينما باب النجار مخلع (مثلما يقولون)، فأمريكا تعمل - ولازالت - على مدى أكثر من 7 عقود بأبشع قوانين الاستبداد، بما فيها من انتهاكات وتعدٍّ على حقوق وخصوصيات الأفراد وحرياتهم، رقابة وتنصتاً وتفتيشاً واعتقالاً بصورة مخزية.
وإذا ما تحدثنا عن الحقائق، فإن وحشية النظام الامريكي أكبر حقيقة عرفها التاريخ والانسان.
فيما مضى قال الفيلسوف الساخر برنارد شو، وهو يخاطب أحد الأمريكان، منتقداً تمثال الحرية، وساخراً من ظلم الأمريكيين: (إني أرى أنكم تقيمون تماثيل لموتاكم العظام).