اليمن حضارة موغلة في القدم لم تخلُ من إبداع الإنسان اليمني الذي ربطته منذ قرون علاقة وطيدة بالأحجار التي استخدمها في العمارة والتشييد، ورسم بها آيات من الجمال يتغنى العالم بسحرها إلى يومنا هذا، وبما أن اليمانيين من أوائل من اعتنق دين الإسلام، فقد نالت مساجدهم نصيباً وافراً من تلك العمارة الموصوفة بالإسلامية، أكبرها وأجملها جامع الصالح الذي تم بناؤه في العصر الحديث، ولم يخلُ من عبق التاريخ العمراني الأصيل.
ولهذا المكان قدرة رهيبة على إرغام أي شخص يمكن أن تسمح المسافة لعينيه برؤية مآذنه الـ6، أن يبقي نظره شاخصاً نحو هذا المارد، وبمجرد أن تزل قدم الزائر أو المصلي حدود بابه حتى تقبضه خطافات رونقه وجماله، وتقذف بجسده الى كل زاوية فيه ليخبره عن مدى شموخ وعراقة الحضارة اليمنية التي خلقها اليماني وأطال عمرها بفضل حرفيته المعمارية المتمسك بها إلى اليوم، وجامع الصالح خير دليل على أن تلك الحرفية تمتاز بالخلود، كونها تكرمت على البشرية مجدداً في القرن الـ21 وأخرجت لها منشأة عملاقة مخلوقة من ذات المواد التي شيدت بها سد مأرب وعرش بلقيس وقصور الحميريين، وغيرها من معالم حضارة اليمن السعيد.
بدأ حلماً
جاءت فكرة بناء جامع الصالح بعد أن حالت الظروف دون تحقيق حلم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، الذي راوده في نهاية التسعينيات، بتوسعة الجامع الكبير بصنعاء القديمة، بسبب ازدحام المدينة التاريخية، وتصنيفها ضمن التراث الإنساني العالمي، باعتبارها من أقدم مدن العالم، ما يحرم إجراء تعديلات على معالمها الأثرية التي يعد الجامع أشهرها.
ولكن لم يتبدد حلم الرئيس السابق بفضل إصراره على الحاجة الماسة إلى بناء مشروع يبرز إبداعاً فريداً يتخطى الحاضر ليبقى شامخاً في الأزمنة المقبلة, فأتى قراره بإنشاء جامع جديد في العاصمة صنعاء يكون معلماً تاريخياً يبرز فن العمارة اليمنية, ويمثل الدين الإسلامي المعتدل خير تمثيل بعيداً عن التطرف, ويصبح شاهداً على نهضة اليمن في حقبته الزمنية هذه.

6 منارات و23 قبة
اختيرت منطقة السبعين وسط العاصمة صنعاء، مكاناً لبناء الجامع، حيث خصصت له مساحة شاسعة تبلغ 224.813 متراً مربعاً فيها مبنى الجامع بقاعة الصلاة التي تتسع لحوالي 20 ألف مصلٍّ، وكلية الصالح لعلوم القرآن الكريم واللغة العربية والدراسات الإسلامية التي أتى إنشاؤها بهدف إعادة البريق لمعالم الدين الحنيف الذي طمست الوهابية معظمه, وبها 25 فصلاً دراسياً يسع 600 طالب وطالبة، بالإضافة إلى مكتبات وقاعات صلاة وقاعة اجتماعات, وأيضاً أصواح الجامع ومواضئه وصرحه الخارجي بمساحاته الخضراء ومواقف كبيرة للسيارات.
ويتميز الجامع بـ6 منارات عملاقة، 4 منها يبلغ طولها 106 أمتار حفرت لها أساسات عميقة بطول 35 متراً لتعمل على تقوية البناء وتجعله مقاوماً للزلازل والعوامل الطبيعية الأخرى, واثنتان بطول 80 متراً.
ويحتوي سقف المبنى على 23 قبة، واحدة منها كبرى وقطرها 28 متراً، و4 قباب متوسطة قطر كل منها 16 متراً، و4 صغرى قطر كل واحدة 9 أمتار, يضاف إليها قبة لمصلى النساء، وقبة للمدخل الجنوبي، و10 قباب للمداخل الشرقية والغربية، وقبتان لمدخلي المواضئ.
وللجامع 15 باباً مقسمة بالتساوي لمداخله الثلاثة الشرقية والغربية والجنوبية، عرض كل واحد منها 3,30م، وارتفاعه 5,60م.

مواد بناء الجامع
قضت توجيهات الرئيس السابق بوجوب المحافظة على الطابع العمراني اليمني، خصوصاً لمنارات الجامع وواجهاته الحجرية, فكان الجامع الكبير الملهم الأساسي للمهندسين الذين راعوا تلك التوجيهات، واستخدموا مواد محلية في عملية البناء.
وتم اختيار تلك المواد بكل دقة، ونظراً لأهمية المشروع الدينية والتاريخية، جرى اختبار خواص المواد لمعرفة مدى مطابقتها للمواصفات العالمية، وللحصول على مواد تستطيع مواجهة كافة الظروف.
فالخرسانة المسلحة التي تعد المحلية الأجود في العالم هي المكون الأساسي للهيكل الحامل الجزء الرئيس والأهم في الجامع.
ولأن القائم على المشروع حرص على أن تكون مواد بنائه محلية، لا سيما الرئيسية منها كالأحجار والجرانيت والرخام، فقد تم البحث على مصادر جديدة لتلك المواد، وبالتالي اكتشفت مقالع أحجار لم تكن موجودة من قبل.
وهكذا ظهرت مجدداً الأحجار التي اشتهر اليمانيون باستخدامها في تشييد حصونهم وقلاعهم, ولهذا تمت زيارة سد مأرب وعرش بلقيس، وأخذ عينات من أحجار بنائها لمطابقتها مع المستخدمة في بناء الجامع.. وبعد موافقة الرئيس الصالح على العينات المختارة من الأحجار، استخدمت الجيرية البيضاء في الواجهات الخارجية، أما الحمراء ففي الأحزمة الزخرفية للواجهات فقط، نظراً لقلة كمياته وصغر أحجامه، فحجم الحجر المطلوب في البناء كان لا يقل عن 160 سنتيمتراً للطول و80 سنتيمتراً للعرض, واعتمد الجرانيت الأحمر المنقط بالأبيض كحلة ترتديها أعمدة الجامع الداخلية البالغ عددها 112 عموداً.
وبالنسبة للياجور المميز للعمارة اليمنية والمتميز بعمره الافتراضي الطويل، فقد اختير لكساء واجهات المنارات حفاظاً على عراقة التراث المعماري, أما الأعمال الخشبية للجامع فقد تم استيحاؤها من صميم التراث الفني اليمني، ليجري اعتماد أجود أنواع الأخشاب ذات المواصفات العالمية لصنع الأبواب وزخرفتها بالخط العربي، وتطعيمها بالنحاس المعالج بأحدث التقنيات. أما السقوف الخشبية التي يفوق عددها 30 ألف قطعة زخرفية، فقد تم تعتيقها بالذهب الخالص، وتثبيتها على ارتفاعات وصلت إلى 23 متراً.
كما لم يغفل القائمون على تنفيذ المشروع إضفاء أبرز خواص العمارة اليمنية إلى المنشأة، وهي القمريات التي تتحدث المعلومات عن أن استخدام اليمنيين لها يعود إلى قبل 4000 عام, ومع أن التطور الحديث قد دخل على صناعتها، إلا أنها ما زالت محافظة على المواد الداخلة في صناعتها، وهي الجص الناتج عن حرق الحجر الجيري, والزجاج الملون، وكلاهما يجعلانها تؤدي وظيفتها المعهودة بإدخال الضوء الطبيعي الملون إلى قاعة الصلاة في الجامع.
واستحوذت الزخارف الإسلامية على مساحة ليست بالهينة من بنيان جامع الصالح, حيث نُحتت على جدران قاعة الصلاة وكلية علوم القرآن 730 آية قرآنية مقتبسة من 62 سورة كريمة، وبلغ عدد السور المكتملة 8 سور.

معلم حضاري
استغرق بناء جامع الصالح قرابة 8 أعوام حتى اكتملت ملامحه, فقد بدأ العمل على المشروع في بداية 2001 بأيدٍ يمنية من مختلف محافظات الجمهورية، وبإشراف شركات هندسية محلية وعالمية، واستمر حتى عام 2008م، حيث شهدت عاصمة الحضارة العربية ولادة معلم فني ديني معاصر كلفة إنجازه - حسب معلومات غير دقيقة - بلغت 60 مليون دولار, لديه القدرة على نحت اسمه والمحافظة عليه في الأزمنة القادمة، ليدونه التاريخ حينها كمعلم أثري يدل على عظمة الحضارة اليمنية, ويؤكد على أن اليمن ليست طفرة نفطية أو غازية شيدتها الأموال, بل حضارة شيدها الإنسان اليمني، وامتدت منذ قرون، وستبقى إلى الأبد.
ويرى كثيرون أن جامع الصالح يعد درة لقلب المؤمن الباحث عن حقيقة الدين، وعين الناظر الساعي للاستمتاع بسحر العمارة اليمنية, وكما وضح الرئيس السابق في أحد خطاباتها حينها أن هدف بناء هذا الصرح العملاق هو إعادة صياغة وظيفة المساجد الحقيقية التي أمر بها الإسلام، وهي التوعية والإرشاد الديني المعتدل, معللاً حينها ذلك بأن المنطقة العربية واليمن أحد أقطارها لا تحتمل التطرف، ومن هنا بدأ المتطرفون ينظرون إلى هذا البناء بنظرة سلبية خلاف بقية المواطنين.

الوهابية تفشل في النيل من الجامع
لقد حاول الوهابيون تغيير اسم الجامع من الصالح إلى الشعب إبان أحداث فبراير 2011م، مبررين ذلك بأن الرئيس السابق هدف من بنائه للجامع وتسميته باسمه إلى تخليده في التاريخ, غير أنهم فشلوا في هذا، وبحسب حديث بعض موظفي الجامع فإن الإصلاحيين أطلقوا عدة شائعات للنيل منه، منها أن تحته سجناً مخفياً ومخازن للأسلحة، وأن به سراديب موصولة بدار الرئاسة ومناطق أخرى, وهذا أفضى إلى محاصرة الجامع من قبل حرس الفار هادي أثناء توليه رئاسة الجمهورية.
وأضاف الموظفون أن سبب حقد الإصلاح على الجامع هو أن منبره لم يقع تحت سطوة لحاهم وخطبهم لينشروا الوهابية المتطرفة والمشوهة للإسلام من خلاله، كونه في أكبر صرح ديني في اليمن, كما هو حال بقية المساجد التي وقع معظمها فريسة في أيدي أولئك المتجردين من الإنسانية، حتى أنقذتها ثورة الشعب في 21 سبتمبر، بقيادة أنصار الله. ويحظى جامع الصالح حالياً بحب المواطنين، ويعتبرونه وجهتهم الروحانية الأولى، خصوصاً لسكان العاصمة, فهو لم يغلق أبوابه رغم تضرره من قصف طائرات العدوان الأمريكي السعودي الوهابي التي تعمدت استهداف مناطق خالية بجواره لتلحق ضرراً كبيراً به يهدد أساساته في حال استمرت في هذا.
الحاج يحيى محمد (60 عاماً) التقت به صحيفة (لا) في جامع الصالح، يقول إن هذه المرة الأولى التي يزور فيها الجامع، وهو مندهش فعلاً مما رأته عيناه وشعرت به روحه فور دخوله بوابة هذا الصرح. معبراً عن الارتياح الكبير الذي شعر به في الجامع، والذي وصفه بأنه أكبر من ذلك الذي شعر به في المسجد الحرام والمسجد النبوي, معللاً ذلك بأن جامع الصالح لم يقتل أحداً، بينما من يوجد لديهم المسجد الحرام والمسجد النبوي هم من يصدرون فتاوى بقتلنا ليلاً نهاراً.
ويرى كثير من المواطنين أن جامع الصالح وجهتهم الروحانية الأولى هم وأطفالهم, محمد السفياني (38 عاماً) مدرس لغة عربية، يقول: أجد في هذا الجامع راحتي وراحة أطفالي, فأنا ساكن بجواره، وعندما آتي للصلاة آخذ زوجتي وطفليَّ معي، فالجامع به مصلى للنساء ومساحة خضراء واسعة تستطيع عائلتي الجلوس فيها عقب الصلاة كي يلعب الأطفال ويمرحوا, بالإضافة إلى أن كلية علوم القرآن الموجودة فيه تغنينا عن إرسال أبنائنا إلى حلقات التحفيظ الإصلاحية التي كانت منتشرة في معظم المساجد لتحفهم ملائكة الإرهاب. مضيفاً أن معاناته من تلك الحلقات كبيرة، فأخوه الذي درس فيها على أيدي الوهابيين لقي حتفه وهو يقاتل الوطن إلى صفهم وصف الغزاة, مشدداً على أنه لن يسمح لهذا الأمر أن يتكرر مع أولاده.