تكاد تكون الساعات التي يقضيها سكان الحديدة تحت المكيف هي الأوقات الأكثر قدسية وروحانية برغم قلتها، حيث تشهد المحافظة - كعادتها - صيفاً ساخناً بالتزامن مع الشهر الفضيل.
لقد حاولنا رصد الجوانب المختلفة للأجواء الرمضانية في المحافظة من خلال استطلاع العديد من الآراء، إلا أننا نصطدم في كل مرة بمشكلة الحر الشديد مع انقطاع الكهرباء، حيث أصبح هو الهم الأول والأكبر لدى المواطنين، ففي ظل الحصار لم يعد رمضان شهراً استهلاكياً كما كان، وأصبحت قطعة الثلج هي السلعة الأولى.
يُجمع الغالبية هنا على أن أجواء رمضان جميلة لولا الحر، ويتحدث إلينا أحد الشباب: (صحيح أن الجو نهاراً لا يطاق، لكن لا ينكر أحد أن رمضان في الحديدة يختلف كثيراً عن بقية المحافظات، حيث فعاليات كرة القدم تقام صباحاً ومساء).
ولعل أكثر ما يميز رمضان في هذه المدينة هي السهرات المسائية في الأحياء القديمة، والتي تحدث بعيداً عن صخب التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة.
ويرى البعض في الحر فرصة لنيل الأجر الكبير لقاء الصبر والتحمل، كما يرى الكثيرون في رمضان موسماً لبيع المأكولات والمشروبات، بالإضافة للألبسة، ويستغل البعض الآخر رمضان في بيع الثلج وقوارير الماء المثلجة، حيث يشهد الشهر ازدحاماً شديداً على محلات بيع الثلج.
وبدأت حركة التسوق بالتحرك قليلاً مع البدء في صرف القسائم السلعية برغم ما شابها من مشاكل.
التقينا بـ(جعفور) بائع (الخاجلة)، نوع من الحلويات الشعبية، في منطقة (الحوك)، وتحدث إلينا قائلاً: (لقد توقفنا في العام الماضي، ونريد أن نعوض في هذا الموسم، الحمد لله فالطلبيات في تزايد).
وتعرف هذه المنطقة كذلك بالإقبال الكبير على شراء (الكراوع)، خاصة في الشهر الكريم. ومن اللافت أيضاً الانتشار الواسع لإعلانات المأكولات الرمضانية على مواقع التواصل الاجتماعي، كالسمبوسة وغيرها من المأكولات الشعبية.

هجرة جماعية
سافر العديد من سكان الحديدة إلى المناطق المرتفعة التي تشهد أجواء معتدلة، وعاد البعض إلى قراهم، وآخرون اختفوا في ما يشبه موجة نزوح جماعي نحو صنعاء وكذلك إب فراراً من جحيم الصيف.
(محمد داغم) موظف في جامعة الحديدة، يقول: (لم أعد أحتمل.. يومان مرا كأنهما شهران). وقال في ما يشبه المناجاة: (شاسرح بلاد الله.. إب).
وأضاف: أكثر من صديق بعث إليَّ قبل التهنئة بقدوم الشهر: (هيا نسافر قبل رمضان).

مساجد للنوم
تنتشر ظاهرة النوم في المساجد المكيفة خلال شهر رمضان، وتمتلئ المساجد بالمفترشين والنائمين، خاصة في وقت الظهيرة، وكانت العديد من المساجد في الحديدة قد زُودت مؤخراً بمولدات كهربائية ومكيفات معظمها تبرع بها فاعلو الخير من تجار ورجال أعمال.

تضامن اجتماعي نبيل
وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي تضامناً كبيراً مع سكان الحديدة نظراً لارتفاع درجة الحرارة، حيث بلغت 40 مئوية، وانتشرت التسلخات الجلدية والطفح، خصوصاً لدى الأطفال. وتضامناً عبر الكل عن أسفه العميق وإحساسه بحجم المعاناة، في صورة إنسانية وأخوية فريدة.

برغم كل شيء لرمضان نكهته الخاصة
قابلنا (أسامة عايش) ناشط شبابي، ورئيس منظمة، حيث قال: (برغم كل شيء تظل لرمضان نكهته الخاصة). وواصل حديثه أن (رمضان يشهد تكاتفاً وتراحماً كبيرين، وتنافساً على الإنفاق لصالح الأعمال الإنسانية، وهذا من أسباب تسهيل الحياة في هذا الشهر، وتحمل مشاق الصوم بفضل رحمة الله).
وأضاف: (نقوم حالياً بتنظيم إفطار شبابي لشخصيات شبابية فاعلة، وكذلك إفطار للسيدات، كما قمنا بتوزيع 100 سلة غذائية لأسر محتاجة، بالإضافة لدعمهم بالمستلزمات الضرورية وتوزيع وجبات جاهزة لعائلات فقيرة، ونسعى لتقديم المزيد، حيث نحن بصدد تدشين مشروع (سقيا الماء) خلال الشهر الفضيل).

مبادرات ونشاطات إنسانية
ويشهد الشهر نشاطاً ملحوظاً ومتزايداً للأعمال الخيرية والإنسانية من توزيع الوجبات الغذائية ووجبات الإفطار، وكذلك الأعمال الإغاثية عن طريق توزيع السلل الغذائية، كما تم توزيع 80 ألف سلة غذائية برعاية المحافظة.
وأطلق شباب وناشطون من الحديدة العديد من المبادرات الإنسانية لتوفير احتياجات ومتطلبات معيشية للأسر الفقيرة، حيث تم إجراء مسح ميداني لتحديد الأسر المحتاجة، وذلك بجهود شبابية ذاتية.
كما شملت بعض المبادرات توفير بطاريات وألواح شمسية لمواجهة الصيف اللافح.

الحرف في مواجهة الحرب
أقيمت في رمضان العديد من الأنشطة والفعاليات من ألعاب وإنشاد ومسابقات رمضانية للقرآن الكريم، وكذلك أنشطة المشغولات اليدوية للأمهات.
كما شهد رمضان إقامة أمسية ثقافية أدبية وشعرية أقامتها نقابة المحامين فرع الحديدة، بالتعاون مع فرع اتحاد الأدباء والكتاب، بعنوان (الحرف في مواجهة الحرب).

من الكوليرا إلى الفشل الكلوي
مع بداية رمضان توفي 5 أشخاص بعد توقف مركز الغسيل الكلوي بسبب نفاد المحاليل، وكان 15 شخصاً أصيبوا بالفشل الكلوي بعد تعافيهم من الكوليرا التي ضربت المحافظة مؤخراً.

الكهرباء وأحلام العودة
بدأت الترتيبات لتشغيل محطة الكهرباء المركزية في رأس كتيب والمحطات الفرعية في إطار الإمكانيات المتاحة، وبتنسيق الجهود مع قيادة محافظة الحديدة، لإيجاد حلول ممكنة لتشغيل المحطات الكهربائية بالمحافظة وإعادة التيار الكهربائي لها قبل قدوم شهر رمضان المبارك، لتخفيف معاناة أبناء المحافظة، وتعزيزاً لصمودهم، حيث كان المجلس السياسي الأعلى وجه بإعادة التيار الكهربائي، وكان مدير فرع شركة النفط في الحديدة وجه بصرف 100 ألف لتر ديزل لكهرباء المحافظة كدفعة أولى، إلا أن محاولات إعادة التيار الكهربائي اصطدمت بالكثير من العراقيل، منها فصل الأسلاك عن المنازل بسبب استخدام الشبكة العمومية من قبل أصحاب المولدات التجارية، وكذلك (كربنة) الأسلاك بسبب التوقف الطويل، بالإضافة لحوالي 30 محولاً مفقوداً أو خارج الخدمة. علماً أن الطاقة الشمسية قد خففت كثيراً من معاناة السكان مقارنة برمضان الفائت.
ولجأ الكثير من أبناء مدينة الحديدة إلى الكورنيش للترويح وللاستبراد، أما الفنادق فقد امتلأت تماماً، حيث يتشارك 5 أو 6 أشخاص غرفة واحدة مكيفة كحل مؤقت خلال شهر الصوم.

إلا الماء
بالنسبة لسكان الحديدة فإن كل مصيبة تهون مقابل مصيبة انقطاع المياه، حيث تحدثنا إلى (سعيدة عبدالعزيز) ربة أسرة كانت تعمل على نقل الماء بواسطة أوعية بلاستيكية، وسألناها عن مشكلة المياه فأجابت: (تنقطع الكهرباء ولا ينقطع الماء, نحن في الحديدة بحاجة كبيرة إلى الماء، فالاغتسال مرتين يومياً على الأقل، والملابس تتسخ بسرعة بسبب التعرق المتواصل، وبالنسبة للماء فهو متوفر، إلا أن الدفع ضعيف بسبب توقف محركات الدفع، ولا يصعد الماء إلى البرميل إلا في حالات نادرة، وعندما يشغل الجيران مضخات الماء فإنه ينقطع تماماً، ونحن كالكثيرين لا نستطيع توفير دينامو لرفع الماء، وإن توفرت تبقى مشكلة وصلها بتيار كهربائي، ونضطر في رمضان إلى تعبئة المياه في الصباح، مما يصعب علينا مهمة الصيام).